إستراتيجيات التعامل مع الصراع الدولي

أ.د. مازن الرمضاني*

في العدد السابق من الحصاد تناولنا بالبحث إدارة الصراع في عالم يتجدد ويتغير. في هذا العدد سنستكمل البحث في موضوع العنوان أعلاه.

تأثرا بمضامين أنماطها المفضلة في التفكير في الصراع، تنطلق الدول في تعاملها مع صراعاتها من إستراتيجيات محددة. وقبل تناول هذه الإستراتيجيات، تجدر الإشارة إلى أن مفهوم الإستراتيجية، أو السوق كما تم تعريبه، كان أصلا عسكريا. فمثلا عرفها الجنرال الفرنسي أندريه بوفر (1975-1902,Andre Beaufre) أنها فن استخدام القوة لتحقيق أهداف سياسية، وهي فن حوار الإرادات، التي تستخدم لغة القوة لحل خلافاتها. وكما أن هذا الهدف المنشود قد يكون شاملا كتدمير مقومات قدرة الخصم، أو يكون محدودا كردعه أو تطويعه , كذلك تتباين الإستراتيجيات المستخدمة تبعا لنوعية الهدف المراد تحقيقه. فهذه الإستراتيجيات قد تكون هجومية شاملة، أو هجومية محدودة.

وعلى الرغم من الآصل العسكري لمفهوم الإستراتيجية، إلا آن التطور اللاحق للفكر الإستراتيجي أدى إلى أن يمر هذا المفهوم بنقلات أساسية جعلته يُدرك بأبعاد أكثر شمولية من حيث المضمون، وأكثر أتساعا من حيث المستوى. فأما من حيث المضمون، فقد صار يُستخدم للدلالة على جملة الجهود الرامية إلى تعبئة قدرات الدولة وتوظيفها في أزمنة السلم والحرب خدمة لأهداف السياسة العليا للدولة. أما من حيث المستوى، فالمفهوم أضحى يُعبرعن إستراتيجيات تنبثق من بعضها البعض بصيغة النسغ النازل من أعلى: فمن الإستراتيجية القومية، التي تتولى عملية ترجمة أهداف السياسة العليا للدولة إلى واقع ملموس، تتفرع مجموعة إستراتيجيات متوسطة المدى، وبعناوين متعددة: سياسية واقتصادية وعسكرية وعلمية وثقافية …الخ، يسعى كل منها إلى تحقيق أهداف الإستراتيجية القومية في مجال اهتماماتها. ومن هذه الإستراتيجيات متوسطة المدى تنبع إستراتيجيات فرعية تعمد هي الاخرى إلى تحقيق أهداف الإستراتيجيات، آلتي انبثقت منها أصلا، في مجال عملها.

وفضلا عما تقدم، صارت كلمة الإستراتيجية لصيقة بجل حقول المعرفة والعمل، كالقول مثلا بإستراتيجية التعليم العالي، وكذلك إستراتيجية التنمية المستدامة…الخ. وقد أفضى انتشار استخدام هذا المفهوم إلى أن تتعدد الرؤى بشأن مضمونه. فهذه ذهبت إلى إدراكه مثلا أما بدالة الخطة، أو الرؤية، أو السلوك …الخ.  ولتحديد ما نراه في شأن الإستراتيجية، كمفهوم، من المفيد تثبيت أولا العناصر الأساسية التي يتأسس عليها. ونرى إنها تكمن في الآتي:

  • أولا: انطلاقها من هدف، أو أهداف، يراد له (أو لها) أن يتحقق أو تتحقق في الزمان الآتي، سواء كان هذا قريبا، أو متوسطا، أو بعيدا. كما أن هذا الهدف قد يكون شاملا أو محدودا.
  • ثانيا: توظيفها لثمة أدوات، مادية ومعنوية، سبيلا لإنجاز الأهداف المنشودة من كل منها.
  • ثالثا: استعانتها بمجموعة من التحركات قصيرة المدى الرامية إلى تحقيق الأهداف المنشودة، وتأمين مخرجاتها. وتسمى مثل هذه التحركات، باللغة الانكليزية، تكتيكات (Tactics).

