البابا في العراق: لقاء الحضارات

التنوع والتعدد والتسامح ورسائل سياسية مباشرة لانتشال البلد من محنته

محمد قواص

أن يزور البابا فرنسيس العراق فذلك حدث استثنائي في تاريخ هذا البلد كما في تاريخ البابوية نفسها. يحتاج العراق إلى مفترق حقيقي للانفتاح على العالم من خلال ما يمثله الحبر الأعظم في العالم لا سيما لدى المسيحيين، وتحتاج الكنيسة الكاثوليكية أن تنشط دورها التاريخي في مخاطبة المشهد الدولي، لا سيما في الشرق الأوسط، في مرحلة الفوضى والغموض في المشهد الدولي الراهن. ولئن يطرق البابا باب “الشرق” من جديد بعد زيارات قام بها إلى مصر والإمارات والمغرب، فإن العراق تطلع إلى “حج” البابا إلى بلدهم كواجهة كبرى لتعويم البلد عالميا وإخراجه من مستنقع آسن في سمعته وصورته كبلد حاضن للميليشيات والجماعات وتنظيمات الأرهاب الأكثر خطورة في العالم.

قرار الزيارة حاسم

مثلت زيارة البابا فرنسيس، بابا الفاتيكان للعراق، بين الخامس والثامن، من آذار/مارس الماضي، موضعا لحديث متشعب، عبر وسائل الإعلام، ووسائل التواصل الاجتماعي، من حيث أهدافها ودلالاتها، بين حديث عن رمزية التوقيت، والاهداف الانسانية، وكذلك المصالح المتحققة منها للطرفين، وما إذا كانت لاتخلو من الشأن السياسي أيضا.

لم تصب كل الأخبار التي راجت وروجت لإمكانية تأجيل أو إلغاء الحبر الأعظم زيارته الموعودة إلى العراق. جرى الحديث عن الوضع الصحي للبابا وعوائق جائحة كورونا. وجرت إشاعة أنباء حول أخطار أمنية تهدد البابا خصوصا أن الوضع الأمني في العراق، سواء في ما تعرض له ناشطون من اغتيالات أو في ما يطلق من صواريخ تستهدف مصالح ومواقع أميركية في البلاد، يوحي بمصداقية التحذيرات، الحقيقية أو المزيفة حول هذا الشأن.

البابا فرنسيس: المسيحيون أصل وحاجة في العراق

والحال أن وسائل الإعلام الدولية لم تصدق أمر حصول الزيارة إلا بعد أن أقلعت طائرة البابا متوجهة إلى العراق، ولم تحسم أمر حدوث تلك الزيارة إلا بعد أن حطت تلك الطائرة في مطار بغداد. والحال أيضا أن حكومة مصطفى الكاظمي استنفرت مواردها ووسائلها وإمكاناتها لإنجاح الزيارة بحيث ضبطت إدجاريا وأمنيا ولوجيستيا وإعلاميا وسياسيا كل لحظة من مسار الأيام الثلاث التي قضاها رأس الكنيسة في العراق.

ورأى كثير من القيادات السياسية والدينية في العراق أن الزيارة تمثل حدثا تاريخيا للعراق، ملمحين إلى رمزية التوقيت، كونها الزيارة الأولى للبابا خارج الفاتيكان، منذ بدء جائحة كورونا، في حين أشار البعض إلى ماتحمله الزيارة من معاني روحية تتعلق بالتعايش بين الأديان ،ومن دلالات لسعي الفاتيكان، للانفتاح على مسلمي العالم الشيعة، الذين يقدر عددهم بمئتي مليون مسلم في أنحاء العالم.

مسار أبوظبي

وكان البابا قد سعى أيضا، للانفتاح على مسلمي العالم، من خلال زيارته إلى أبو ظبي في شباط/فبراير 2019، ولقائه شيخ الأزهر أحمد الطيب هناك، حيث وقعا ما عرف بـ “وثيقة الأخوة الإنسانية”، لتشجيع مزيد من الحوار بين المسيحيين والمسلمين، لكن وفي غمرة الحديث عن الجانب الروحي ومعاني زيارة البابا الإنسانية للعراق، فإن البعض يتحدث أيضا،عن أن الزيارة ليست بعيدة عن السياسة، وأنها تحمل في جانب منها أهدافا سياسية ومصالح قد تتحقق للطرفين.

