التضخم شوكةٌ في “جسد” اقتصاد تركيا

هلا صغبيني

دخلت تركيا العام 2021 على وقع تضخم كبير تخطى تقديرات مصرفها المركزي، وتمنايته. فالبيانات الرسمية أظهرت ارتفاع المعدل السنوي للتضخم بأكثر مما كان متوقعاً ليصل إلى 14.97 في المئة في كانون الثاني (يناير)، وسط شكوك بتخطيه هذه النسبة بحوالي الثلاثة أضعاف.

وكان الاقتصاد التركي تضرر بفعل الضغوط السلبية الناجمة عن تفشي جائحة كورونا، وتوقف عجلة السياحة بسبب القيود الدولية الصحية، وتراجع الطلب العالمي على الاستهلاك.

الأرقام المعلن عنها عن مستوى التضخم وارتفاع الأسعار تعني أن جهود حاكم المصرف المركزي الجديد ناجي إقبال لم تكن كافية لاقتلاع شوكة التضخم من “جسد” الاقتصاد التركي على طريق استعادة ثقة الشعب به. وهو الهدف

حاكم المصرف المركزي التركي الجديد ناجي إقبال

الأساس الذي عُين من أجله. فإقبال، وزير المالية السابق ورئيس إدارة الإستراتيجية والموازنة في الرئاسة التركية والعارف أصلاً بخفايا الأرقام وخباياها، رسّخ فور تسلمه منصبه صورة المسؤول الذي سيكافح التضخم عبر سياسة نقدية متشددة “عدّتها” زيادة سعر الفائدة تستهدف الوصول الى مستوى تضخم 9.4 في المئة نهاية العام الجاري لينخفض إلى 7 في المئة في 2022 و5 في المئة في 2023. استنجد به الرئيس رجب طيب أردوغان في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي (بالتوازي مع تعيينه وزيراً جديداً للخزانة والمالية) أملاً في إنقاذ سفينة الاقتصاد من الغرق بعدما تراجعت الليرة التركية إلى أدنى مستوياتها القياسية مقابل الدولار الأميركي حيث كان هبوطها الأشد حدَّة في الأسواق الناشئة بعد البيزو الأرجنتيني.

زيادة أسعار الفائدة هذه التي عززت قيمة الليرة بعض الشيء، جاءت على مرحلتين: الاولى في 20 تشرين الأول (نوفمبر) 2020 حيث ارتفعت إلى 15 في المئة من 10.25 في المئة، والثانية في 25 كانون الأول (ديسمبر) 2020 لتقفز إلى 17 في المئة.

ولكن يبدو أنها لم تشكل حافزاً مهماً لدفع الأتراك الى تحمل مخاطر الاحتفاظ بالليرة التركية، فآثروا الاستمرار في مراكمة ودائعهم بالعملات الأجنبية. بدليل أن الودائع بالعملات الأجنبية للمقيمين سجلت رقماً قياسياً لـ10 أسابيع متتالية، لتصل إلى 234.8 مليار دولار أميركي، بحسب بيانات المصرف المركزي المنشورة في 25 كانون الاول

الأتراك يعانون من الارتفاع الكبير لأسعار المواد الغذائية

(ديسمبر). ومن غير المرجَّح أن يخفف هؤلاء من حجم حيازاتهم بالعملة الصعبة، بما أنَّ لديهم شكوكاً حول استقرار السياسات النقدية والحكومية. ماذا يعني ذلك؟ سيكون المصرف المركزي مضطراً إلى الالتزام بهذه السياسة لفترة أطول مما كان متوقعاً، وقد يتجه الى إقرار زيادة جديدة حتى يقع التضخم ضمن نطاقه المستهدف.

صحيح أن سياسة زيادة أسعار الفائدة لم تنجح في كبح معدلات الدولرة في الودائع، الا أنها ساهمت في المقابل في زيادة تدفقات رأس المال قصيرة الأجل (المعروفة بالأموال الساخنة)، ما عزز قليلاً احتياطات المصرف المركزي من النقد الأجنبي بعدما كانت بلغت مستويات دنيا (انخفضت الاحتياطات الصافية باستثناء مقايضات العملات الأجنبية بنحو 70 مليار دولار  عام 2020)، وساعد بالتالي في تحسين قيمة العملة المحلية.