وفي ضوء ما تقدم، نرى أن الإستراتيجية تفيد بمفهوم يعبر عن تلك الخطة التي تسعى إلى تحقيق هدف مرغوب فيه عبر توظيف ثمة أدوات تدعمها موارد متنوعة وكافية، وكذلك أنماط من التحركات قصيرة المدى تحدد كيفية توظيفها تحقيقا لأهدافها المنشودة.  وبهذا المعنى،  يُعد الانطلاق من إستراتيجية محددة للتعامل مع الصراع شرطا أساسيا. إذ بدون ذلك يفضي التعامل مع تطورات الصراع إلى لعبة خاسرة بالضرورة، خصوصا عندما يندلع هذا الصراع بين طرفين لا يكون توازن القوى بينهما متعادلا، ولو نسبيا.

والسؤال أيضأ: ما الذي يفضي إلى جعل مثل هذا الانطلاق شرطا أساسيا؟

 وفي ضوء مخرجات أنماط التفكير في الصراع، تتعدد الرؤى ذات العلاقة بالإستراتيجيات التي يمكن توظيفها لإغراض التعامل مع الصراع الدولي ومع ذلك، نرى إنها تتراوح بين خمس إستراتيجيات أساسية، هي: التجنب/ الانسحاب، أو التعاون، أو التكيف، أو الحل الوسط، أو التنافس. وكالآتي:

1.إستراتيجية التجنب/الانسحاب

وكما يشير عنوانها، تفيد إستراتيجية التجنب/ الانسحاب (ِStrategy of Avoidance/Withdrawal) إلى نزوع أحد أطراف الصراع، أو جميعها، إلى تجاهل المدخلات التي أدت إليه سبيلا لعدم تصعيده جراء مدخلات خاصة به.  ومثل هذه الإستراتيجية يمكن الآخذ بها عبر تبني أحد أنماط السلوك الآتية أو مجموعة منها في أن [1]:

  • أولا: الإهمال، بمعنى التجاهل الكامل للصراع، وبضمنه أنماط السلوك العدائية للطرف الثاني، على آمل أن يؤدي هذا التجاهل إلى دفع الصراع إلى التراجع من تلقاء ذاته. ويؤخذ على هذا السلوك أن مخرجاته قد تؤدي إلى العكس، خصوصا عندما يعمد الطرف الثاني إلى المضي في سلوكه العدواني وتصعيد الصراع.
  • ثانيا: التفاعل المحدود، بمعنى تقليص العلاقة مع الطرف الثاني إلى حدودها الرسمية الدنيا تجنبا لاحتمالية الـتصعيد.
  • ثالثا: تأجيل التعامل مع موضوع الصراع إلى زمان لاحق، وبضمنه عدم الالتزام المسبق بأي تسوية محددة مقترحة من طرف ثالث، مع الاحتفاظ بجميع الخيارات الاخرى مفتوحة. [2]
  1. إستراتيجية التعاون

 تتأسس إستراتيجية التعاون Strategy of Cooperation)) على أسلوب من التفكير قوامه البحث عن تسوية للصراع لا تؤدي إلى أن يكون أحد اطرافه أما رابحا أو خاسرا، وإنما إلى تحقيق تسوية تؤمن الربح المتوازن لهذه الأطراف كافة. لذا تقوم هذه الإستراتيجية على فكرة اللعبة غير الصفرية، ومن ثم تتميز بخصائص استمرار الحوار، وتبادل الآخذ والعطاء سبيلا للوصول إلى حل وسط يفضي إلى التوفيق بين المصالح المتناقضة للأطراف المتصارعة، وتحقيق رضاها المشترك، ومن ثم الوصول إلى تسوية مقبولة لصراعها. إن هذا الأسلوب من التفكير، والإستراتيجية الناجمة عنه يضحى، فاعلا عندما تدعمه ثمة متغيرات مساعدة، وكالآتي مثلا:

  • أولا: إدراك أطرافه بوجود أرضية مشتركة تجمعها إلى بعض، ومن ثم استخدامها كمنطلق لإيجاد حل لصراعها.
  • ثانيا: توافر أطراف الصراع على قدر عال من المرونة بعضها حيال البعض الاخر، وبضمنها استعدادها لإعادة هيكلة مواقفها، والأدوات التي تستخدمها، فضلا عن اتخاذها لثمة إجراءات تنفيذية تفضي إلى تحويل تفاهماتها المشتركة من حالتها النظرية إلى واقع عملي ملموس.
  • ثالثا: الخشية المشتركة من احتمالية خروج الصراع من نطاق السيطرة، ومن ثم تصاعده باتجاه الحرب.
  • رابعا: التفاعل الإيجابي لأطراف الصراع مع راي عام محلي، و/أو دولي، و/وعالمي يدعو إلى فض الصراع سلميا.
  • خامسا: تدخل طرف ثالث سواء من تلقاء ذاته، أو بدعوة من أحد أطراف الصراع، أو من جميعها، أو بتكليف من منظمة دولية للتوفيق بين المصالح المتضاربة لأطراف الصراع.

