التفكير العلمي في المستقبل

أ.د. مازن الرمضاني*

الإنسان كائن يفكر. بيد أن هذه الحقيقة الإنسانية لا تلغي أن الإنسان يتأثر بمتغيرات مهمة، كالعمر أو التجربة، أو الثقافة، أو البيئة، أو بعضها، أو جميعها، وبمحصلة تفضي به إلى أن يتبنى نمطاً من التفكير قد يستوي، إو لا يستوي، ومضمون التفكير العلمي.

ويرى فؤاد زكريا، إن كل تفكير لا يصبح علميأ، إلا إذا كان منظمأ. ومع أهمية هذه الخاصية الآساسية، نرى أن التفكير المنظم لا يصبح نافعأ إلا إذا كان غائيأ، بمعنى هادفأ. ومن هنا، نرى أن التفكير العلمي يعبر عن نشاط عقلي منظم يتخذ من المنهجية العلمية مدخلآ أساسيأ لتحقيق ثمة شيء مرغوب به سواء كان خاصأ أو عامأ. وبهذا المعنى يجسد التفكير العلمي أعلى مستويات التفكير الإنساني حتى الآن.

ولا ينتقص من أهمية التفكير العلمي وجدواه واقع إستمرار الإنسان ، هنا وهناك، في الآخذ بأنماط من التفكير تلغي دور العلم. ولا يقتصر هذا الواقع على الدول المتأخرة أو المتخلفة، وإنما يشمل أيضأ الدول المتقدمة وتلك السائرة في طريق النمو. ففي جميع هذه الدول تعد الإستعانة بالعرافين، وقراء الكف، والفنجان، مثلآ، ظاهرة تجد من يساعد على إنتشارها.

وقد نجم الآخذ بالتفكيرالعلمي في المستقبل عن حصيلة تأثير مجموعة مدخلات مهمة أدت مخرجاتها إلى أن تتعايش الإنسانية مع عملية تاريخية فريدة من نوعها جراء إنتشار تأثيرها وشمولية تحدياتها، وإنفتاح نهاياتها. وقد سبق أن أطلق عليها المفكر العربي أنور عبد الملك تسمية عملية تغيير العالم. وقد كان صائبأ في تشخيصه لمعطياتها، ودقيقأ في تسميتها.

إن هذه العملية التي لا يستطيع المرء حتى الافتراض بإحتمالية تراجعها و/أو حتى تباطؤ معدل تسارع وتيرتها في قادم الزمان، هذا لإنتفاء تلك المؤشرات التي تفيد بذلك، قد ادت إلى عالم يكاد يكون نقيضأ لعالم أباؤنا ولا نتكلم عن عالم اجدادنا. فالإنسانية صارت تتعايش مع إنجازات وإبتكارات حضارية متجددة تثير مخرجاتها في المرء مختلف المشاعر والآحاسيس من إعجاب ورهبة وذهول.

 وقد ادى تباين التطور الحضاري للمجتمعات المعاصرة، بين متقدمة، أو سائرة في طريق التقدم، أو متاخرة، أو متخلفة، إلى أن تتباين أنماط إستجابتها للتحديات التي تفرزها عملية تغيير العالم.ويؤكد واقع عالمي الشمال والجنوب هذا التباين.

فأما عن مجتمعات دول عالم الشمال فقد أفضى الإدراك المبكرلكثير منها لتحديات عالم يتغير بسرعة، وحاجتها إلى الإرتقاء بإستجابتها الحضارية إلى مستوى هذه التحديات، تأمينأ لمستقبل أفضل من الحاضر أفضى إلى أن تأخذ، ومنذ منتصف القرن الماضي تقريبأ، بنمط من التفكير جعل من توظيف المنهجية العلمية سبيلآ محوريأ لإعادة تشكيل العقل، وترشيد القرار والفعل، استشرافأ لمشاهده البديلة وإستباقأ وإستعدادأ للمستقبل. ويسمى هذا النمط من التفكير بالتفكير العلمي في المستقبل. أما تطبيقاته العلمية، فتسمى على صعيد جل دول العالم، بدراسات المستقبلات. وبهذه التسمية يراد الإشارة إلى أن الإهتمام يتجه إلى استشراف المشاهد الممكنة والمحتملة و/أو المرغوب بها للمستقبل وليس سواها. وعلى خلاف ذلك تنتشر في الوطن العربي تسميات الدراسات المستقبلية، أو دراسات المستقبل. وتفيد التسمية الأخيرة بمعنى أن المستقبل لا ينفتح إلا على مشهد واحد ولا غير، وهو الأمر الذي يتقاطع ومعنى تسمية دراسات المستقبلات.

