شعراء العرب بين الكنية واللقب

د. حسين رشيد الطائي

من بدية القول إن الاسم كان ولا يزال يحمل أهمية كبيرة في واقعنا الذي نعيشه. وأن من غير المستغرب ان يتم الاهتمام به على نحو واسع.

ولو استقصينا أسباب الاهتمام به لوجدناها تتعدى هذا الواقع. لأن الله كان أول من اهتم به منذ أن خلق آدم وعلمه الأسماء كلها وأمره أن يعرضها على الملائكة ليؤكد لهم بداعة وتفرّد هذا المخلوق، قال في كتابه العزيز (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ). وكان أيضا من اهتمامه تعالى بهذه المسألة ان جعل لنفسه اسما (لفظ الجلالة) أمر مخلوقاته بالدعاء به، وصيّره الواسطة بينه وبين خلقه، فقرن كل الواجبات والمستحبات في شرائعه بذكر اسمه ولم يقبل عملا ولا أداء ولا شيئا مما قسم إلّا مقرونا به. بل انه تعالى جعل له اسماء سمّاها بالحسنى وأمر خلقه بالتوسل والدعاء بها فقال (وَلِلَّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بها).

ومن هنا فان السنّة الألهية كانت في البدء مهتمة بالاسماء وذكرها وان لها موضوعية في الحياة الاجتماعية.

ومما لا شك فيه أن العرب قبل الإسلام اهتموا بالأسماء والكنى والألقاب اهتماما كبيرا. فكانوا يسرعون بتكنية الصبي قبل أن يبلغ حسبما جاء في المأثور (بادروا أولادكم بالكنى قبل أن تغلب عليهم الألقاب). وكانوا يسمون أولادهم أسماء خشنة غليظة كأسد وحنظلة وفاتك فيما يسمون غلمانهم بأسماء جميلة كميمون ورباح وغيرها، وكانوا يقولون في ذلك ان أولادهم لأعدائهم أما غلمانهم فلهم. وربما علة التكنية والألقاب عندهم هي أنهم كانوا يعيرون القضايا العرفية والاجتماعية اهتماما أكبر مما يعيره غيرهم من الأمم فيما يتعلق مثلا بموضوعات الكرم والشجاعة والصبر والشدة والمدح والذم وحتى الفأل والتطيّر. وهذا المفهوم في عمومه لم يجر في الأسماء دون الكنى والألقاب؛ فهذا التاريخ يحدثنا أن هذا المفهوم كان عاما عندهم.

يقول شهاب الدين القلقشندي إن غالب أسماء العرب منقولة عما يدور في خزانة خيالهم مما يخالطونه ويجاورونه. فكان من الطبيعي أن تنعكس الكثبان والصخور والحيوانات والنباتات على أسمائهم. مؤكدا أن الأمر يتخطى ذلك إلى جوانب أخرى تجعل التسمية عندهم عاكسة لنظرتهم للكون والحياة والإنسان والقدر.

وهذا الأمر لم يلفت أنظار المؤرخين من العرب وحدهم بل لفت أنظار المستشرقين أيضا أمثال روبرتسون سميث، كما يقول المؤرخ العراقي الكبير جواد علي في كتابه (المفصل في تارخ العرب).

غير أن العرب ذهبوا في اهتمامهم بالأسماء والكنى والألقاب أكثر مما نظن فلم يتركوا حجرا أو مدرا أو نباتا أو حيوانا أو طيرا أو إنسانا أو حتى جنيا ولم يضفوا الألقاب والكنى عليه؛ أمثال الشيصبان الجني المقاتل كما عرّفوه. وينقل انه كان لحسان بن ثابت صاحب من الجن، وللنابغة الذبياني أيضا وكان يسمى (هاذر).

عن أبي المعالي قابوس بن وشمكير فان التكني عند جميع الناس جلالة ورفعة أو مهانة ووضع فقد تكون الكنية لغرض التفاخر نسبة الى الولد الموصوف بالعفة او الشجاعة أو الكرم او القوة وما شابه، او الى المهانة والوضع نسبة الى اللؤم والجبن والنذالة والبخل وغيرها من الصفات. او ربما تكون بدافع التستر والإخفاء نسبة لاصل الكنية في اللغة (الستر(.

