الأردن .. آخر قلاع الشرق العربي .. الصمود بوجه العاصفة

د.ماجد السامرائي

لم يعرف عن العائلة الأردنية الهاشمية وجود خلافات أو صراعات حول السلطة قبل عام 1999 تاريخ وفاة الملك الحسين بن طلال . لا يمكن تشبيهها ببلدان عربية خليجية كقطر مثلاً حين انقلب الإبن على والده . عرفت العائلة الهاشمية بالتجانس , حتى قرار الملك بالوصية لإبنه عبد الله بالخلافة وليس لأخيه الأمير الحسن لم تترك آثاراً على تماسك تلك العائلة , ما حصل يترجم المقولة العربية في تقديم الأبناء على الأخوة في وراثة السلطة .

قد تكون الظروف الخاصة منعت الأمير حمزة بن الحسين من تضييع فرصتين لتولي الملوكية , الأولى عام 1999 بعد وفاة الوالد الملك حين كان حمزة صغير السن فانتقلت الولاية الى الأمير عبد الله بوصية من الوالد , والفرصة الثانية الضائعة عام 2004 بعد قضائه مدة خمس سنوات كولي لعهد أخيه الملك وخلعها منه وأحالها الى أبنه الأمير حسين .

الحدث المفاجئ حصل يوم الثالث من أبريل  بإعلان الحكومة الأردنية عن وجود مؤامرة لزعزعة الأمن الأردني وضع في قائمة المتورطين الأمير حمزة الى جانب إثنين من أبرز الشخصيات الأردنية هما الشريف حسن بن زيد وباسم عوض الله الشخصية المثيرة للجدل في الأوساط الأردنية تولى في السنوات السابقة مناصب رفيعة بينها وزير التخطيط ووزير المالية ورئيس الديوان الملكي ثم مبعوث الملك عبد الله الى العاهل السعودي .

أثارت الرواية الرسمية الأردنية التي أعلنها نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية أيمن الصفدي الكثير من التساؤلات والقلق العام حول وجود مؤامرة تقترب من معنى الانقلاب على الحكم وليس بالمعنى التقليدي للانقلاب العسكري فقائمة المعتقلين 16 لم تُعلن جميع أسمائهم لكنها لا تضم قادة الصف الأول من الجيش الأردني .

الأكثر اثارة ذلك السجال العلني ما بين الأمير حمزة المتهم بالتورط وبين رئيس أركان الجيش يوسف الحنيطي من خلال التسجيلات الصورية التي مررها الأمير الأردني الى قناة BBC  البريطانية وكذلك الصوتية حيث رفض القرارات الأمنية العليا بالحجر المنزلي والمنع من الاتصالات الخارجية مما أثار قلق الكثير من الأوساط الشعبية الأردنية خصوصاً العشائرية التي يتمتع بينها الأمير حمزة باحترام له ولعائلته الهاشمية . وجد الكثير من المراقبين لو كانت تلك السجالات سرّية لخففت من ذلك الاحتقان بمشهد دائرة حكم العائلة المالكة .  في مقطع الفيديو الذي روى فيه تعليمات الإقامة الجبرية على لسان رئيس هيئة الأركان المشتركة وبحضوره الشخصي، قال الأمير حمزة “لستُ المسؤول عن الفساد وانهيار الحوكمة وغياب الكفاءة التي تسود هياكل الحكم منذ خمسة عشر إلى عشرين عاما، وتزداد سوءا كل عام”. ثمة حالة من التعاطف مع الأمير حمزة باعتباره تحدث بما يتحدث به الناس حول الفساد وتراجع الاقتصاد مع الجمود السياسي والقيود المفروضة على الحريات العامة. وملأت صوره السوشيال ميديا في الأردن وانتشرت على بروفايلات المستخدمين خصوصا ما يجمعه منها بوالده الراحل الملك حسين.

