الرواية والتنوير

بيروت – ليندا نصار

يمثل التنوير اليوم حاجة ملحّة في الثقافة العربية وآدابها لما له من إمكانات في الدفع بالسؤال الخاص نحو مجاهل جديدة تسمح بالعمل على إضاءة عتمات تعيق سيروات التحوّل في البنيات الذهنية الجامدة عن طريق تفكيك الثابت فيها بتنوير الفكر انطلاقًا من الحركة التنويرية وما أحدثته في الفلسفة الغربية من دعوات ترى بضرورة إعمال العقل في فهم الواقع سواء في فرنسا أم ألمانيا من خلال فلاسفة مقولات رسو وكانط وهيغل، ووقوفهم ضد الحروب ذات النزوع الديني أو المذهبي كشكل من أشكال تجاوز الاقتتال الدموي في أوروبا في القرنين السادس عشر والسابع عشر لصالح عمل يتضمن بعدا اجتماعيّا وعقليًّا يعلي من قيمة إنسانية الإنسان، ويتجاوز تلك العصبيّات التي من شأنها تدميره عن طريق المعرفة العلميّة التي تغدو أداة لمقاومة الأفكار الجاهزة والمستبدّة لرجال السياسة والدين. ومن هنا تبلورت أنماط من التعبيرات الرمزية التي تتصل بهذا الأفق التنويري كما هو الأمر مع الصالونات الثقافية والموسوعات في القرن الثامن عشر وما تمثله من سلاح لمقاومة جهل السلطة، وإن كانت هناك حركات تنويرية في الفكر الإسلامي تمثّلت في رسائل إخوان الصفا، والمعتزلة الذين آمنوا بالعقلانية. ولهذا يمكن أن نستنتج بأن التنوير هو من صميم ثقافتنا العربية، وأنه ارتبط ليس بوصفه نظرية بقدر ما هو ممارسة عملية كما يشير إلى ذلك عبد الله العروي.

الرواية العالمية والتنوير

وإذا ما أردنا أن نفكر في طبيعة العلاقة القائمة بين التنوير والرواية على أساس أن الروايات هي جنس أدبي يعبّر عن تحوّل فكري وتحوّل في الحساسية الجمالية فهي ترتبط بالمثل وبما هو يومي وجار وبالحياة ومن ثم تعدّ تعبيرا نموذجيّا عن الحداثة وعن الفكر الجديد الذي يحدث قطيعة مع الفكر التقليداني، فإننا نستطيع أن نقول إنها تمتلك قدرة عجيبة على اختراق المسكوت عنه، والنفاذ والتغلغل في أعماق الإنسان الذي يصير بموجب هذا الوعي الجمالي في قلب الأسئلة الحارقة التي من شأنها أن تسهم في بلورة وعي مفارق يسعى إلى بناء قيم بديلة لواقع تسود قيم سلبية تؤزّم علاقة الإنسان بوعيه وبذائقته وبنظرته إلى الحياة والعالم، وتفتح في الآن إمكانات لتصوير هذا الغامض في النفس، وترويضها لصالح بناء الإنسان داخل هذا الفهم المجتمعي المتعدّد، وهنا يمكن التمثيل لروايات عديدة كيف أنها استطاعت أن تخرج من البلاغة الروائية نحو إنتاج قوانين تحمي الإنسان من تسلطه وهشاشته. لنتأمل رواية« التحول« لفرانز كافكا، وكيف أنها تسائل الوجود الإنساني، وعلاقة الإنسان بإنسانيّته من خلال شخصية غريغور التي كانت تضحّي بنفسها منذ الثامنة صباحا من أجل إعالة الإسرة والمساهمة في حمايتها من التشرّد والضياع بعد إفلاس مصنع الأب من خلال الحياة الممكننة المرتبطة بزمنيّة ثابتة، غير أن التحوّل ودخول العجائبي، ومسح غريغور إلى كائن حشرة يسمع ويرى ويشاهد ويشعر من دون أن تكون له القدرة على الكلام، وتغير عادات الأكل والنوم والحياة، ودخول العائلة في جلبة من الإحساسات المتناقضة، وفقدان الأب السيطرة على نفسه، وتعرّض الإنسان- الحشرة للعنف الرمزي والمادي، وتحويل الغرفة بوصفها فضاء للأمان إلى فضاء إلى المتلاشيات بفعل هذا التحويل، والموت وتحوّل الجثة إلى قمامة، وخروج العائلة للعشاء من دون التفكير في ما آلت إليه جثة غريغور الحشرة، يدفع الإنسان إلى التساؤل عن الخطاب المضمر في بناء الحكي الروائي، ونقد التوحّش الرأسمالي، وكيف أن الإنسان يمكن أن يصير غيره في صور لا تمسّ له بأية علاقة، وتفكيك بنية الرموز التي من شأنها أن تكشف عن عمق العنف الرمزي بما هو

ليندا نصار

صيرروة تقوّض الإحساس بالأمان داخل الفضاء الأسري. إن الرواية العالمية مارست التنوير انطلاقا من تفكيك الإنسان وتحويله إلى جملة الرموز التي نجحت بالفعل في مدّ الإنسان بتأملات عميقة تحميه من السقوط الفج في اللامعنى، وتنتصر بشكل ضمني إلى قيم الاختلاف والتسامح والحب، والأمثلة عديدة من قبيل روايات«لوليتا« لفلادمير نابوكوف، و»الجريمة والعقاب« لدوستويفسكي..

