لبنان المأزوم… بين حَدّي انتظار الدعم العربي والمتغيرات الدولية

أين مسؤولية اللبنانيين؟ وهل صار وقت بحث تغيير النظام؟

بيروت – غاصب المختار

ترنّح لبنان مطوّلاً تحت وطأة الخلافات حول تشكيل الحكومات، منذ تشكيل حكومة الرئيس نجيب ميقاتي عام  2011، وحتى تشكيل حكومة الرئيس سعد الحريري الاخيرة، مروراً بحكومة الرئيس تمام سلام، وحكومة الرئيس حسان دياب وصولاً إلى ازمة الرئيس الحريري مؤخراً بعد إعادة تكليفه. وبقيت اسباب الخلافات هي ذاتها، مرة حول حصص الاطراف السياسية، ومرة حول الصلاحيات الدستورية بين رئيسي الجمهورية والحكومة، ومرة حول مراعاة التوازنات الداخلية السياسية والطائفية. لكن في النهاية تحصل التسويات الظرفية على قاعدة “تبويس اللحى” ومراعاة مصالح الاطراف، لكن نتائجها السلبية والمخيبة تظهر خلال عمل الحكومة فتشلها نتيجة الصراعات داخلها.

الأزمة السياسية الداخلية في لبنان ليست مستجدة.هي نتيجة تراكمات ومواقف مسبقة عمرها عشرات السنين، خاصة خلال حروب الاخوة الاعداء. حيث لم تفلح التفاهمات الموسمية أو المؤقتة، ولا التحالفات الانتخابية الظرفية لاحقاً في تحقيق استقرار مُستدام، بل إن جروح خلافات الحرب الأهلية والحروب الصغيرة لا زالت تحفر في الوجدان السياسي والشعبي.

ازمة حكم ونظام

على هذا الحال، المشكلة صارت في لبنان أزمة حكم وتحولت الى  ازمة نظام ، نتيجة المخاوف المفتعلة حول الصلاحيات الرئاسية الدستورية والميثاقية في تمثيل الطوائف، وكيفية إدارة الحكم، وتحت عنوان الهواجس الطائفية التي تحركها القوى السياسية لتثبيت مواقعها السياسية والطائفية. لذلك صدرت الدعوات من أكثر من طرف سياسي ومن المجتمع المدني الفاعل والناشط، إلى فتح نقاش حول تعديل آليات النظام، ولا بأس من نقاش حول تعديل أو توضيح بعض بنود الدستور (دستور اتفاق الطائف 1991)، لتتضح الثغرات فيه والتي يتحجج بها السياسيون للبقاء على خلافاتهم، وليتم ترييح النظام السياسي من التعقيدات التي تتحكم به وتعطّل كل شيء.

وساهمت أيضاً خيارات القوى السياسية المحلية حيال الوضع الاقليمي المتوتر، في نقل صراع المحاور الخارجية الى الداخل اللبناني. وصار الخيار من ليس معنا فهو ضدنا، لا سيما بعد تصاعد الخلاف الخليجي الايراني.

بإنتظار الدعم العربي

هذه الخلافات والانقسامات اللبنانية، مضافاً اليها سؤ الادارة والفساد وتأخر الاصلاحات او عدم رغبة معظم القوى السياسية في تحقيقيها،  أدّت الى شبه هجرة دبلوماسية من لبنان، حيث غادر بيروت لفترة من الوقت بعض السفراء العرب، وسط جمود لأي تحرك للسفراء العرب الاخرين وللموفدين الذين بالعادة يواكبون الوضع اللبناني. بإستثناء زيارة يتيمة لوزيرة وزيرة الصحة والسكان المصريّة هالة زايد استمرت ثلاث ساعات التقت خلالها وزير الصحة اللبناني حمد حسن وغادرت، وسبقها وصول ٣ طائرات من المساعدات الصحيّة والإجتماعيّة المقدّمة من مصر للوقوف إلى جانب لبنان دولةً وشعباً في مواجهة أزمة تفشّي “كورونا”. وزيارة نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن ال ثاني، الذي اعلن من القصر الجمهوري عن مشاريع لإعادة إعمار ما دمره إنفجار المرفأ ومشاريع تنموية وتربوية واقتصادية اخرى لاحقاً. إلى جانب مساعادت صحية وغذائية من السعودية وقطر والكويت، لا تُغني ولا تسد من جوع فعلياً، بعدما تجاوز مستوى الفقر في لبنان نسبة الستين في المئة، وتغيرت حسب دراسات المراكز المختصة تركيبة المجتمع اللبناني.