من يراقب خرائط زيارة البابا فرنسيس إلى العراق يسهل عليه رؤية كل المشهد العراقي الذي عرفه البلد منذ غزو بغداد عام 2003. وسواء في جولته في العاصمة أو النجف أو في الموصل وأربيل و مدينة أور (التي يعتقد أن فيها ولد النبي إبراهيم، الذي يؤمن به اليهود والمسيحيون والمسلمون على السواء)، فإن الزائر جاء يجول على عراق متعدد في جغرافيته ومكوناته وطوائفه وثقافته، كما تقصّد أن يرى البلد في تاريخه العتيق كما في في واقعه الحديث. فبين ميثولوجيا العراق في التاريخ عامة، والتاريخ المسيحي خاصة، ومواساة الناس في الموصل والجوار مسار تاريخي شديد الوضوح والقسوة يروي حكاية هذا البلد الذي تمتد فضاءاته من روايات الديانات الإبراهيمية إلى روايات ما ارتكبه تنظيم داعش والميليشيات المسلحة المتناحرة داخل الصورة الكاملة للعراق بين الأمس البعيد واليوم.

فرنسيس – السيستاني

وكما في أي بلد عربي زاره البابا في السنوات الأخير، فإن الزيارة كانت عيدا وطنيا عراقيا حقيقيا في بلد قلت فيه الأعياد. قبل أن يرأس في أربيل قداسا حضره 10 آلاف من مسيحيي العراق، كان رأس الكنيسة الكاثوليكية في العالم قد زار في مدينة النجف المرجع الشيعي السيد علي السيستاني. والحقيقة أن العالم اهتم لكل تفصيل في مشاهد اللقاء بين فرنسيس والسيستاني مسهبا في تفسير رمزية اللقاء بين شخصيتين روحيتين يمتلكان المكانة الدينية لدى الكاثوليك والشيعة في العالم. وفي ما سلط أيضا من ضوء على تأثير الديانات هذه الأيام على مسار السياسة والعلاقات الجيوستراتيجية في عالم يفتقد إلى نظام شامل واضح المعالم والتكوين، كما يفتقد إلى رواية نظرية تؤسس في الشرق أو الغرب لخيارات سياسية تضبط منظومة المصالح وشططها.

لم يبتعد ما خرج به البابا في محادثاته مع السيستاني في النجف عما خرج به البابا في الإمارات قبل عامين بعد لقائه بإمام الأزهر الشريف الشيخ أحمد الطيب. ولم تحد مخارج ما توصل إليه الزعيمان الروحيان، الكاثوليكي والشيعي، عن وثيقة “الأخوة الإنسانية” التي صدرت عن رئيسي الكنيسة والأزهر في أبوظبي قبل عامين. ولئن كشفت إحدى أفلام الفيديو عن الود الذي ظهر  من خلال إمساك الرجلين بأيديهم خلال دقائق من الحديث الوداعي الذي دار بينهما في نهاية اللقاء، فإن أمر علاقة النجف بالفاتيكان أسال حبرا كثيرا في معانية الروحية والسياسية التي لا يمكن أن تخفى عن فرنسيس والسيستاني.

هي المرة الأولى التي يزور بها البابا العراق في تاريخ العراق والكنيسة الكاثوليكية. وهي المرة الأولى التي التي يلتقي بها أعلى مرجع لدى الشيعة في العالم مع أعلى مرجع لدى المسيحيين الكاثوليك في العالم. ونادرا ما يجري الزعيم الشيعي، البالغ من العمر 90 عاما، لقاءات، ولكنه تحدث مع البابا مدة 50 دقيقة دون أن يرتدي أي منهما كمامة. ولئن لا يتدخل الرجل المسيحي في شؤون المذهب الشيعي في العالم وتنوع مراجعه، إلا أن زيارة البابا للنجف لا يمكن إلا أن تمثل اعترافا مسيحيا، وحتى دوليا، بأهمية مرجعية هذه المدينة على شيعة العالم، وهو أمر، وكما ثبت من ردود الفعل الإيرانية، لم ترتح له مدينة قم في إيران التي ما برحت، منذ قبل ما قبل قيام الجمهورية الإسلامية على يد روح الله الخميني، تسعى لمنافسة النجف المرجعية والدور.