وعلى الرغم من أن توظيف هذه الإستراتيجية قد يؤدي، في أحيان، إلى تسوية دائمة للصراع، إلا أنه قد يفضي أيضأ، في أحيان أخرى، إلى تسوية مؤقتة له قد تؤدي، لاحقا، إلى اندلاعه مجددا، خصوصا عندما يدرك أحد أطراف هذا الصراع أن تبنيه لإستراتيجية التعاون لم يؤد إلى تحقيق مصلحة، أو مصالح، منشودة من قبله، أو أن المعطيات التي أدت إلى هذا التعاون والتسوية الناجمة عنه، في زمان سابق، قد تغيرت لصالحه في وقت لاحق. ولنتذكر أن العديد من صناع القرار قد عمدوا عبر الزمان إلى إلغاء اتفاقيات، كانت، في وقته، بمثابة المدخل لتحقيق تسويات لصراعات دولهم مع سواها.

  1. إستراتيجية التكيف

تُعبر إستراتيجية التكيف Adaptation) Strategy of) عن أسلوب من التفكير يُعد حصيلة لتفاعل نزوع يَرمي أصلا إلى تجنب الصراع، والتركيز على تهدئته بعد اندلاعه، ومن ثم تسويته لاحقا عبر الآخذ بإجراءات تفضي مخرجاتها إلى ذلك. ونجاح هذه الإستراتيجية يتطلب الآتي مثلا:

  • أولا، توافر أطراف الصراع على استعداد نفسي لتبادل الراي بشأن القضية التي كانت وراء اندلاع الصراع، سبيلا لبناء تلك الأرضية المواتية لتحقيق تفاهم مشترك يفضي إلى أعادة النظر في مدركاتها المتضاربة بشأن هذه القضية. وتجدر الإشارة إلى أن انتفاء هذا الاستعداد يُشكل أحد المداخل المهمة لتصاعد الصراع.
  • ثانيا، اتجاه هذه الاطراف إلى إيلاء مصالحها المشتركة أهمية تعلو على نزوعها نحو تحقيق مصالحها الذاتية.
  • ثالثا، اتجاه هذه الاطراف إلى إيلاء مصالحها المشتركة أهمية تعلو على نزوعها نحو تحقيق مصالحها الذاتية.
  • رابعا، توافر هذه الأطراف على معرفة مسبقة ودقيقة بحاجات، أو أهداف، أو مصالح، كل منها تجنبا لسوء الفهم وتهيئة الظروف الملائمة لتحقيق المنشود المشترك.
  • خامسا، توافر بيئة داخلية وخارجية ضاغطة، ومن ثم دافعة بإطراف الصراع نحو التكيف المتبادل.
  • سادسا، ألآخذ بإدراك مفاده أن النجاح في مرحلة مبكرة قد يؤدي تحقيق المزيد من النجح لأحقا وعلى وفق مفهوم انتشار النجاح Spill Over)).
  1. إستراتيجية الحل الوسط

 تفيد إستراتيجية الحل الوسط Strategy of Compromise)) بأسلوب من التفكير ينزع إلى تأمين التعاون المشترك بين أطراف الصراع سبيلا للحيلولة دون أن يكون أحدها بالمحصلة أما رابحا أو خاسرا. وتتميز هذه الإستراتيجية بإلية قوامها مقايضة الآخذ بالعطاء واستمرار الآخذ بها حتى تتمكن أطراف الصراع من تحقيق التوافق بين تناقض مصالحها وتأمين رضاها المشترك. لذا تُعد تطبيقا عمليا لمضمون اللعبة غير الصفرية (None- Zero -Sum-Game). وقد تشمل هذه الإستراتيجية الآخذ بآلية المقايضةHorse-Trading)) بمعنى مقايضة قضية بأخرى[3]. كأن يتخلى مثلا أحد الأطراف عن مسألة مهمة لطرف أخر مقابل أن يقوم هذا الطرف بالشيء ذاته على صعيد مسألة أخرى لا تقل أهمية عن الأولى. ومثال ذلك اتفاقية تخفيض الأسلحة النووية متوسطة المدى لعام 1987 بين الدولتين العظميين في وقته. فبموجبها تعهدت الولايات المتحدة الأمريكية بإزالة كافة صواريخ توماهوك والصواريخ العابرة للقارات، بيرشنغ 2، مقابل إزالة الاتحاد السوفيتي لصواريخه من طراز SS20.