وكانت تركيا أنفقت أرصدتها من العملات الأجنبية بشكل أسرع من أيِّ اقتصاد نامٍ رئيسي آخر خلال العام 2020، وشكّل تراجع احتياطاتها الدولية سبباً رئيسياً لتراجع الليرة التركية. وتتطلب إستعادة تعزيز هذه الاحتياطات أسعار فائدة أعلى، ورفع معنويات المستثمرين، بما يحفز تدفقات رأس المال الأجنبي.

مواجهة محتملة

سياسة زيادة أسعار الفائدة قد تواجه مقاومة من الحكومة. الأمر الذي تداركه حاكم المصرف المركزي باكراً، فقرر إحراجها عبر رسالة علنية حضها فيها على مساندته ودعمه في إجراءاته من خلال اتخاذ خطوات حاسمة وإصلاحات هيكلية تضمن الحد من التقلبات في التضخم وتعزز استقرار الأسعار. وكانت لافتة “علاقة المساكنة” بين إقبال ووزير الخزانة والمالية لطفي ألوان غير المألوفة في العادة بين حاكم مصرف مركزي ووزير مالية. فلطفي ألوان أعلن جهاراً تأييده لسياسة المصرف المركزي، وعدم تخليه عن الإجراءات اللازمة للوصول إلى معدلات التضخم المستهدفة، من منطلق أن لا نمواً مستداماً من دون استقرار في الأسعار.

استقلالية المصرف المركزي؟

ولكن إلى أي حد سيبقى المصرف المركزي التركي متشبثاً بتطبيق سياسته المتشددة؟ سؤال يطرحه بإلحاح المستثمرون والخبراء اليوم مستندين الى “الخروقات” المتكررة للرئيس التركي تجاه هذه المؤسسة ونسفه مبدأ استقلاليتها ومخالفته قوانينها بعزله حاكمين بـ”شحطة قلم”، وهو ما أثار، ولا يزال، انتقادات المؤسسات المالية الدولية. حتى أن مؤسسات تصنيف دولية رأت في تدخل الرئيس التركي في قرارات المصرف المركزي وفي موضوع سعر الفائدة “مشكلة” انعكست سلباً على سعر صرف الليرة التركية.

وكان أردوغان عزل مراد أويصال الذي كان يفترض أن يبقى في موقعه حتى العام 2023، وقبله مراد جتين قايا. حجته في ذلك الانهيار الكبير لليرة التركية مقابل الدولار. والتكهنات الراهنة أن يفرمل أردوغان تصميم إقبال على مواجهة التضخم ويمنع استمراره بسياسته النقدية المتشددة. لا بل من المرجح أن يعيد إعادة ضبط السياسة النقدية لتكون أكثر ملاءمة للنمو، من دون أن يأخذ في الاعتبار ما إذا كان هذا الأمر يهدد استقرار الأسعار على المدى الطويل.

ويبدو أن أردوغان أشهَر سلاح المواجهة بموقف يؤشر الى طبيعة العلاقة مع المصرف المركزي في المرحلة المقبلة. فإعلان الأخير الاستمرار في سياسته النقدية المتشددة بعد صدور أرقام التضخم، قابله رد صارم من اردوغان. قال إنه سيستحيل على البلاد تحقيق أهداف التضخم مع بقاء أسعار الفائدة مرتفعة، وأن خفضها سيساعد أيضا في زيادة التوظيف والاستثمارات.

يقول مطلعون إن أردوغان يتخوف من إقدام رجال الأعمال على خفض اقتراضهم من المصارف في ظل زيادة الفائدة، لأن هذا الأمر سيؤثر سلباً على تراجع معدلات الاستثمار، وسيكون له بالتالي تداعيات سلبية على رفع معدلات البطالة.

فهل سينجح إقبال في مواجهة رغبات رئيسه، أو أنه سينصاع لها حتى لو اختلفت الدوافع بينهما، سيما وأنه يُستبعد أن تتخلى شخصية تتمسك برأيها مثل أردوغان عن وجهة نظرها؟.