طهران والفاتيكان

لا تنظر إيران إلا بعين القلق إلى السياسة التي يعتمدها الفاتيكان حيال المنطقة. وسواء في زيارة البابا فرنسيس إلى العراق أو في مواقف البطريرك الماروني في لبنان بشارة الراعي، فإن طهران استنتجت تدخلا دوليا في شؤون بعض العواصم التي سبق أن تباهت بإعلان السيطرة عليها.

وفيما تحركت وساطات أسفرت عن إعادة تنشيط لجنة الحوار بين حزب الله وبكركي في لبنان، شنت قناة العالم التلفزيونية التابعة لإيران هجوماً ضد البطريرك الراعي قبل أن تعتذر لاحقا وتلصق الأمر بمقال حذفته لا يعبر عن وجهة نظرها.

والظاهر أن احتجاج البطريركية واتهامها جهة أجنبية بالتدخل في شؤون لبنان والكنيسة، دفع طهران للإيعاز لقناتها بتدبر مخارج لهذه الورطة. ناهيك من أن الأمر مسّ صلاحيات حزب الله في لبنان في إدارة أجندات إيران ومصالحها في البلد، بما في ذلك إدارة العلاقة مع المسيحيين ومع البطريركية المارونية، كما أحرج التيار العوني بصفته الغطاء

البابا يواسي الموصل الجريحة

المسيحي الذي يحتاجه الحزب ويتمسك به.

غير أن ما صدر عن قناة العالم، التي تدار من طهران يعبر عن حقيقة التبرم الإيراني من نشاط الكنيسة الكاثوليكية في المنطقة، خصوصا أن استمرار البطريرك الراعي في الدعوة، وبشكل متصاعد، لعقد مؤتمر دولي لدعم لبنان وتثبيت حياده، لا يمكن أن يجري دون دعم ومباركة البابوية الفاتيكانية. كما أن مهاجمة بعض الجهات الميليشياوية المحسوبة على إيران في العراق زيارة البابا فرنسيس للبلاد، يفصح عن المزاج الإيراني، أو على الأقل ذلك لدى الحرس الثوري، ضد مقاربة البابا وسياساته حيال شؤون مناطق النفوذ المحسوبة على طهران.

والحال أن إيران شديدة التوجس من أي منافسة خارجية تتقدم باتجاه دول مثل لبنان والعراق وسوريا واليمن. وقد بدا ذلك جليا في الموقف من الزيارة المفاجئة التي قام بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى بيروت (6 أغسطس الماضي) بعد يومين من كارثة انفجار مرفئها. دفعت طهران على وجه السرعة بوزير خارجيتها محمد جواد ظريف نحو لبنان، حيث شن من بيروت هجوماً ضد تدخل باريس والدول الغربية في الشؤون اللبنانية.

إيران: رسائل فرنسيس

وتمثل زيارة البابا فرنسيس إلى العراق جهداً مقلقا بالنسبة لطهران لجهة توق العراقيين إلى الانفتاح على العالم الخارجي وإبراز الطابع التعددي لبلدهم، ولجهة إطلالة العالم، من خلال البابا، على العراق كبلد مستقل، في تقاليده وثقافته وهويته ومكانته، عن الوجهة الوحيدة التي تريدها إيران لهذا البلد. كما أن الزيارة تأتي لترفد الشخصية العراقية، بكل مكوناتها، والتي عبر عنها الشارع العراقي منذ “انتفاضة تشرين”، وتدعم مقاومة العراقيين الصعبة للغة العنف والسلاح التي استخدمت لتصفية واغتيال الناشطين.

