الحصاد.. عبر المائة اصدار رحلة مع الراي والخبر.. الصورة والمقال

الحرية.. كانت وتبقى القيمة الحقيقية للكفاح على مر الزمان

 أمين الغفاري

كانت الكلمة هي الأثر الباقي في مجرى الزمن. كانت هي الكشاف الذي أضاء لنا حنايا التاريخ وأغواره بما روت وحكت. الكلمة هي الوعد وهي العهد. هي شرف الانسان حين ينطق، أويعد، أو حتى حين يشهد. الكلمة هي الراوي، ومن ثم هي الرأي والمقال. كانت الصورة الى جانب آخر هي التجسيد المرئي لمعنى الخبر ولأبعاده، فهي الكاشف الأكثر صدقا ودقة. لذلك يقولون أن (الصورة أفضل من ألف مقال) في مجال الأقناع والأثبات فضلا عن التنوير والتأثير. الصورة هي الخبر أمام عينيك وهي الدليل، وهي أبرز الشهود. حين تدلهم الأحداث، أويتعثر الفهم. لكن ان كانت الصورة هي البرهان الذي لايخاتل أو يجامل فضلا عن ان يكذب أو يخادع، الا انه علينا في نفس الوقت أن نتذكر أن الصورة أيضا في حاجة الى تدقيق، فهي وحدها (صماء، خرساء)، في حاجة الى تمعن وأستطلاع لما وراء الألوان، تماما مثل المقال عليك أن تقرأ السطور، وأن تقرأ أيضا ما بين السطور، كذلك هي أيضا تحتاج بعد الرؤية الى القراءة والى التفرس، والاحتكام الى العقل، لكي تتبلور الرؤية، ويستنيرالرأي. لذلك كله كان الراي والخبر، أوالصورة والمقال، هما أساسيات الصحافة وقواعدها، ولهاذا كانا (للحصاد)عبرالمائة عدد أو الأصدار، هما العدة وهما أيضا العتاد.

صدور (الحصـاد)

صدرالعدد الاول من الحصاد في أول أكتوبر 2011، وكان رئيس التحرير هو المؤسس للمجلة الراحل الكريم (حافظ محفوظ) وكانت الأفتتاحية التي خطها بقلمه تشرح وتفصل السبب في اختيار (الحصاد) عنوانا أو اسما للمجلة. يقول الراحل حافظ ان المعنى القاموسي ل(الحصاد)هو النتيجة الطبيعية للزرع، وهو يعني أيضا المصير القدري المحتوم الذي لابد منه لكل ما يزرعه الانسان من اعمال ومشاريع وخطط في مختلف الميادين، فاذا كان الزرع حسنا وطيبا، فان الحصاد سيكون وفيرا ومثمرا، واذا كان سيئا وشريرا وغير مدروس فلن يكون الحصاد جيدا. ثم يستطرد في معنى الزرع والحصاد بالنسبة للوطن وكذلك للحاكم وللشباب، وهم مستقبل الايام.

لماذا الحصـاد.. ؟

حين تصدر مجلة جديدة، لابد ان تخضع لسؤال مشروع، فحواه طبيعة المضمون الذي تحمله هذه المجلة، وماذا تريد أن تقول، وبمعنى آخر ماهي الرسالة التي تحملها ؟ فالكتابة (حرفه)، وهي ايضا (وسيله)والكتابة أنواع، فليست هناك كتابه من أجل الكتابة، أوأن الهدف منها الثرثرة أو مجرد تسويد الصفحات، وانما هي مطبوعة تسعى لهدف، وتروج لمبدأ، وربما للترويح عن النفس، وتسلية البشر ويتوفر لها كتاب ملتزمون، وهناك نوعيات متعددة من الكتاب. هناك كتاب وباحثون في الأدب وألوانه، وفي السياسة وسراديبها، وفي التاريخ وأضابيره، وفي الأديان وعقائدها، وفي العلوم وأسرارها، وفي الفنون وبحورها، وغير ذلك على امتداد الفكر الأنساني، واقتحاماته، وهناك أيضا كتاب للفكاهة بما فيها من ألوان البهجة والتسلية، وهي الوان مطلوبة، ولها رسالتها في اسعاد البشر، والترفيه عنهم. حين صدر العدد الاول من(الحصاد)كان التعريف الذي تصدرها هو (مجلة شهرية – سياسية – ثقافية – جامعه)، ولكنه تعريف سرعان ماتطور، وتحدد وأصبح راسخا على النحو التالي (مجلة شهرية تجعل من قضايا الوطن العربي والعالم محط اهتمامها ماضيا وحاضرا ومستقبلا). التعريف بهذا الطرح لم يكن جديدا، بل كان متوفرا في سياسة المجلة لكنه بتدوينه ذلك أصبح أكثر وضوحا وجلاء والتزاما.