وجرى الحديث ايضاً عن دعم عراقي لاحقاً عبر اتفاق لبناني ? عراقي يقضي بتزويد لبنان “بالفيول اويل” لتشغيل معامل الكهرباء، وبكميات كبيرة من المحروقات بأسعار متدنية وتسهيلات بالدفع، بعدما بلغ الوضع المتردي لمؤسسة الكهرباء حدّ تهديد لبنان كله بالعتمة الشاملة.

لكن على ما قالت مصادر دبلوماسية لبنانية عاملة في الخليج لـ “الحصاد”، فإن الكويت بصدد التحضير أيضاً لتحرّك ما تجاه لبنان بعدما إنتهت الكويت من إنجاز المصالحة الخليجية، وبعد ما تشكّلت الحكومة الكويتية الجديدة وتسملت مهامها، وان وزير الخارجية الكويتية الشيخ الدكتور احمد الناصر الصباح سيزور بيروت بعد تشكيل الحكومة اللبنانية.

لكن الذي حصل انه تم إدخال مصر أيضاً على خط المعالجات عبر زيارة الرئيس سعد الحريري الى القاهرة مطلع شباط /فبراير ولقاء الرئيس عبد الفتاح السيسي وامين عام جامعة الدول العربية أحمد ابو الغيط ووزير الخارجية سامح شكري ومدير المخابرات العامة، وكذلك دخلت الامارات لاحقاً بطلب فرنسي وعلى الارجح اميركي ايضاً، للمساعدة في حل الخلافات. ولهذا كانت زيارة الحريري إلى ابو ظبي مؤخرا قبل زيارته فرنسا.

وذكرت المعلومات ان الحريري سعى خلال جولته لتأمين الحشد المطلوب عربياً وخليجياً ?ودولياً للمساعدات التي ستقدم للبنان بعد تأليف الحكومة. وأن الحريري يطرح ?تشكيل مجموعة دعم عربية للبنان وإمكان انشاء صندوق عربي لتوفير المساعدات المالية.

فرنسا واميركا الثابت والمتغير

وحدها فرنسا بقيت تسعى عبرمبادرة الرئيس إيمانويل ماكرون في ايلول /سبتمبر الماضي، إلى معالجة مشكلات اللبنانيين، فطرحت الكثير من الافكار ولوّحت بعصا غليظة كالعقوبات على السياسيين، واستخدم مسؤولوها الكبار عبارات تأنيب وتجريح علنية بحق السياسيين اللبنانيين، لكن من دون جدوى. ووصلت القناعة إلى ان العامل الخارجي المؤثر على اوضاع لبنان اكبر وأكثر تأثيراً من الخلافات الداخلية “المقدور عليها”. لذلك دعت فرنسا على مستوى الرئاسة فيها، الولايات المتحدة الاميركية بعد إنتخاب الرئيس جو بايدن، إلى التعامل بمزيد من “الواقعية” مع اوضاع لبنان، ولا سيما حيال تمثيل ومشاركة “حزب الله” في الحكومات، لتحقيق نوع من الاستقرار السياسي للمساعدة في الخروج من الأزمة السياسية والاقتصادية، بعدما أدّت السياسة الاميركية الاميركية السابقة إلى ما وصفته فرنسا تعقيدات إضافية بدل أن تُقدّم حلولاً.

وحسب المعلومات، حددت فرنسا أولويات يمكن لباريس وواشنطن العمل عليها لبنان، وفي طليعتها  تشكيل حكومة لبنانية توافقية يمكنها الاستمرار في العمل بفاعلية على تحقيق الاصلاحات المطلوبة. ولذلك عادت حركة السفيرة الفرنسية في بيروت آن غريو الى زخمها بعد توقف، ودخل رئيس مجلس الشيوخ الفرنسي جيرارد لارشيه على خط مجلس النواب برسالة الى رئيسه نبيه بري.