تلقت طهران صفعة البابا في العراق. “فلتصمت الأسلحة”، دعوة وجهها البابا فرنسيس بما فُهم بوضوح أنها موجهة إلى الأطراف التي ترتكب الجرائم بحق الشباب المنتفضين في العراق، كما تلك التي تطلق الصواريخ المروعة في البلد.

والصفعة الثانية تمثلت في دعوة الحبر الأعظم العراقيين إلى “تقوية المؤسسات”، بما يعني إعلاء شأن ومفهوم الدولة على ثقافة الدويلة وسلوك الميليشيات. وسواء تعلق الأمر في العراق أو في لبنان، وسواء جاءت الكلمات من البابا فرنسيس أو البطريرك الراعي، فإن الرسالة واحدة واضحة في الدفاع عن سيادة الدولتين وإعلاء شأن مؤسساتهما و “التصدي لآفة الفساد”، ومن يقف حاميا راعيا لها.

البابوية والعالم

لا تمثل البابوية في روما سلطة روحية دينية فقط. مثلت الكنيسة الكاثوليكية وجهة سياسية دولية وبوصلة لها في مراحل تاريخية عديدة. ولطالما اعترف العالم، في العصر الحديث، بالدور الرائد الذي لعبه البابا الراحل يوحنا بولس الثاني عبر شعاره الإنجيلي “لا تخافوا” في تصدّع المعسكر الذي كان يقوده الاتحاد السوفياتي في العالم. فإذا ما كان البابا يوحنا (البولندي) عام 1978 أول حبر أعظم غير إيطالي منذ 455 عاماً، فإن البابا فرنسيس (الأرجنتيني) هو أول بابا من أميركا اللاتينية في تاريخ البابوية. وبين الرجلين خط سير واحد يسعى لحفر مسار تاريخي لافت في التأثير على خرائط العالم الجيوستراتيجية.

يستعيد البابا فرنسيس موقف الراحل يوحنا بولس الثاني بشأن العراق. رفض الأخير التدخل الخارجي في شؤون هذا البلد عام 2003، ويأتي البابا الحالي ليطرق نفس الباب الذي تسمعه جيداً آذان الحاكم في إيران. فإذا ما كانت طهران مطلعة على تأثير البابا الراحل في اندثار الامبراطورية السوفياتي والمعسكر الاشتراكي، فإنها تدرك، بجدية، ما للبابا الحالي وامتدادات بابويته في المنطقة من تأثير يفسر رد الفعل الإيراني المتوتر حيال مسعى البطريرك الراعي في لبنان.

تحفظت ميليشيات إيران في العراق على زيارة رئيس الكنيسة الكاثوليكية في العالم للعراق. بلغ الضيق بطهران إلى تذكير البابا بجميلها في تسهيل زيارته، ذلك أنه، وفق ما غرد مساعد رئيس البرلمان الإيراني أمير عبد اللهيان، “لولا دور وتضحيات أبو مهدي المهندس واللواء سليماني وشهداء محاربة الإرهاب وداعش في العراق والمنطقة، لما تمكن البابا من دخول العراق اليوم بأمان وسلام”.

النجف وقمّ

لا يمكن لطهران إلا التطلع بعين الريبة إلى لقاء البابا فرنسيس بالمرجع الشيعي الكبير علي السيستاني في النجف. لا يؤمن السيستاني بولاية الفقيه ولا بمرجعية الولي في إيران على شيعة العالم. في قمّ من قرأ اللقاء بصفته تأكيدا لمرجعية النجف في العراق وإعلاء من شأنها على حساب مرجعية قم في إيران. كان رجل الفاتيكان الأول قد وقع في أبوظبي قبل عامين (4 فبراير 2019) وثيقة “الأخوة الإنسانية” مع شيخ الأزهر أحمد الطيب. بدا في في تلك المناسبة آنذاك كما في لقائه مع السيد السيستاني في النجف أن البابا فرنسيس والكنيسة يعرفان العنواين الصحيحة والمفاتيح الحقيقية للمنطقة.