هل يمكن لأجهزة الحكم إثبات وجود صلات بين الأمير القريب من أوساط الحركة الاحتجاجية والذي يتمتع حتى الآن بشعبية واسعة، وباسم عوض الله “المكروه” والمتهم شعبيا ببيع المؤسسات العامة وإضعاف الاقتصاد؟

باسم عوض كان الشخصية المقربة لفترة طويلة من الملك عبدالله الثاني . ارتبط اسمه بمشاريع الخصخصة التي أدت إلى تخلي الدولة عن المرافق الأساسية للبلد .

وقادت “إصلاحات” عوض الله إلى حالة من الاستياء العام وأدت إلى تآكل دخول الأردنيين الذين تعودوا على الرعاية الحكومية “الأبوية” أيام الملك الراحل الحسين بن طلال، وذلك بعد أن أمسك عوض الله بملف الخصخصة وتمسك به على مدى ثماني سنوات بدأت حين عُيّن مديرا للدائرة الاقتصادية في الديوان الملكي، وسرعان ما تولى وزارة التخطيط فالمالية ثم رئيسا للديوان حتى أواخر 2008.

حصيلة هذه السنوات وما تلاها كانت قبل إعلان المؤامرة موضع انتقادات حادة من الأمير حمزة الذي أعفي من ولاية العهد في 2004 حين كان عوض الله في أوج نفوذه.

إلى جانب الخصخصة ورفع يد الدولة عن المؤسسات العامة عبر عقود وامتيازات ضخمة شكك العديد من المحللين في شفافيتها ونزاهتها ولا تزال تثير حنق الناس وتساؤلاتهم، وضع الرئيس السابق للديوان الملكي نفسه خصما للعشائر التي تمثل إحدى الركائز الرئيسية الداعمة لمنظومة الحكم الهاشمي منذ تأسيس الدولة قبل مئة عام.

ربما كان الارتياح سيكون أكثر لدى الرأي العام لو اعتقل عوض الله في ظروف مختلفة وباتهامات مرتبطة خصوصا بالفساد وليس “لأسباب أمنية” فاجأت معظم الأردنيين بسبب اتصالها مباشرة بالأمير حمزة الذي يوجه منذ سنوات انتقادات علنية لاذعة للأداء في أجهزة الحكم.

لم توضح الحكومة في بيانها أبعاد العلاقة المفترضة بين الأمير حمزة وعوض الله الذي ظل حتى عهد قريب موفدا شخصيا للملك عبدالله الثاني إلى السعودية . بالإضافة إلى عوض الله المقرب من الديوان الملكي السعودي، اعتقلت قوات الأمن الشريف حسن بن زيد الذي لا يُعرف عنه الكثير سوى أنه كان مبعوثا للملك عبدالله الثاني إلى الرياض ويحمل الجنسيتين الأردنية والسعودية.

الأكثر أهمية لافتة هي اتهام الحكومة الأردنية للموساد عندما أعلنت ضلوع جهات استخبارية في الخارج حيث أعلن الصفدي في بيانه الحكومي إن وكالة مخابرات أجنبية اتصلت بزوجة الأمير حمزة لترتيب طائرة “للزوجين” لمغادرة الأردن. بعد ذلك  مررت أجهزة الحكم إلى وسائل الإعلام المحلية خبرا منقولا عن “المصدر الرسمي المطلع” الذي كشف عن هوية “عميل” المخابرات الإسرائيلية المتورط في المؤامرة. ثم ذكر مسؤول أردني كبير سابق قريب من السلطات الأردنية صراحة أن الدولة المقصودة هي إسرائيل. فيما نفى روي شابوشنيك رجل الأعمال المقيم في أوروبا ويصف نفسه بأنه “إسرائيلي سابق” في بيان صادر عنه أي ارتباط له بالموساد، وقال إنه عرض على زوجة الأمير حمزة وأبنائه وليس الأمير طائرة خاصة لاستضافتهم حيث يقيم من منطلق الصداقة الشخصية مع الأمير و”العلاقة العائلية القوية”.