ويشيرواقع مجتمعات دول عالم الشمال إلى أن التفكير العلمي في المستقبل صار يمثل ممارسة مهمة تأخذ بها جل مؤسساتها الرسمية والخاصة، وترعاها جمعيات ومراكز علمية متخصصة ورصينة، فضلآ عن حرص جامعات ذات شهرة عالمية على تضمينها في برامجها التدريسية، ومنح شهادات عليا )ماجسير ودكتوراه( في التخصص العلمي الذي يعبرعنها.

وأما عن واقع هذا التفكير في مجتمعات دول عالم الجنوب، فهو يفيد إنه لا يحظى، عدا تلك الدول السائرة في طريق النمو والعديد من الدول المتأخرة في هذا العالم، إلا بإهتمام بعض نخبها الواعية. وجراء هذا الواقع تنتشر في جل هذه المجتمعات رؤى تستمد اصولها من التفكير ما قبل العلمي و كذلك أنماط سلوكية تغالي في تمجيد الماضي و/أو تجعل من الإنحياز إلى الحاضر أولوية خاصة. كما هو الحال مثلآ مع مجتمعنا العربي.

 وتتعدد المتغيرات التي أفضت إلى ما تقدم. ونرى أن جلها ينبع من واقع التخلف الحضاري لهذه الدول وصعوبة تحررها من مخرجاته. وبهذا الصدد، يقول هادي نعمان الهيتي :«… إن المجتمعات التي تعاني من التخلف سيكون أمر إرتقائها عسيرأ، ذلك أن أمر إرتقائها قد تضاعفت متطلباته…«

لذا لم يؤد التأخر أو التخلف الحضاري لجل دول عالم الجنوب إلى تعطيل تنميتها الشاملة فحسب وإنما أيضأ إلى أن تمهيد السبيل إلى أن يكون مستقبلها إمتدادأ لتأثير معطيات واقعها الراهن. ومع ذلك لا تعني هذه الإحتمالية العالية أن مستقبل هذه الدول قد تحدد سلفأ وإنها لا تستطيع تغيير واقعها بالمطلق.

 وتؤكد تجارب مجموعة دول في عالم الجنوب، كانت يومأ متأخرة أو متخلفة حضاريأ، صحة منطوق فرضية تقول : إن الإرتقاء الحضاري يبدأ من التخطيط للمستقبل إنطلاقأ من الحاضر. فهذا التخطيط والحرص على الآخذ به هو الذي يحد من تأثير كوابح النهوض، ويسهل الإرتقاء التدريجي بالواقع إلى مستوى الدول السائرة في طريق النمو. ويكفي أن نتذكر، مثلآ تجارب ماليزيا وسنغافورة.

وكأحد تفرعات التفكير العلمي يكاد الرأي يتفق على أن بداية الآخذ بالتفكير العلمي في المستقبل قد تزامنت مع بداية الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي في عام 1947. ولا يلغي ما تقدم أن جذور هذا التفكير تعود من حيث الزمان إلى ما قبل هذا التاريخ. ولنتذكر أن التفكير الإنساني في المستقبل قد مر بمراحل متعاقبة، ومنها مرحلة التفكير الخيالي العلمي في المستقبل. فكثير من الإنجازات العلمية التي تحققت في القرن الماضي، والتي قد تتحقق في القرن الحالي، كانت، أو ستكون، حصيلة لهذا التفكير. وقد تناولنا هذا التفكير في مقالنا المنشورفي عدد أيلول الماضي من مجلة الحصاد.