منذ سقوط بغداد عام 2003 بعد عامين على سقوط البرجين في نيويورك روجت طهران لنفسها حامية للمسيحيين وللأقليات في الشرق. شيء ما حصل في منزل متواضع في النجف. التقى البابا مع المرجع الأعلى على سقوط هذا الزعم، ذلك أن لا شيء يحمي العباد إلا دولتهم ومؤسساتها و “صمت الأسلحة”.

مسيحيو العراق والشرق

ربما تكون الرسالة الأهم لتلك الزيارة، هي رسالة التطمين لمسيحيي العراق، الذين نزح عدد هائل منهم خارج البلاد، بفعل مخاوفهم المتزايدة، في ظل الهجمات الإرهابية التي تعرض لها العراق، على مدار السنوات الماضية، والتي استهدفت ضمن من استهدفت، المكون المسيحي للمجتمع العراقي، ومنذ العام 2003 تراجع أعداد المسيحيين في العراق، إلى أكثر من ثلثي عددهم، الذي كان يقترب من مليوني مواطن عراقي.

ويعتبر محللون، أن زيارة البابا فرانسيس للعراق، ستسفر عن تلطيف لأجواء العلاقة، بين مسيحيي العراق ومسلميه، وأنها قد تعزز من انفتاح المسيحيين على المسلمين، شركائهم في الوطن، بعد فترة توتر طويلة عاشها المسيحيون والعراق بشكل عام.

غير أن جانبا من المسيحيين العراقيين، يرون أن زيارة البابا ليست سوى شكلا مراسميا، ربما لم يتجاوز جولات أعد لها سلفا، وأن الرجل ربما استمع فقط، للكلمات الطيبة، في وقت يرون فيه، أن الواقع على الأرض بالنسبة لمسيحيي العراق، ربما يكون مختلفا تماما في قسوته، عن الأجواء الاحتفالية والمراسم

وسواء في توجه البابا جنوبا نحو النجف أو شمالا نحو الموصل وإقليم كردستان، فإن البابا فرنسيس سعى لمقاربة العراق والعراقيين وفق حاضرهم وتاريخهم الحديث وما توصلوا إليه من تقسيمات إدارية كما من منظومة دستورية تنظم العلاقات بين مكونات هذا البلد. وتحت هذا السقف أطلق البابا نداءه الخائف على مسيحيي العراق كما مسيحيي الشرق برمته. والظاهر أن الكنيسة التي لطالما اتهمت بإغفال الاهتمام بالمسيحيين في الشرق الأوسط، باتت في السنوات الأخيرة، لا سيما في عهد البابا الحالي تتحرك وفق استراتيجية حصيفة تسعى للدفاع عن الوجود المسيحي من خلال نسج علاقات ممتازة مع كل المحيط. فالبابا في الإمارات والمغرب ومصر والعراق يدعو المسيحيين إلى العودة والبقاء في بلدانهم بصفتهم جزءا أصيلا من تاريخ الشرق ونسيجه الاجتماعي والسياسي والاقتصادي وليست جماعة نافرة تحتاج إلى حمايات أجنبية. فصحيح أن الإرهاب والنظم السياسية قد ضغطت على الوجود المسيحي وهددت وجوده، بيد أن الأرهاب وهذه النظم فعلت نفس الشيء مع كل المكونات الاجتماعية والدينية الأخرى.

في استقبال البابا في مطار بغداد اصطفت فرق غناء تراثي ترتدي ألبسة تمثل كافة التنوعات الثقافية والاجتماعية للشعب العرافي. أراد العراقيون تقديم العراق بهذا الثراء الذي لطالما اشتغل جهات داخلية وخارجية على تشويهه، تارة من خلال إرهاب دينية ينكر على الأديان الأخرى وجودها وتارة من خلال سطوة مذهبية تستقوي على المذاهب الأخرى. بدا أن استعادة الحضور المسيحي بات حاجة للمسلمين في العراق، وبدا في الوقت عينه أن إطلالة العراق على العالم من شرفة زيارة البابا إلى هذا البلد وحب أن لا تكون مناسبة ظرفية تنتهي مفاعيلها بعد ساعات على انتهاء الحفل ومغادرة البابا أرض البلاد، بل وجب أن تكون قاعدة للتأسيس عليها لانتاج صفحة جديدة من تاريخ هذا البلد. هذا ما يفسر دون لبس تعجل رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي إلى النهل من روح المناسبة الكبرى والذهاب نحو حوار وطني داخلي بين جميع المكونات المتعارضة لإرساء سلوك ينقد البلد ويؤمن مصالحه.