وثمّة من رد هذه الدينامية الفرنسية ليس إلى علاقة لبنان بفرنسا المتجذرة تاريخياً وحسب، بل أيضاً لأن الرئيس ماكرون مستعجل لمعالجة الوضع اللبناني قبل ان يتفرغ في ايار المقبل للانتخابات الرئاسية. وهو يسعى لمعالجة ملفات اخرى اقليمية ودولية علّها تفيده في معركته.

ويبدو ان المسعى الفرنسي نجح إلى حد ما في تخفيف الضغط الاميركي على لبنان، والذي تمثّل بالعقوبات على سياسيين وشخصيات اقتصادية واجتماعية ورجال أعمال حلفاء لحزب الله او مقربين منه. وحسب المعلومات، فإن حدّة اللهجة الاميركية تراجعت قليلاً الشهر الماضي، وعبرت عنها السفيرة دوروثي شيا خلال جولة على كبار المسؤولين، لعرض التوجهات العامة الجديدة للإدارة الاميركية داخل اميركا وخارجها، والتي ستتضح اكثر بعد فترة قصيرة من بدء وزير الخارجية الجديد أنتوني بلينكن مهامه.

وركزت السفيرة شيا على ان تأليف حكومة لبنانية منسجمة وتحمل برنامجا إصلاحياً واضحاً من شأنه ان يفتح الباب مجدداً  امام الدعم الدولي. كذلك اعادت السفيرة فتح ملف مفاوضات ترسيم الحدود البحرية بين لبنان والكيان الاسرائيلي، والتي توقفت بعد آخر جولة لها في شهر تشرين الثاني ? نوفبر الماضي، بطلب اميركي بعد توسيع المطالب اللبنانية لحدود المنطقة الاقتصادية الخالصة في البحر والتي تحوي الثروات النفطية والغازية وتحاول اسرائيل قضمها.

هذه المتغيرات في التوجهات الاميركية أرخت نوعاً من الارتياح لدى لبنان، خاصة ان بعض من التقتهم السفيرة تحدث عن لغة مختلفة عن تلك السابقة التي كانت معتمدة، فسادها الهدؤ والود والتأكيد على مواصلة الدعم الأميركي بخاصة للجيش اللبناني وللمجتمع المدني وللمتضررين من إنفجار مرفأ بيروت. والاهم، بحسب المصادر، انها اكدت “الحرص الاميركي على الاستقرار الامني والسلم الاهلي ودعم المؤسسات الشرعية اللبنانية”.

المتغير الاميركي المرتقب، سبقه صدور التقرير الجديد “لمجموعة الأزمات الدولية” في كانون الثاني ? يناير الماضي، والتي تتخذ من بروكسل عاصمة الاتحاد الاوروبي ومن واشنطن مركزين لها، والذي أشار الى “أن الصراع السياسي حول دور حزب الله تسبب بخسائر للبنان، حيث عمّق الاستقطاب في البلاد، وكذلك جعل الإجماع المحلي على حكومة جديدة وعلى الخطوات المطلوبة لإنقاذ الاقتصاد اللبناني أكثر صعوبة”. وقال التقرير: ان العقوبات الأميركية ضد حلفاء حزب الله، والضغط الموجه لاستبعاد الحزب من السلطة التنفيذية يعقد هذه المهمة الصعبة لتشكيل الحكومة وتحقيق الاصلاحات بالفعل.

وذهب التقرير مباشرة الى حد القول: أنه “يجب على الولايات المتحدة أن تجعل هدفها الأول تقوية الدولة اللبنانية وتجنب انهيارها. وحان الوقت للولايات المتحدة لتغيير أولوياتهان لأن ثمن التركيز الشديد على اضعاف حزب الله قد يعني فشل الدولة، وهذا سيكون مروعاً للشعب اللبنانين ومن شأنه زعزعة استقرار المنطقة برمتها”.