الحصـاد والواقع العربي

صدر العدد الاول من (الحصاد) في أكتوبر عام 2011، ويذكر القارئ ان هذه السنة كانت العام الذي شهد فورات مايسمى بالربيع العربي، وان كانت رياحه ومانتج عنها، لم تكن فقط رياحا بريئة للتغيير أو للأصلاح، والنهوض، وانما كان الكثير منها عواصفا للتدمير وأعاصيرا للتخريب، وحرثا للأخضر قبل اليابس، وقد عنيت المجلة بمتابعة الأحداث عبر أكثر من قطر، مع تداخل القضايا واختلاط الأهداف، ومحاولة سبرغور الظواهرالبادية على السطح، وتضمنت المقالات (تداعيات أزمة الحكم الراهنة في العراق) و(بعد 42 عاما من حكم القذافي الشعب الليبي يفتح صفحة جديدة في تاريخه المعاصر) و(مصر العائدة الى أين؟ على اي المحطات سيرسو قطار الثورة حول قيام الدولة ونظام الحكم فيها الديني أم المدني، الرئاسي أم البرلماني، الليبرالي أم الأشتراكي؟) و »الاعلام وربيع العرب« (الحقيقة وأصحابها). كانت تلك هي العناوين، البارزة في العدد تحاول أن تتعرف على معالم المستقبل، وسط هالات الضباب السائدة، لاسيما ان تلك الأنتفاضات ليست لها قيادة، وليس لها برنامج، ولذلك تكاثرت الذئاب حولها، وتحايلت الثعالب لتسرق الآمال، وتمتطي صهوة الأنتفاضات الجامحة. لكن تبقى الشعوب وحدها هي القادرة على استعادة مكاسبها، وادارة شؤون بلادها وفق تطلعاتها، وتبقى الجيوش الوطنية دائما وابدا هي الحارسة لأمن وسلامة الوطن والمواطن، ووفقا لما شاهدنا وعاصرنا واكتوينا، كان غياب الجيوش الوطنية سواء بالحل، أو بالشرزمة، كما حدث في العراق وليبيا واليمن كارثة كبرى دفعت ثمنها الشعوب في النهاية.

(الحصـاد) وقضايا السياسة والمجتمع والانسان

لاحقت(الحصاد) كما تلاحق الصحافة بشكل عام، طبيعة الأحداث الجارية في العالم العربي من حيث الخبر ولكن من حيث السرعة والتدفق يصبح التفسيروالتحليل العاجل قاصرا على رصد الشعارات المرفوعة، والمطالب المشروعة، ولكن تبقى المواقف السياسية لنظم الحكم أو للتيارات السياسية والمذهبية، وقد أصبح لها الأن دور بارزفي تحريك الأحداث، يبقى أن موقف كل هؤلاء في مواجهة الثورات المشتعلة، هو الجانب الذي يقتضي المزيد من البحث والدراسة، وقد عنيت (الحصاد) عبر أكثر من مقال في تقديم العرض الصحفي الذي يأخذ موقع الراوي للحدث، وما حظي به من آراء، واجتهادات لقوى سياسية مختلفة أولباحثين متخصصين، ثم عنيت على نحو آخر بتحليل الحدث من خلال مجرى حركة التاريخ، أو طبيعة العصر بظروفه المختلفة أوقواعد نظم الحكم بمقتضياتها الحاضرة، وكلها تشكل اجتهادات حتمية ومطلوبة تطغى على مجرد نشر الأخبار، بالنظر الى كون المجلة شهرية، وليست يومية أو أسبوعية، وتلك خاصية تحدد دور المجلة في تفسير الحدث وليس في التبشير به. رغم ان السياسة هي التي تحكم حياتنا بقضاياها المتعددة مثل (الديموقراطية والحرية وسلطة الحكم والثورات والأنتفاضات، والتنمية وبناء الاوطان، والعدل الاجتماعي وموازين الحياة، والصحة والتعليم الا ان هناك نوافذ أخرى للأنسان أخذت اهتمام (الحصاد) ورعايتها مثل الثقافة والمعرفة، والفنون والآداب وحرية الفكر والابداع، وكذلك العناية بدرس التاريخ، وحددت له بابا (من ذاكرة التاريخ) وفي