من يراقب جيدا ما قاله البابا في العراق وإقبال العراقيين على الحدث، ومن تأمل قبل ذلل زيارة البابا إلى دول عربية أخرى يسهل عليه أن يسقط نظرية صموئيل هنغتنتون الشهيرة عن “صدام الحضارات”. إنه لقاء الحضارات في العراق.

بعض ما كتبت وسائل الاعلام العالمية عن لقاء البابا فرنسيس بالمرجع الشيعي السيد علي السيستاني

النيويورك_تايمز

لم يكن هناك فيديو للاجتماع ، ولم تكن هناك حشود تهتف وتغني.  لكن من نواح كثيرة ، كان الاجتماع بين البابا فرنسيس والسيدالسيستاني الأكثر احتراما في مدينة النجف. جلس الشيخان – آية الله العظمى علي السيستاني ، 90 عامًا ، والبابا فرانسيس ، 84 عامًا ،كل منهما أعلى سلطة دينية بين أتباعهما – على مقاعد خشبية بسيطة في منزل آية الله المتواضع.

وكالة انباء الفاتيكان

زار قداسة البابا فرنسيس مدينة النجف العريقة والتي تحتوي على ضريح اكثر الشخصيات احتراما في الاسلام وهو علي ابن ابي طالباول من دخل في الاسلام وهو الذي يعتبر عند المسلمين الشيعة ثالث اقدس الاماكن بعد مكة والمدينة وذلك للقاء المرجع الاعلى السيدالسيستاني والذي دعا العراقيين في عام 2014 إلى الاتحاد للقتال ضد الدولة الإسلامية.  في الآونة الأخيرة ، في نوفمبر 2019 ، عندماخرج السكان إلى الشوارع احتجاجًا على غلاء المعيشة وعدم الاستقرار السياسي الوطني ، دعا السيستاني المتظاهرين والشرطة إلىالتزام الهدوء وعدم اللجوء إلى العنف.

– موقع cnn  الإخباري

عقد البابا فرنسيس اجتماعاً تاريخياً مع رجل الدين الشيعي الموقر آية الله العظمى علي السيستاني في اليوم الثاني من زيارة البابا للعراق.

يمثل الاجتماع البابوي الذي استمر 45 دقيقة في مدينة النجف الأشرف مع السيستاني البالغ من العمر 90 عامًا – والذي نادرًا ما يظهرعلنًا – أحد أهم القمم بين البابا وشخصية دينية بارزة في السنوات الأخيرة.

وخلال اللقاء شكر السيستاني فرنسيس على جهوده في السفر إلى النجف ، وقال له إن المسيحيين في العراق يجب أن يعيشوا “مثل كلالعراقيين بأمن وسلام ، مع حقوقهم الدستورية الكاملة ،  بحسب بيان صادر عن ديوان آية الله العظمى.

– وكالة رويترز_العالمية للانباء

دخل البابا فرنسيس حارة ضيقة في مدينة النجف المقدسة بالعراق لعقد اجتماع تاريخي مع رجل الدين الشيعي الأعلى في المحافظة وزارمسقط رأس النبي إبراهيم يوم السبت لإدانة العنف بسم الله باعتباره “أكبر كفر”.

– وكالة AP العالمية

وقال مسؤول ديني في النجف ، شريطة عدم الكشف عن هويته ، إن الاجتماع “الإيجابي للغاية” استمر 40 دقيقة إجمالاً. وقال المسؤول إنالسيستاني ، الذي يظل جالسا عادة للزوار ، وقف لتحية فرانسيس عند باب غرفته – وهو شرف نادر.  جلس السيستاني وفرانسيس بالقربمن بعضهما البعض ، بدون أقنعة.  كان السيستاني ، الذي نادرًا ما يظهر في الأماكن العامة – حتى على شاشات التلفزيون مرتديا الزيالاسود بينما يرتدي البابا الزي الابيض.