الرواية العربية والتنوير

ظهرت الرواية في العالم العربي بوصفها جنسا قادرا على الإجابة عن أسئلة الحداثة والتقدم والارتباط بالواقع النسبي فلا يمكن تصوّر الرواية العربية خارج جهد التنوير والانتقال بالمجتمع العربي من الفكر التقليداني والديني والغيبي إلى الفكر العقلاني والحديث بالمرتبط بأسئلة العصر وقضاياه.

لكن التنوير الروائي العربي يختلف عن التنوير الروائي الغربي في كونه ارتبط بسياق حضاري مختلف هو سياق الصدمة التي نجمت عن الاصطدام بالغرب المتقدم ومن ثم فإن أسئلة الرواية التنويرية ابتدأت بمحاولة فهم ماضي تقدم الغرب وتخلفنا وتعدّ »حدّثنا عيسى بن هشام« ل محمد المويلحي تعبيرا عن هذا السؤال وفيما بعد سينتقل التنوير الروائي العربي إلى مسألة التعبير عن الأفكار الجديدة المتصلة بالواقع والمجتمع فهنا تأتي رواية »زينب« ل حسنين هيكل بالتعبير عن الفكر الجديد المتصل بالغرب في علاقته بالبنيات الاجتماعية التقليدية والصراع بينها. ثم يأتي »نجيب محفوظ« ليعبر عن الفكر الليبرالي والأفكار المتعلقة بأسئلة التحرر والتقدم والوجود والكشف عن مدى ارتباط الإنسان في تكوينه وخياراته بالصراع من أجل التعبير عن الذات بعيدا عن الارتهان في القوالب والأطر الفكرية التقليدية لكن التنوير الروائي سيتخذ فيما بعد بعدا آخر مختلفا يتصل بالربط بين أسئلة التحرّر والأسئلة الجمالية القادرة على التعبير عن أسئلة الواقع والمجتمع ومن ثمّ لم يعد التنوير مرتبطا بتحرير المجتمع فقط بل أيضا بتحرير الشكل الروائي الجمالي وفتحه على المغايرة المستمرة. وهنا لا بدّ من التمثيل لعديد من الروايات التي أسهمت في بناء عقلانية تسعى إلى تقويض التمثيلات الجاهزة عن طريق بناء رؤى جمالية تعلي من قيمة الكائن وهشاشته من أجل مواجهة هذه الأنماط الثقافية البائدة التي أحيانا تجعل الإنسان لا يعرف نفسه وهو يقف أمام مرآة المجتمع. فمثلا نجحت روايات علوية صبح سواء في »مريم الحكايا« أم »دنيا« »أم اسمه الغرام« في استثمار الأنثى الساردة من أجل جعلها أداة من أدوات الاحتجاج ضد الوعي الذكوري المهيمن، وعن طريق السرد ستقتحم المرأة اللغة/ الكلام الذي كان ملكا مطلقا أو يكاد، للذكر؛ وهو ما مكّنها من فضح النسق الفحولي، لا تفكيكه. غير أن الأنثى، وإن لم تنجح في تفكيك النسق، فإنها حكت عن أنماط لا أفراد، عن ظاهرة/ نسق مهيمن، من خلال ممارسات فردية. لهذا سيشكل نقل الحكي من وظيفة إلى وظيفة تحديا لكون يقصي ويبعد. ويقول عبد الله الغذامي في هذا السياق: »أن تتكلم المرأة في كلام لم تكن موجودة فيه، فهذا معناه أنها تقحم نفسها في عالم ليس هو عالمها، وأنها تنتقل بهذا من كون كان يحيط بها ويصونها إلى كون يكشفها ويتحدّاها، في حين إنها تتحدّاه«. أو لم يستطع كذلك نجيب محفوظ في رواية« اللص والكلاب« جعلنا نراجع تصوّرنا في ما يتعلق بصورة العاهرة في المجتمع عن طريق بناء شخصيّتها في الرواية انطلاقا من منظور إنساني في تحريرها، والدفع بالقوانين من أجل حماية المرأة وتعليمها وجعلها تتساوى مع الرجل في الحقوق والواجبات، ومن ثم نقد القوانين والوعي السائد في البنيات الذهنية المضمرة في الأنساق الاجتماعية. إن رواية »واحة الغروب« لبهاء طاهر، دفعنا إلى الشعور بالقشعريرة ونحن نرى بتر ساق الجندي كشكل من الأشكال لرفض الحرب بما هي أداة لتدمير الإنسان جسديّا ونفسيّا وثقافيّا وحضاريّا.