 ويتقابل شبه الإتفاق على تاريخ بداية الآخذ بالتفكير العلمي في المستقبل مع إختلاف بشأن مكان إنطلاقته. فبينما يؤكد كثير من المستقبليين إنه بدأ أولآ في الولايات المتحدة الأمريكية، يقول أخرون إن بدايته كانت من فرنسا. وبجانبهما يرى فريق ثالث، أن هاتين الدولتين كانتا موطن هذا التفكير وفي زمان واحد تقريبأ. ونحن نتفق مع هذا الرأي.

وعلى الرغم من بدايته في منتصف القرن الماضي، إلا أن التفكير العلمي في المستقبل لم يتبلور على نحو واضح إلا منذ عقد الستينيات من القرن الماضي صعودأ. فهذا العقد شهد بداية صدور مؤلفات أصيلة في الموضوع، ومنها مثلآ مؤلف المستقبلى الفرنسي ، برتراند دي جوفينيلBertrand deJouvenell ، 1987-1903، بعنوان فن الرجم بالغيب )The Art of Conjecture( والصادر في باريس باللغة الفرنسية عام 1963، والذي تؤكد عدة أراء على أنه يعد أهم المؤلفات الآولى التي تناولت وبعمق دراسات المستقبل ومنهجيتها.

وكذلك شهد بداية تأسس جمعيات علمية ترعى هذا التفكير، ومنها، مثلآ، جمعية مستقبل العالم الأمريكية ) Future World Society(، التي تأسست في عام 1966، هذا فضلا عن تسارع صدور مجلات علمية متخصصة في دراسات المستقبلات، ومنها، مثلآ، مجلة المستقبلي )ا ) The Futurist الأمريكية.

وقد تباينت المدخلات، التي أدت إلى الآخذ بالتفكير العلمي في المستقبل من دولة إلى أخرى. فبينما كان ضمان الآمن القومي هو الدافع الآساس في الولايات المتحدة الأمريكية، كانت بالمقابل قيم الحرية وإعادة البناء بمثابة الحافز المباشر في فرنسا. أما في الإتحاد السوفيتي السابق فقد تجسد هذا الحافز في الحاجة إلى دعم عمليات إتخاذ القرار بدراسات مستقبلية سابقة عليها وداعمة لها. ولتباين هذه المدخلات نبع الحديث عن مدارس أمريكية وفرنسية وسوفيتية )سابقأ( في استشراف مشاهد المستقبل بمفاهيمها ومقارباتها المختلفة. وسنعود إلى الحديث عن هذه المدارس لاحقأ وتباعأ.

وقد أدت لاحقا مجموعة مدخلات متنوعة المضامين إلى إقتران دراسات المستقبلات بإهتمامات أخرى، غير تلك التي انطلقت منها أبتداءً، وهوالأمر الذي جعل هذه الدراسات تمتد لتشمل جل جوانب الحياة . ويرى المستقبلي الأمريكي، ويندل بل Wendell Bell إن هذا التطور كان محصلة لتأثير ستة مدخلات مهمة، وكالآتي :

، أولآ، تأثيرإستمرار التطور التكنولوجي في الدفع باتجاه التغيير الإجتماعي وبروز الحاجة إلى التكيف مع معطياته. وثانيأ، إنتشار الآخذ بفكرة التخطيط بعيد المدى سبيلآ للإستعداد للمستقبل. وثالثأ، حصول العديد من شعوب قارات أفريقيا وأسيا وأمريكا الجنوبية على إستقلالها السياسي ونزوعها إلى تحقيق التنمية. ورابعأ، تطور المقاربات المنهجية المستخدمة في دراسات المستقبلات وخامسأ، نمو جماعات التفكير( Think Tank( عدديأ وبروز تأثيرها.وأخيرأ، تأثير دراسة حدود النمو ) Limits to Growth (، الصادرة عن نادي روما في عام 1972، في دفع التفكيرالعلمي في المستقبل إلى الآخذ بمقاربة علمية شاملة ومتعددة المناهج وبأفاق زمانية تمتد إلى المستقبل البعيد وغير المنظور.