خلع البابا حذائه قبل دخول غرفة السيستاني وقدم له الشاي وزجاجة مياه بلاستيكية.  وتحدث السيستاني في معظم الاجتماع. وقال المسؤول إن فرانسيس توقف قبل أن يغادر غرفة السيستاني لإلقاء نظرة أخيرة.

من يراقب خرائط زيارة البابا فرنسيس إلى العراق يسهل عليه رؤية كل المشهد العراقي الذي عرفه البلد منذ غزو بغداد عام 2003. وسواء في جولته في العاصمة أو النجف أو في الموصل وأربيل و مدينة أور، فإن الزائر جاء يجول على عراق متعدد في جغرافيته ومكوناته وطوائفه وثقافته، كما تقصّد أن يرى البلد في تاريخه العتيق كما في في واقعه الحديث. فبين ميثولوجيا العراق في التاريخ عامة، والتاريخ المسيحي خاصة، ومواساة الناس في الموصل والجوار مسار تاريخي شديد الوضوح والقسوة يروي حكاية هذا البلد الذي تمتد فضاءاته من روايات الديانات الإبراهيمية إلى روايات ما ارتكبه تنظيم داعش والميليشيات المسلحة ..

لم يبتعد ما خرج به البابا في محادثاته مع السيستاني في النجف عما خرج به البابا في الإمارات قبل عامين بعد لقائه بإمام الأزهر الشريف الشيخ أحمد الطيب. ولم تحد مخارج ما توصل إليه الزعيمان الروحيان، الكاثوليكي والشيعي، عن وثيقة “الأخوة الإنسانية” التي صدرت عن رئيسي الكنيسة والأزهر في أبوظبي قبل عامين. ولئن كشفت إحدى أفلام الفيديو عن الود الذي ظهر  من خلال إمساك الرجلين بأيديهم خلال دقائق من الحديث الوداعي الذي دار بينهما في نهاية اللقاء، فإن أمر علاقة النجف بالفاتيكان أسال حبرا كثيرا في معانية الروحية والسياسية التي لا يمكن أن تخفى عن فرنسيس والسيستاني.

يستعيد البابا فرنسيس موقف الراحل يوحنا بولس الثاني بشأن العراق. رفض الأخير التدخل الخارجي في شؤون هذا البلد عام 2003، ويأتي البابا الحالي ليطرق نفس الباب الذي تسمعه جيداً آذان الحاكم في إيران. فإذا ما كانت طهران مطلعة على تأثير البابا الراحل في اندثار الامبراطورية السوفياتي والمعسكر الاشتراكي، فإنها تدرك، بجدية، ما للبابا الحالي وامتدادات بابويته في المنطقة من تأثير يفسر رد الفعل الإيراني المتوتر حيال مسعى البطريرك الراعي في لبنان.

والظاهر أن الكنيسة التي لطالما اتهمت بإغفال الاهتمام بالمسيحيين في الشرق الأوسط، باتت في السنوات الأخيرة، لا سيما في عهد البابا الحالي تتحرك وفق استراتيجية حصيفة تسعى للدفاع عن الوجود المسيحي من خلال نسج علاقات ممتازة مع كل المحيط. فالبابا في الإمارات والمغرب ومصر والعراق يدعو المسيحيين إلى العودة والبقاء في بلدانهم بصفتهم جزءا أصيلا من تاريخ الشرق ونسيجه الاجتماعي والسياسي والاقتصادي وليست جماعة نافرة تحتاج إلى حمايات أجنبية. فصحيح أن الإرهاب والنظم السياسية قد ضغطت على الوجود المسيحي وهددت وجوده، بيد أن الأرهاب وهذه النظم فعلت نفس الشيء مع كل المكونات الاجتماعية والدينية الأخرى.

العدد 115 / نيسان 2021