ومهما يكن فان أهم أغراض الكنية عند العرب كما جاء في المصادر هو تعظيم المكنّى أو الإخبار عن النفس أو تميز الفرق والجماعات أو المدح أو الذم أو حتى الفأل والتطير.

ومما جاء في الكنية بموضوع التهكم قول ابن بسام لبعض الرؤساء:

فأنت لعمري أبو جعفر

ولكننا نحذف الفاء منه

أما الألقاب فلم تكن بعيدة في أسبابها ونشوئها عن الأسماء والكنى؛ ومن العلل المذكورة على ذلك انتشار تشابه الأسماء عند العرب وتكرارها في القبيلة الواحدة.

ومن الألقاب التي اقترنت بحدث (علقمة الفحل) ؛ وهو علقمة بن عبدة بن ناشرة بن قيس من شعراء ما قبل الإسلام ولقّب بالفحل نسبة لتفوقه على الشاعر الجاهلي المعرف امرئ القيس في قضية معروفة تحاكما فيها الى أم جندب زوج أمرئ القيس أنشد فيها امرؤ القيس قصيدته في وصف فرسه مطلعها:

خليليّ مرّا بي على أم جندب

نقضّ لبادات الفؤاد المعذّب

 فبادره علقمة بقصيدة مطلعها:

ذهبن من الهجران من غير مذهب

ولم يك حقّا كل هذا التجنّب

 فكان حكمها لصالح علقمة، فثار أمرؤ القيس لذلك فطلقها وتزوجها علقمة فسميّ بالفحل.

وكمثل (تأبط شرّا) وهو ثابت بن جابر من قبيلة فهم أحد شعراء الجاهلية الصعاليك وعدّائيهم من أهل تهامة.وأنمّا سمّي تأبط شرّا لحمله كيسا مليئا بالأفاعي تحت إبطه فلما طرحه قيل له ما هذا قال أفاع فقالوا تأبطت شرّا فغلب عليه هذا اللقب.

وعلى أي حال فقد اتفق المؤرخون على أن ألقاب الشعراء العرب إنما جرت على ثلاثة أقسام:

ما نسب لأمّه دون أبيه

ما نسب لأبيه دون أمّه

ما نسب لعلامة في جسمه أو حدث ارتبط به.

 ومن بين من نسب لأمه دون أبيه الشاعر يزيد بن مقسم الثقفي الذي لقب بـ(ابن ضبة) وضبة أمه؛ وهو شاعر كبير من أهل الطائف مات ابوه وخلفه وهو صغير فحضنته أمه فنسب إليها . جاء في كتاب الأغاني أن لابن ضبة ألف قصيدة اقتسمها شعراء العرب وانتحلوها فدخلت في أشعارهم وكان يتعمد الإتيان بغريب اللغة وعصيّ القوافي في شعره .

وشبيب بن البرصاء الذي اشتهر بنسبته لأمه وهي بارعة بنت الحارث بن عوف وأبوه يزيد بن جمرة بن عوف المزني وكانت أمه تسمى البرصاء لبياضها الشديد وليس لبرص فيها. وقد اشتهر بهجائه اللاذع.

ومنهم كذلك الشاعر الجاهلي قيس بن الحدادية الخزاعي الذي كان من شعراء الصعاليك وكان شجاعا فاتكا كثير الغارات. والحدادية أمه وهي من بني حداد من كنانة وقد نسب إليها.

قال في أحد أشعاره:

فقالت وعيناها تفيضان عبرة

بأهلي بيّن لي متى أنت راجع

فقلت لها تالله يدري مسافر

إذا أضمرته الأرض ما الله صانع

فشدّت على فيها اللثام وأعرضت

وأمعن بالكحل السحيق المدامع

وإني لعهد الود راع وإنني

 بوصلك ما لم يطوني الموت طامع

ومنهم أيضا ابن عنقاء وابن ميادة وغيرهم.