على أن التطور شبه المستمر للتفكير العلمي في المستقبل، منذ منتصف القرن الماضي، لم يحل دون إستمراره مقترنأ بالعديد من الإشكاليات، ومنها مثلا إشكالية مفهوم المستقبل، وأشكالية موقع دراسات المستقبلات في البنيان المعرفي.

فأما عن إشكالية مفهوم المستقبل، فالعديد من المستقبليين يستخدم هذا المفهوم بمعنى لغوي محدد. فمثلا يرى المستقبلي الأمريكي جيمس داتور: أن »… المستقبل هو الحاضر في زمان لاحق«. وكذلك ترى المستقبلية الإيطالية اليونورا بي. ماسيني أن المستقبل: هو »… الزمان القادم.« أما عربيأ،  مثلا وليد عبد الحي : »أن المستقبل يمثل » …الآتي بعد الحال، أي أنه الحلقة الأخيرة في السلسلة الزمنية التي تبدأ بالماضي ويتوسطها الحاضر…«

ونرى أن المستقبل وأن يعد، موضوعيأ، بمثابة البعد الأخير من أبعاد دورة الزمان، إلا أن إدراك المستقبل بمعناه اللغوي و/أو الآلي يبقى ناقصأ وكذلك عاجزأ.

 فهو ناقص، لآن المستقبل يعبر عن مستلزم وجودي. ويشرح، حسن صعب، مضمون هذا المستلزم قائلآ: إن »… المستقبل مسؤولية إنسانية خلاقة. فالمستقبل هو الإنسان بزمانه ووجوده وتصوره وإبداعه وسلوكه…« لذا تنطوي رؤية المستقبل كمجرد إمتداد آلي لحركة الزمان على إلغاء لقدرة الإنسان على التحكم بمسارمستقبله وصناعته على وفق رؤيته الواعية وإرادته الحرة.

وهو عاجز، لآن إدراك المستقبل بالدالة اللغوية لا يساعد على الإجابة على سؤال مهم، هو: هل يستوي المستقبل وتلك المادة السائلة التي تتقدم في إنسياق متناسق وعلى إمتدادها تتنظم الآحداث، وبالتالي يضحى المستقبل مجرد إمتداد خيطي لمعطيات الحاضر، سواء كان هذا مشرقأ أم بائسأ ، أم إنه سيقترن بمشاهد بديلة يختار الإنسان منها ما يريد ؟

وللمأخذ العديدة على الإدراك الآلي لمفهوم المستقبل. نرى أن الإدراك الحضاري له يعد بمثابة البديل الآجدى والانفع. وبدون الدخول في تفاصيل المتغيرات التي تستدعي مثل هذا الإدراك، نفهم المستقبل بدالة الزمان القادم مجددأ للماضي والحاضر على وفق رؤية إنسانية واعية وإرادة حرة.

بيد أن مفهوم المستقبل، سواء تم إدراكه بمعناه اللغوي )الإلي( أو الحضاري، يبقى مفهومأ إشكاليأ، وذلك لعدد من الحقائق، ومنها مثلآ الاتي . فهو، أولآ، يعبر عند لحظة التفكير به عن زمان لم يحن بعد، وبالتالي لا وجود له موضوعيأ. وهو، ثانيأ، غير معروف لعدم توافر معرفة مؤكدة، أو شبه مؤكدة عنه في الحاضر. وهو، ثالثأ، لا يتماثل وتلك الظواهر الطبيعية وسواها، التي تتحرك على هدى نمط ثابت ومتكرر، وهو الأمر الذي يساعد على استشراف مخرجات حركتها بدقة عالية.