يبدو أن أجهزة الحكم توقعت أن يمرّ على الرأي العام اتهام إسرائيل بالمخطط التآمري بسبب التوتر القائم منذ سنوات والمتصاعد الآن بين الملك عبدالله الثاني ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في قضايا تمس بالفعل استقرار المملكة وعلى رأسها القدس وعملية السلام.

ولقد فتح تكتم الحكومة وحديثها المبهم عن الجهات الخارجية المتورطة الباب أمام تكهنات بدور سعودي محتمل. وهو ما يفسر مسارعة السعوديين إلى تبديد هذا الاتهام وتأكيد دعم المملكة للأردن من خلال اتصال وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بالملك عبدالله الثاني وولي عهده الأمير الحسين.

وقبل أن يرسل العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز وزير خارجيته إلى عَمّان للتأكيد من جديد على وقوفه إلى جانب الأردن في “مواجهة جميع التحديات”، ربما كانت السعودية الدولة الأولى التي أعلنت تضامنها وتأييدها للتدابير التي اتخذها العاهل الأردني فور الكشف عن “المؤامرة”.في هذا تركت الحكومة مجالاً للتكهنات بوجود ضغوط سعودية أو خليجية على المملكة بسبب توجهاتها في الملفات الإقليمية الرئيسية خصوصا القضية الفلسطينية ومآلات التطبيع مع اسرائيل.

بعد ذلك حظرت السلطات القضائية الأردنية النشر في قضية التآمر لحين استكمال التحقيقات وهو ما ينبغي إعلانه على الرأي العام الأردني والخارجي , بعد أن تمت التسوية التي تولاها عمه الأمير حمزة الأمير الحسن في إطار عائلي وقع خلالها حمزة على رسالة وضع نفسه فيها بين يدي الملك عبدالله الثاني يوم الخامس من أبريل . كتب الأمير حمزة “أضع نفسي بين يدي جلالة الملك مؤكدا أنني سأبقى على عهد الآباء والأجداد وفيّا لإرثهم سائرا على دربهم مخلصا لمسيرتهم ورسالتهم ولجلالة الملك وملتزما بدستور المملكة الأردنية الهاشمية العزيزة. وسأكون دوما لجلالة الملك ووليّ عهده عونا وسندا”.

كانت تلك الخطوة تطويقاً للأزمة داخل العائلة المالكة , رغم إنها لم تنه قصة المؤامرة وتورطه فيها . المهم هو قدرة الملك عبد الله الثاني على سد الثغرة التي انفتحت في الفترة الأخيرة لأسباب وباء كورونا في الابتعاد الجزئي عن أوساط العشائر لاستمرار التقليد المهم الذي بناه الملك الراحل الحسين , إضافة الى ما يمكن توقعه من الملك عبد الله الثاني في تنفيذ خطته الإصلاحية التي وعد بها.

الأردن المعادلة الصعبة

لم يكن الحدث الأردني بوجود مؤامرة انقلابية عابراً , فما يحصل في هذا البلد العربي ليس شأناً محلياً بجميع المقاييس . الموقع الجيوسياسي له أهمية كبيرة في مرحلة التحولات المهمة التي تشهدها المنطقة , حكم العائلة الهاشمية له تأثيرات ذات أبعاد تاريخية في المنطقة . إنها المملكة الي كانت لو استمر العهد الملكي في العراق عام 1958 لأصبحت كل من الأردن والعراق دولة واحدة , ومن الطريف أن ينشر المستشار القانوني العراقي طارق حرب قبل أيام تقريراً ذكر فيه بأن الاتحاد الهاشمي العراقي الأردني الذي أعلن عام 1958 قبيل الانقلاب العسكري ما زال من الناحية القانونية قائماً, فالعراقيون بما حلّ بهم اليوم يترحمون على ذلك العهد.