ومن نسب لأبيه دون أمه فهو أكثر وأشهر أمثال الشاعر عامر بن الظرب العدواني وهو قاض من قضاة الطائف من حنفاء العرب وأئمتهم الذين تحاكم إليهم الناس، وصارت أحكامهم قانونا يحتكمون إليه، وهو من سادات مضر وقيس عيلان وحكيمهم، وله أحكام فقهية أقرّها الإسلام، وكان عامر ممن حرّم أكل الميتة والزنا والخمر في الجاهلية، كما أوجب ختان الذكر والأنثى.

وابن هرمة إبراهيم بن هرمة، وهو إبراهيم بن علي بن سلمة بن عامر بن هرمة الكناني القرشي ويُكْنَى بأبي إسحاق، هو شاعر غزلٍ من سكان المدينة. وهو آخر الشعراء الذين يحتج بشعرهم. قال الأصمعي (ختم الشعر بابن هرمة). وغيرهم كثير.

أما من نسب بسبب علامة فيه أو لحدث ارتبط معه فهو كثير أيضا. ومن اشهر الأمثال على ذلك الفرزدق همام بن غالب بن صعصعة الدارمي التميمي، وانما لقب بالفرزدق لضخامة وجهه وشدّة تجهمه، ومعنى الفرزدق (الرغيف). جاء في الأثر لولا شعر الفرزدق لذهب ثلث لغة العرب، ولولا شعره لذهب نصف أخبار الناس؛ وهو صاحب الأخبار والنقائض مع الشاعر المشهور جرير، وقد اشتهر بالمدح والفخر والهجاء.

وكذلك الحطيئة أبو مليكة جرول بن أوس العبسي المعروف بالحطيئة وسُمي بالحطيئة بسبب قصر قامته، كان يعاني من الفقر والمهانة وقد لجأ للهجاء لكي يكسب رزقه ويدافع به عن نفسه .

ولا ننسى الطرمّاح وهو حكم بن حكيم. وإنما سمّي الطرمّاح لطوله. والطرمّاح في اللغة هو الطويل. قال الشاعر: معتدل الهادي، طرمّاح العصبْ. وقيل: سمي الطرمّاح لزهوه. والطرماح: الذي يرفع رأسه زهواً.

جاء في إحدى قصائده قوله:

أرى الليل يجلوه النهار ولا أرى

 خلال المخازي عن تميم تجلت

أقرّت تميم لابن دحمـة حكمه

وكانت إذا سيمت هوانا أقرّت

تميم بطرق اللؤم أهدى من القطـا

  ولوسلكت سبل المكارم ضلّت

فلو أن برغوثا على ظهر قملة

رأته تميم من بعيدٍ لولّت

ومنهم من قال إن البيت الأخير هو أقذع بيت قالته العرب.

ومن الشعراء كذلك أبو قطيفة وهو عمرو بن الوليد بن عقبة. وإنما سمي أبا قطيفة لأنه كان كثير شعر الجسد والوجه. والأرقط وهو حميد بن مالك. وسمي بالأرقط لآثار كانت في وجهه. ومنهم الأفوه. سمي بذلك لأنه كان غليظ الشفتين ظاهر الأسنان. وجحدر ربيعة بن ضبيعة بن قيس. وإنما سمي جحدراً لقصره. ومنهم زياد الأعجم. وإنما سمي الأعجم لأن مولده ومنشأه كان بفارس. ومنهم أبو نواس. وهو الحسن بن هانئ. وإنما قيل له أبو نواس لذؤابة كانت في رأسه. والنواس الذؤابة. ومنه سمي ذا نواس. وقيل سمي ذا نواس لضفيرتين كانتا تنوسان على عاتقه. والنوس حركة من كل شيء مدلّى. وقد نسب لمحمد بن يحيى المقرئ أنه سأل أبا نواس عن كنيته، فقال ان سبب كنيتي أن رجلاً من جيراني بالبصرة دعا إخواناً له فأبطأ عليه واحد منهم فخرج من بابه يطلب من يبعثه إليه يستحثه فوجدني ألعب مع الصبيان وكانت لي ذؤابة وسط رأسي، فصاح بي نيا حسن إمض إلى فلان فجئني به، فمضيت أعدو وذؤابتي تتحرك. فلما جئت بالرجل، قال: أحسنت يا أبا نواس فشاعت هذه الكنية.