 بيد أن تأثيرإشكالية مفهوم المستقبل لم تعد حادأ كما كان في وقت سابق. فمجموعة أخرى من الحقائق ادت إلى تآكل هذا التأثير وإن لم تلغيه، وكالأتي :

أولآ، إضافة إلى أن عدم حلول المستقبل في لحظة التفكير به لا يلغي جدوى التبصر به مسبقأ، يعد المستقبل، وعلى خلاف الماضي، هو الفضاء الزماني البكر الذي يمكن صياغة مشاهده إنطلاقأ من الحاضر إن توافرت المستلزمات الموضوعية والذاتية لذلك.

ثانيأ، إن الماضي بحقائقه والحاضر بمعطياته لا يكتسبان أهمية خاصة، كما يؤكد المستقبلي الأمريكي بريخر، إلا بقدر علاقتهما ببناء المستقبل وإستشراف مشاهده، إستباقأ وإستعدادأ. ولآن المعرفة بحقائق الماضي ومعطيات الحاضر صارت متوافرة، ولاسيما في مجتمعات المعرفة، أضحت سهولة الوصول اليها مدخلآ داعمأ لاستشراف مستقبلي يتمتع بالمصداقية.

ثالثأ، إن جل دراسات المستقبلات المعاصرة لم تعد تجعل من التنبوء القاطع والجازم بالمستقبل محط إهتماماتها، وإنما صارت تأخذ بفكرة إنفتاح المستقبل على عدد من المشاهد البديلة وهو الأمر الذي دعم استشراف المستقبلات بمدخل مهم مضاف.

وإما عن إشكالية موقع دراسات المستقبلات في البنيان المعرفي، يفيد واقع هذه الدراسات إنها تتوافر على تلك الشروط التي تفضي عليها سمة العلمية. اي الموضوع والمقاربة المنهجية والغاية. ولم تحل هذه السمة دون إستمرار الجدل بين المستقبليين بشأن موقع هذه الدراسات في البنيان المعرفي. وقد دار هذا الجدل حول تساؤل مهم، هو: هل أن هذه الدراسات تستوي والعلم، أم تستوي والفن، أم هي دراسة بينية؟

وقد تباينت الإجابات بين قائل إنها علم كبقية العلوم الآخرى، وقائل إنها ليست إلا أحد الفنون، وقائل أخر أكد إنها مجال معرفي يحتضن خصائص العلم والفن في أن. ونرى أن الفيصل بين هذه الاراء المتضاربة يكمن في مدى تماهي مفهوم دراسات المستقبلات وتعريف العلم. فمثلآ يقول قاموس أوكسفورد عن مفهوم العلم إنه »… كل نشاط فكري وعملي يتضمن الدراسة النظامية لحقيقة محددة عبر إستخدام الملاحظة والإفتراض والتجريب والبرهنة إستنادأ إلى معطيات يمكن التحقق منها وإثباتها.«

وغني عن القول أن العديد من عناصر هذا التعريف لا ينسحب على دراسات المستقبلات. ومن هنا، عمد مستقبليون إلى عدم سحب سمة العلم عليها. فمثلآ أكد المستقبلي الفرنسي برتراند دي جوفينيل أن »…المستقبل ليس عالم اليقين، بل عالم الإحتمالات، )ولأن( المستقبل ليس محددأ يقينيأ، فكيف يكون موضوع علم من العلوم«. أما عربيأ، فيرى المستقبلي العربي المهدي المنجره وبما يفيد أن هذه الدراسات ليست بعلم حتى وإن إستعانت بمقاربات منهجية من حقول معرفية متعددة

وانطلاقأ من تأكيد جمعية مستقبل العالم الأمريكية أن دراسات المستقبلات تتضمن مساهمات متعددة المضامين : فلسفية وفنية وعلمية، راح العديد من المستقبليين إلى إدخالها ضمن الدراسات المسماة بالبينية، التي تتميز بالتفاعل الإبداعي بين مجموعة من حقول المعرفة. وإلى ذلك يذهب أيضأ محمد بريش، الذي يعد أحد القلة من المستقبليين العرب، إلى القول: » إن هذه الدراسات تجمع بين العلم والفن.«