اطار حركتة ومغزاها ودرسها قدمت (الحصاد) عدة قضايا منها على سبيل المثال لا الحصر(قصة السوفييت في مصر – افريقيا كانت جنة البيض وجحيم الملونين –- الاسلام في الصين عمره أكثر من 1300 سنة ويعتنقه عشرون مليونا – قصة السفينة كليوباترا وحصارها في نيويورك – عبدالناصر والثورة الأيرانية)بل نشرت (الحصاد) عددا من الدراسات التاريخية تولى عرضها استاذ باحث (المعاهدات السرية خلال الحرب العالمية الاولى – حركة الاستقلال العربية والمعاهدات السرية.. القوى الدولية تتنافس على كسب ولاء امراء الجزيرة العربية – المتصرفية وولادة دولة لبنان – حركة القوميين الحديثة.. التتريك وحقوق الاقليات، العرب قبل ظهور الاسلام وعلاقاتهم مع بيزنطة وفارس، نهاية الامارة الدرزية وولادة الحروب الاهلية اللبنانية.. الخ)

الحصـاد.. وقضايا ذات رعاية خاصه

النظرة الموضوعية للعمل على كل مايهم الأنسان، تعني الشمول لكل القضايا وان كان هناك تميز ملحوظ لبعض القضايا التي اعطتها (الحصاد) معنى الرعاية الخاصة، فذلك لايعني الأنحياز الكلي، وانما كان في التأكيد على ظاهرة الأهتمام، ومن ذلك نحدد هذه القضايا التي تلاحظ أن (الحصاد) قد أولتها قدرا كبيرا من اهتماماتها، ومنها.

المستقبليـــات

يندر ان تجد في الصحف أوالمجلات اهتماما يذكر بعلوم(المستقبل)واجتهادات المفكرين والكتاب، بينما تجد أن العالم يتطور بشكل سريع الأيقاع، والى حد الأندفاع، وان لم تأخذ المجتمعات خاصة (النامية) منها موقف الباحث أو الدارس أوالمجتهد لحركة الزمن وما يصاحبه من التقدم الفكري والتطور العلمي والتكنولوجي، فان هناك لا محالة خطر داهم وجسيم في انتظار الاجيال اللاحقة، لاسيما أن هناك من التطورات، ما يشكل معه اضافة جديدة الى مجموعة القيم والمفاهيم السائدة، بما يتطلب ذلك من القدرة على التكيف مع هذه الرؤى المستحدثة، وعلى ذلك لابد من العمل على توفير الحصانة لأجيالنا الصاعدة ضد المفاجآت، بالعلم والأجتهاد، ومحاولات الدخول في هذا السباق المذهل نحو المستقبل بكل مايحمله من عطاء في الفكر قبل العلم، وبالبحث قبل الأقناع، وبالمراجعة قبل الأندفاع. وقد قرأنا في (الحصاد) في اطار تلك القضايا العديد من الاجتهادات لأستاذ متخصص كان منها (لماذا دراسات المستقبلات؟عود على بدء – رؤية في اشكالية مفهوم المستقبل-السياسة الخارجية الصينية ومشهد التردي والانكشاف – دراسات المستقبلات:القوى الآسيوية البازغة وصناعة الارتقاء الحضاري– الصين ومستقبلات النزوع نحو الريادة الدولية –التفكير الخيالي العلمي واستشراف المستقبل)وغير ذلك على امتداد سنوات مضت، حملت معها رؤى وافكار تنظر الى بعيد.

قضـايـا بيئيــة

نحن لانعيش في عالم أجوف أو فارغ، ولايحيط بنا فضاء من خواء، ولا تتفتح أعيننا على هواء صاف ولكننا اينما نتحرك، او نتنفس تحيط بنا اخطار، لانراها، ولانستشعرها، فهناك كثير من انواع البكتريا والجينات والجراثيم، وغيرها، مما نعرفه، ومما لانعرفه حتى الآن، فالكون أكثر امتلاءا مما نرى، وأقوى تأثيرا مما نحس، ولذلك لابد ان نعي أننا نعيش في اطار حاضن نطلق عليه اسم (البيئة) المحيطة وهذه (البيئة)لها خواص، ويمكن ان تكتسب عوامل تحمل تأثيراتها علينا. أن الببئة عالم له أسرار، وقد أخذ استاذ فاضل على عاتقه وهو ذو علم وخبرة، أن يكشف لنا أسرارها، مبينا خواصها وعلاتها والعوامل الطارئة التي يمكن ان تشكل مخاطرا على أجسادنا من حيث التشوه أو من الأمراض القاتلة، كما انه غاص في تاريخ الحضارات ومواقعها فأفاء علينا بعضا من تاريخها وقد قرأنا على صفحات (الحصاد) مقالات متعددة منها (حضارة بابل.. وقعت اسمها في التأريخ الأنساني)اليورانيوم المنضب وتأثيراته على الصحة والبيئة. كوارث السيول والفياضانات في العراق. رياض الاطفال:الابعاد النفسية والتربوية – تحويل النفايات الى طاقة –الاشعاع المؤين وعلاقته بالانسان والبيئة) – كارثة الجفاف في العراق وغيرها من القضايا.