ومنهم حماد عجرد. وهو حماد بن عمرو من أهل الكوفة مولى بني عامر. وإنما سمي عجرداً لأنه كان مكتنز الخلق كثير العضلات، والعجرد الغليظ الشديد.

ومنهم أبو العتاهية. وهو إسماعيل بن سويد، من الكوفة. ولقّب بذلك لدهشته او لدهائه والمعتوه المدهوش من غير مسّ من الجنون أو من الدهاء. ومنهم العث نسبة الى العث (السوس). وهو زيد بن معروف وسمي بالعث لأنه كان أكولا. وغيرهم كثيرون.

لقد كان اهتمام العرب بالكنى والألقاب وتأثرهم بها سمة واضحة عليهم  حتى أصبحت معيارا من معايير الشخصية العربية، فلا نجد في كتب الموروث عنهم من سمّي باسمه إلا نادرا. ومن شدة اهتمام العرب بالكنى والألقاب أنهم لم يتركوا شيئا ولم يسمّوه أو لم يكنّوه أو يلقبوه طفلا كان أم امرأة أم رجلا أم حتى بلدا أم حيا أم مدينة بل حتى الشجر والمدر والصحراء والهوام والطيور. يقال ان سبب تسمية سبأ نسبة إلى سبأ بن يشجب بن يعرب بن أرفخشد. وان تسمية حمير تعود إلى الملك حِميَر نفسه وما كان يرتديه من الحلة ذات اللون الأحمر. كما جاء في أحد آراء تسمية الحيرة انها نسبة الى ان عامر والد قحطان (وهو هود) هو الذي حيّر الحيرة، بمعنى هو الذي مدّنها او مصّرها.

واشتهر ان العرب قسّموا الأسماء على ثلاثة أقسام؛ العلم واللقب والكنية. فاما العلم فما علق بشيء بعينه دون غيره. واما اللقب فهو ما أشعر بمدح أو ذم. واما الكنية فهو ما صدّر بأم أو بأب. لكن أعظم مقاصد التسريع في الكنى والألقاب هو تجنب مبادرة اللقب السيئ على لسان عدو أو فاسد.

ومن مقاصدها تعظيم المكنى وتوقيره، حتى ان كناهم لم تخل من نكتة والتفاتة كما في أبي لهب لجماله لأن اللهبة البياض الناصع.

وقد بلغ من شغفهم بالألقاب والكنى كما قلنا أن أضفوها على الحيوانات والهوام والطيور فسمو الثعلب بأبي الحصين والذئب بأبي جعدة والأسد بأبي فراس والبغل بأبي الأثقال والجمل بأبي أيوب والدب بأبي حميد والنسر بأبي خداش والحمار بأبي صابر والزنبور بأبي عاصم والسمك بأبي العوام وغيرها.

ومن الأماكن جبل أبي قبيس بمكة وأم القرى لمكة. ومن الطعام أبو الأبيض للّبن وأم قشعم للمنيّة والحرب وأم الدماغ لجلدة الرأس وأم النجوم للثريا.

بل حتى أنهم كنّوا بعض المعاني بحياتهم فأطلقوا كنية أبي مالك للهرم وأبي مرحب للظل وأبي عمرة للفقر. وقد ورد انه قيل لأعرابي أتعرف أبا عمرة، قال كيف لا أعرفه وهو متربّع بكبدي ويعني (الفقر).

ولا يفوتنا ذكر أن العرب عند اشتقاقهم هذه الأسماء والألقاب والكنى كانوا يبتغون تسهيل تعيين وتعريف المكنّى أو الملقّب أو العلم. ولأنهم اشتهروا بلغتهم العربية الواسعة كان دأبهم آنذاك استعمال الألفاظ بشتى المجالات حتى أصبحت هذه السمة غالبة عليهم بل شغلهم الشاغل. كما لا ننسى ان العربي يحترم شرف الكلمة وان كلمة ربما تكون سبب نجاته أو أن كلمة ربما تكون فيها مماته.

ومن كل ما رأينا فان العرب اهتموا بلغتهم أيّما اهتمام وان الواجب علينا أن نسير على خطاهم.