وعلى الرغم من عدم تصنيف دراسات المستقبلات كعلم في الوقت الراهن، يلاحظ إستمرار إتجاه جل الباحثين العرب في الموضوع إلى إضفاء هذه السمة عليها. فمثلآ قال ماجد فخري، الذي يعد احد أوائل الباحثين العرب في المستقبل، قال: إن دراسة المستقبل تستوي والعلم لآنها تتوافر على موضوع محدد هو »… الكائن الممكن، اي الذي لم يوجد بعد، ولكنه قابل للوجود في الزمان.«. وإلى الشىء ذاته يذهب ، وليد عبد الحي، وهو أيضأ أحد القلة من المستقبليين العرب، قائلآ :« إنها العلم الذي يرصد التغيير في ظاهرة معينة ويسعى لتحديد الإحتمالات المختلفة لتطورها في المستقبل…«

ومنذ بداية الآخذ به، في منتصف القرن الماضي، إقترن تشوف المستقبل بإنماط أساسية من التفكير أدت إلى الآخذ بمقاربات منهجية تتماهى واياها. فأولا، إنتشرت رؤى أفادت أن المستقبل ينشأ في الماضي ويكون محكومأ به، بمعنى أن المستقبل يعد إمتدادا للماضي ولا غير. وقد كان هذا النمط من التفكير منتشرأ بين أوائل المستقبليين الأمريكيين.ومن هنا جاء التركيز على كلمة المستقبل كمفرد.

وقد تزامن هذا النمط من التفكير مع أخر فرنسي المنشأ والهوية ذهب إلى العكس مؤكدأ أن المستقبل لا يقبل الانغلاق على مشهد واحد ولا سواه، وإنما ينفتح على مشاهد متعددة. ومن هنا جاء إستخدام كلمة المستقبل بمعنى الجمع، أي مستقبلات. ويجد هذا النمط من التفكيرفي الوقت الراهن قبولآ عالميأ واسعأ بين المستقبليين، وبضمنهم الجيل الجديد من المستقبليين الأمريكيين.

إن تنوع أنماط التفكير في المستقبل أفضى إلى تنوع المقاربات التي يستخدمها التفكير العلمي في المستقبل. فرؤية المستقبل وكأنه إمتدادا للإتجاهات الآساسية للماضي ، سلبأ أو أيجابأ، جعل منها إستطلاعية/ إتجاهية وبمقاربة منهجية جعلت التنبؤء بالمشهد الذي قد يقترن به المستقبل غايتها النهائية مستخدمة أدوات كمية )إحصائية( لهذا الغرض. أما رؤية المستقبل منفتحأ على العديد من المشاهد، فلقد جعلها إستهدافية/ معيارية وبمقاربة جعلت من استشراف مشاهد المستقبل، وبضمنها المشهد المرغوب به، غايتها النهائية. ولهذ الغرض فهي تستخدم أدوات كيفية )نوعية( للبحث في الحاضرعن ما يؤدي إلى هذا الغرض، وبضمنه إقتراح سياسات محددة.

إن التباين بين المقاربات الإستطلاعية/ الإتجاهية والمقاربات الإستهدافية/ المعيارية دفع إلى الآخذ بمقاربة ثالثة تجمع بينهما وتحقق تكاملهما المنهجي.

إن التطور المهم الذي مرت به دراسات المستقبلات عبر الزمان، معرفيأ ومنهجيأ، جعل هذه الدراسات تختلف جوهريأ عن دراسات الماضي والحاضر. ويرد ذلك إلى إنطلاقها من سؤال مستقبلي يختلف كليأ عن الاسئلة التي تطرحها هذه الدراسات. فدراسات المستقبلات تتساءل: ما الذي يمكن، و/أو يحتمل، و/أو ينبغي أن يحدث في المستقبل. ومن هنا تنبع جدوى الآخذ بها. ولنتذكر إن من لا يفكر بمستقبله ويستعد له مسبقا سيكون من الخاسرين.

* إستاذ العلوم السياسية ودراسات المستقبلات