التكنولوجيا وأسرار النهضة

من المقالات المتخصصة ذات الوزن والأعتبار هذه الحصيلة التي قامت (الحصاد) بنشرها عبر مقالات متعددة، لباحث نشط حول التقدم العلمي المذهل في ميدان التكنولوجيا، وما كشفت عنه من اسرار ومنها (العاب الانترنت ما بين الادمان والأنتحار، وقد أعقبها في سلسلة متوالية عن اسرار النهضة التي حققتها بعض البلدان، فتابعنا معه (أسرار النهضة الأندونيسية، والنهضة التايلندية، ونهضة هونج كونج، والنهضة الماليزية. كلها تشرح وتشكل اطلالة على القواعد الفاعلة في تحقيق النهضة، وسد حاجات الشعوب، بالأجتهاد والأبتكار، فالعالم اليوم مجنون بالعولمة، شغوف بالأبتكار، ويستيقظ كل يوم على الجديد، بما يجدد الحياة، ويدفع بها خطوات ثابتة الى الامام.

تنويعات على لحن واحد

صدر العدد (79) من مجلة (الحصاد) برئاسة تحرير السيدة ابتسام آوجي، والتي نعت في كلمتها السيد حافظ محفوظ رئيس التحرير السابق، وقالت لقد خسرنا الأنسان قبل القلم، ثم عرجت الى مواهبه في الكتابة عموما ومعالجاته في الشعر والأدب خصوصا. ثم بدأت (الحصاد) في مرحلتها الجديدة في عملية التطوير، واستهدفت اتساع المساهمات وقطاع المراسلين، فعملت على وجود كيان محدد وذو مسؤوليات واضحة، وقد أسفر ذلك الدعم لحركة المراسلة، تنوع ملحوظ في المادة المحررة، وحصدت (الحصاد) الكثير من الثمرات تمثلت في العديد من القضايا والموضوعات المحررة، حين توافدت على صفحاتها الكثير من الرؤى ذات الاهتمام بقضايا المجتمع والناس، وان كان اللحن هو الصدق، فان التنويعات قد تعددت على ايقاعه من خلال الطرح والأجتهاد بتوجهاته المختلفة. اتسعت الصفحات لقضايا الرأي السياسية، والتحليلات الاجتماعية، والمشاكل الاقتصادية والتحقيقات الصحفية، والمقالات الفنية التي تشكلت من البورترية، وتضاريسه وصوره الذاتية والعامة، والنقد وتقييماته، وكانت لشبكة المراسلين اللبنانية أثر بالغ في غنى تلك الموضوعات وثراء قضاياها ومنها على سبيل المثال لا الحصر أبواب (شباك مفتوح) و(فواصل ثقافية) و(آفاق)، و(بحبرامرأة). وغير ذلك مما اجتهدت فيه الأقلام، وتقدمت فيه المبادرات، ونضرب على ذلك مثلا (نافذة على الحياة).

يضاف الى كل ما تقدم، ان يكون اخراج المطبوعة أو المجلة، داخل اطارات ترتاح لها العين فيما ترى وتشاهد أو تطالع، خصوصا ان كانت المجلة تعتمد على الصورة، وليس على شكل الكاريكاتير، ثم أن تنوع الموضوع وأحداثه يعطي مساحات أوسع لجماليات الصورة في العرض أو في التشكيل.

ان عالم الكلمة عالم فسيح الأرجاء يتسع للأفراح وللأطراح، للدموع وللبسمات، لألم النفس وكدر القلب، وكذلك بهجة العين، وانشراح الصدر. فيه الكلمة الأمينة والأخرى الخبيثة، وفيه الألوان المتعددة، والتي تتدرج في القبح من أدنى مستوياته، الى الجمال في أرقى صوره، وعلينا في النهاية أن نختار، علينا أن نتعاون وأن نتآزر، وأن نتكاتف مع كل ألوان البناء. بناء الفرد وبناء الوطن وبناء الأمة، علينا أن ننحاز لقضايا الحرية والتنمية، وللعدل، لأن كل تلك المعاني تتشكل بوضوح في القيم الحقيقية لنضال البشر، وكفاح الأنسان على مر الزمان. هكذا تمضي(الحصاد) في طريقها معلنة خياراتها الأساسية في انحيازها الكامل لقضية الحرية.. التي هي في جوهرها قضية الانسان.

العدد 100 –كانون الثاني 2020