ويجد الأسلوب، الذي تتأسس عليه إستراتيجية الحل الوسط دعما إيجابيا مضافا، عندما تدرك الأطراف المتصارعة أنها لا تستطيع فرض إرادتها على بعضها البعض الاخر سبيلا لتحقيق ما تصبو اليه، وكذلك عندما يتدخل طرف ثالث في الصراع ويستطيع تأمين التقارب بين المصالح المتضاربة لهذه الأطراف بيد أن هذه الإستراتيجية، التي قد تستطيع إيجاد تسوية دائمة للصراع، إلا إنها، قد تفضي إلى مجرد تسوية مؤقتة له، خصوصا عندما تخفق في تأمين الرضا المشترك للأطراف المتصارعة، وهو أحد الشروط المهمة، التي يفضي توافرها، إلى إيجاد حل دائم للصراع.

  1. إستراتيجية المنافسة

لا تضحى إستراتيجية المنافسة Strategy of Competition)) سبيلا فاعلا للتعامل مع الصراع إلا بعد أن يعمد أحد أطرافه إلى محاولة إقصاء سواه وحرمانه من التنافس السلمي على ثمة شئء مرغوب فيه. فالمنافسة عندما لا تعطل جهد المتنافسين نحو تحقيق مصالحهم المنشودة، فإنها لا تدفع، بحد ذاتها، إلى الصراع.

بيد أن عملية التنافس السلمي عندما تتحول إلى صراع فإنها تقترن بمضمون اللعبة الصفرية Game) Zero-Sum) بمعنى الربح لطرف والخسارة لطرف أخر. وعادة تقترن هذه اللعبة بأفعال ذات طبيعة إكراهية/ترهيبية، بضمنها التهديد باستخدام القوة أو استخدامها فعلا، هذا من أجل دفع الطرف الثاني إلى اتخاذ قرار لا يريده من تلقاء ذاته خدمة لمصالح الطرف القائم بهذه الأفعال الإكراهية. وعليه تتمحور هذه الإستراتيجية بالحصيلة على نزوع أحد أطراف الصراع نحو تحقيق ثمة هدف منشود من قبله على حساب طرف أخر.

وفي ضوء مضامين الإستراتيجيات أعلاه، تجدر الإشارة إلى أمرين مهمين:

  • أولهما، إن اختيار إحدى الإستراتيجيات يتطلب التأمل المسبق بعدد من الاعتبارات الموضوعية والذاتية المهمة، ومثالها: (1) مدى الأهمية المعطاة للهدف أو الأهداف المنشودة. (2) نوعية التأثير الناجم عن احتمالية فشل الإستراتيجية المختارة، ومن ثم عدم تحقيق الهدف أو الأهداف المنشودة. (3) النتائج الناجمة عن تبني إستراتيجية أشد حزما. (4) مدى وجود فرص للتعايش و/أو للتعاون مع الطرف الآخر. (5) نوعية توازن القوى السائد بين الأطراف المتصارعة…الخ
  • أما الآمر الثاني، فهوان التعامل مع الصراع على وفق إستراتيجية محددة، لا يعني ثبات توظيفها على نحوٍ مطلق. فمدى قدرتها على تحقيق الهدف المنشود، أو فشلها، هو الذي يحدد أما استمرار الآخذ بها، أو إحداث تعديل عليها، أو التحول عنها إلى إستراتيجية أخرى. لذا من الصعب القول وجود إستراتيجية محددة تتميز بالأفضلية المطلقة. فكل من الإستراتيجيات أعلاه لها مزاياها وعيوبها. ومن هنا يضحى اختيار الإستراتيجية التي تتماهى مع طبيعة الصراع وخصائصه من الضرورات. وغني عن القول أن اختيار الإستراتيجية الملائمة والتوظيف الكفوء لها يُعد مهارة أساسية سيما وإنها تضفي على الطرف المستخدم لها قدرة مضافة لتحقيق الهدف المرغوب فيه.

*أستاذ العلوم السياسية/ السياسة الدولية ودراسات المستقبلات