أما مكمن الخطر الأكبر هو في أن يقدم أردوغان مع اقتراب الانتخابات المقرر إجراؤها عام 2023، على تعيين حاكم آخر للمصرف المركزي يكون مكلفاً بمهمة خفض أسعار الفائدة بعد أن يكون إقبال مُنح الوقت الكافي لتحقيق بعض الاستقرار في الاقتصاد.

مؤشرات الـ2020 وتوقعات الـ2021

لقد كانت تركيا واحدة من الدول القليلة حول العالم التي تحقق نمواً اقتصادياً إيجابيًا عام 2020 بسبب سياسة إبقاء أسعار الفائدة أقل من التضخم وتحفيز نمو الائتمان. تكرار هذا الحافز غير ممكن في العام 2021. فالحكومة التي اختارت مواجهة الانكماش الاقتصادي الذي تسبب به فيروس كورونا من خلال تحفيز الإقراض بدلاً من منح الدعم المالي المباشر للأسر، وصلت الآن إلى جدار مسدود في معدلات التضخم والقيود المفروضة على الموازنة. وفي المقلب الآخر، بلغت القروض المتعثرة في النظام المصرفي التركي مستويات مرتفعة قد تتعدى الـ 20 في المئة من الحجم الإجمالي للإقراض، الأمر الذي يصعب معه الاستمرار في هذا الخيار.

كما أن تزايد الضغوط على الاقتصاد التركي أدى الى تدهور الحساب الجاري وتسجيله عجوزات كبيرة وصلت الى حدود الـ 40 مليار دولار في نهايات العام الماضي بعد فائض بـ8 مليارات دولار خلال العام 2019. وقد بلغت الفجوة حدود الـ الى 4.5 في المئة من الناتج المحلي، ولا قدرة على سدّها من عائدات السياحة أو من القطاع الخاص أو الاقتراض الخارجي للمصارف، أو حتى عن طريق زيادة الاستثمارات المباشرة. فمداخيل السياحة تدنت الى حدودها الدنيا. والاستثمارات المباشرة انخفضت إلى ما يقرب من الصفر. والأموال الساخنة هربت. والقطاع الخاص اضطر الى سداد ديونه الخارجية. ولم يبق مصدر لتمويل هذا العجز المتزايد سوى احتياطات المصرف المركزي من العملات الأجنبية والتدفقات الوافدة من الخارج، مما فاقم الضغط على الليرة.

صندوق النقد الدولي من جهته يتوقع انخفاض عجز الحساب الجاري إلى 3.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في 2021 مع عودة نشاط القطاع السياحي. كما يتوقع تراجع التضخم قليلاً نهاية 2021 من دون أن يصل الى المستوى المستهدف مع ترحيبه بتشديد السياسة النقدية والتباطؤ الملحوظ في الإقراض المصرفي المملوك للدولة. لكنه، وإن توقع نمو اقتصاد تركيا بنحو 6 في المئة هذا العام، حذر في المقابل من انخفاض احتياطات النقد الأجنبي، ومن ارتفاع احتياجات التمويل الخارجي، وزيادة الودائع المحلية بالعملات الأجنبية.

ختاماً، إنّ أكثر ما يمكنه التأثير إيجاباً على مستقبل تركيا ودرجة تصنيفها الائتماني، هو نجاحها في خفض معدل التضخم بطريقة مستدامة، وإعادة بناء سياسة نقدية ذات صدقية، وتعزيز الثقة في استدامة التمويل الخارجي، وزيادة مدخراتها المحلية، والحد من الدولرة، وتقليل الاعتماد على الاقتراض الخارجي. هذه الإجراءات ستمهد الطريق بالتأكيد لعملة محلية أقوى واحتياطات أعلى وتساهم في زيادة معدلات النمو، لا سيما عندما تقترن بإصلاحات أوسع، بما في ذلك خطوات لدعم استقلالية المصرف المركزي ومراجعة فنية لإطار السياسة النقدية في الوقت المناسب.

العدد 114 / اذار 2021