إغتيال سليم وعناصر التوتير

لكن الحرص الخارجي على استقرار لبنان لم يجد مسلكاً له في الحياة اليومية. فجاء اغتيال الناشط السياسي والباحث والناشر لقمان محسن سليم، ليؤكد معلومات القوى الامنية منذ شهر، عن رصدها إحتمال حصول عمليات إغتيال، إضافة إلى تحريك خلايا ارهابية نائمة، وحدوث اعمال شغب وتخريب، وهو الامر الذي حصل بعد تفكيك اكثر من شبكة ارهابية في مناطق الشمال والبقاع، وفي طرابلس من أعمال  شغب وحرق وتخريب. مايعني ان جريمة الإغتيال هدفها صب مزيد من النار على زيت الوضع المتهاوي للبلد، وخلق مزيد من البلبلة والفوضى الأمنية والعامة، بحيث بدأ فور حصول الجريمة توجيه اصابع الإتهام الى حزب الله بإغتيال سليم.

وفي تقدير بعض المشتغلين بالأمن، ان المخاوف تزايدت بحصول عمليات إغتيال اخرى “لأهداف سياسية سهلة”، بمعنى انها غير محمية أو إنها مُطمَئِنة إلى عنها غير مستهدفة، وربما تشمل  طرفي المعادلة الداخلية لتحقيق مزيد من الانقسام وبالتالي مزيد من التوتر.

دعوات التدويل

إضافة إلى هذه التوترات، دعا البطريرك الماروني بشارة الراعي مجدداً إلى “أن تُطرح قضية لبنان في مؤتمر دولي خاص برعاية الأمم المتحدة. وذلك بعد دعوته قبل أشهرالمجتمع الدولي والأمم المتحدة الى ضمان حياد لبنان. وسبقت دعوة البطريرك دعوات من بعض السياسيين والاحزاب والهيئات المدنية إلى تدويل التحقيقات في إنفجار مرفأ بيروت، ومؤخراً في جريمة إغتيال الناشط والكاتب لقمان سليم، وقبل ذلك دعوات للتدخل الدولي في عمليات التدقيق المالي ومكافحة الفساد ولتلبية كل مطالب الحراك الشعبي. وهو ما كان موضع خلاف وسجال بين رافض للتدخل الدولي وبين مؤيد وداعٍ له بقوة.

وجاءت الدعوات إلى التدويل، بعد فقدان الثقة بكل ادوات الحكم في لبنان، وكذلك نتيجة فشل مؤسسات النظام القائم في الوصول إلى النتائج المتوخاة من كل قضية تحصل. لكنها جوبهت برفض من قبل بعض القوى السياسية التي تتوجس كثيراً من وضع اليد الدولية على كل مفاصل لبنان، لا سيما بعد تجربة المحكمة الدولية لقضية إغتيال الرئيس رفيق الحريري، التي إعتُبِرَت محكمة سياسية.

مسؤولية اللبنانيين

ولذلك، حسب ما توافر من معلومات، فإن كل اطراف الخارج، ركزت مع اللبنانيين على ضرورة تحمّل مسؤولياتهم في إنقاذ بلدهم ووضع الحلول والاصلاحات اللازمة له، والابتعاد عن عقلية المحاصصة والمحسوبيات وتسجيل المكاسب السياسية والطائفية وتوزيع المغانم، والاهتمام بأوضاع شعبهم ومطالبه، بعدما إنفجر الوضع الاجتماعي والمعيشي بوجه الدولة غلياناً في الشارع، تحوّل الى اعمال شغب وحرق وقطع طرقات فسقط قتيل وعددٌ كبير من الجرحى، بدءاً من طرابلس في الشمال وكاد يمتد الى مناطق اخرى لولا تطويقه من قبل القوى الامنية.

لكن حسب محللين سياسيين ودستوريين، لم يعد يكفي ان تتم التسويات المؤقتة، بل صار من الواجب ان يجلس المسؤولون مع المجتمع المدني واهل الاختصاص الى طاولة حوار وطني موسعة، للبحث في كل مساويء النظام وثغراته وإيجاد الحلول لها وتيسير آليات الحكم وادواته، بما يوفّرُ نوعاً من الاستقرار المحمي من الدول الشقيقة والصديقة.

العدد 114 / اذار 2021