هناك تاريخ أردني عراقي يمتد لسنوات طويلة خاصة في سبعينيات القرن الماضي وما تلاها في الحرب العراقية وموقف الملك الراحل الحسين المؤيد للعراق بما جعل من النظام الإيراني خصماً كارهاً للأردن العربي . تخللت هذه الفترة نزعات طائفية إيرانية لتنفيذ حملة تشييع داخل الأراضي الأردنية بشتى الوسائل , لكن فشلت جميع محاولات التخريب هذه . يتذكر العالم كيف وصف الملك عبد الله الثاني في صحيفة الواشنطن بوست عام 2004 نشاطات النظام الإيراني ب( الهلال الشيعي ) عبّر في حينه عن تخوفه  من وصول حكومة عراقية متعاونة مع إيران إلى السلطة في بغداد تتعاون مع نظام الثورة الإسلامية بطهران والنظام السوري لإنشاء هلال يكون تحت نفوذ الشيعة يمتد إلى لبنان. ورأى في بروز هلال شيعي في المنطقة ما يدعو إلى التفكير الجدي في مستقبل استقرار المنطقة ويمكن أن يحمل تغييرات واضحة في خريطة المصالح السياسية والاقتصادية لبعض دول المنطقة.

العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني عدّل هذا المصطلح وجعله “الهلال الإيراني” بدل “الهلال الشيعي”، وفسر ذلك خلال جلسة حوارية مع قناة CNN الامريكية  ضمن فعاليات المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس عام 2018 . ذكر فيها إن الأردن يواجه تحديا على حدوده مع سوريا يتمثل في مجموعات تدعمها إيران .

كان الأردن بعد ما سميّ بثورة الربيع العربي معرّضاً الى مخاطر جدّية لكن وحدته الاجتماعية وتماسك أبنائه فوتوا هذه الفرصة أمام قوى التطرف والتخريب . جرت محاولات من داعش للنفوذ الى الأراضي الأردنية عبر الحدود السورية الأردنية , لكنها فشلت أيضاً رغم وجود ما يعينها من قبل أصحاب الدعوات الإسلامية المتطرفة داخل الأردن.

رغم الأمكانيات المالية المحدود وارتفاع معدلات البطالة حيث وصلت عام 2020 الى نسبة 23% والدين العام  تجاوز 102 في المئة من الناتج الداخلي للأردن . تحمل الأردن تبعات أعباء تدفق اللاجئين العرب خلال الثلاثة عقود الماضية . فقد تدفق عشرات الألوف من اللأجئين الفلسطينيين المقيمين في الكويت بعد إخراج قوات نظام صدام من الكويت عام 1991 ومئات الألوف من العراقيين عام 2003 . هناك أكثر من 650 ألف لاجئ سوري مسجل في الأردن منذ عام 2011 تقول عمّان إن الاستضافة كلفت المملكة أكثر من 10 مليارات دولار حتى نهاية العام 2017.وما زالوا يشكلون عبئاً كبيراً على الدولة الأردنية , لكن السياسية العربية الأصيلة للعائلة الهاشمية المالكة برئاسة الملك عبد الله قد وضعت واجبات الأخوة العربية فوق اعتبارات الحاجة المالية وسط معونات إقليمية ودولية محدودة  .

تحمل الأردن ملكاً وشعباً هذه الأعباء الشاقة ولم يتراجع عن حسه العروبي , بل أصبح الأردن آخر القلاع العربية الصامدة بوجه المد التخريبي الإيراني وسياسات  إسرائيل في تهويد جميع الأراضي الفلسطينية المحتلة ورفضها الخضوع لحل الدولتين رغم قساوته التاريخية على الفلسطينيين .

لا شك إن المنطقة تشهد تحولات استراتيجية خطيرة وتغييرات في خارطة المصالح السياسية والاقتصادية لأهم دول المنطقة , مطلوب تطويع الأردن كما طوّع العراق واختطف بيد طهران وكذلك سوريا ولبنان حيث ستتقاسم النفوذ مع إسرائيل برعاية أمريكية وروسية .

العدد 116 / ايار 2021