السينما العربية… و مرحلة الأفلام غير الملونة

لماذا يعشق الكثيرون من جمهور السينما أفلام الأبيض والأسود !؟

مشاكل المجتمع المصري خلال النظام الليبرالي كما تصورها تلك الأفلام

أمين الغفاري- العدد 87 – تشرين الثاني 2018

تلتقي بالكثيرين من عشاق السينما فتفجأ بظاهرة غريبة، وهي عشقهم للأفلام العربية القديمة التي كانت تعرض باللونين )الأبيض والأسود(، رغم بعد الزمن، ومضي عقود طويلة من السنين، بل ومع. التقدم التكنولوجي المذهل الذي حققته الأفلام الملونة، ويضاف الى ذلك. السحر الكامن في الألوان الطبيعية بما يعكسه من جمال ونشوة وخيال. هي بالفعل ظاهرة يصعب تحليلها، ويزيد من صعوبتها اننا نلاحظ افتتان أجيال شابة بها، لم تعاصر تلك الفترة، ولم تعايش أجواءها، ولاتربطها بتلك الأفلام ذكريات معينة بتلك المرحلة، مثلما هو الحال مع الأجيال القديمة التي يمكن تفسير ارتباطهم بتلك الأفلام بأنه نوع من الحنين الى الماضي والى سنوات الشباب أو حتى الى ذكريات سنوات الطفولة. هل تندهش ان رأيت حفاوة الأطفال بأفلام اسماعيل ياسين وطربهم لحركاته ومواقفه الضاحكة.

متى بدأت الظاهرة ؟

في عصر الأذاعة )الراديو( ظهرت فكرة المسلسلات الأذاعية، وحازت رواجا في عمليات المتابعة الجماهيرية، وحين ظهر التلفزيون بدأ عرض الأفلام السينمائية وكذلك الأفلام و المسلسلات التلفزيونية، وحققت نجاحات أوسع، وجماهيرية أكبر وأعرض، ولكن تبين أن الأفلام الجديدة سوف يتعذر عرضها تلفزيونيا قبل ان تعرض على شاشات السينما وتحقق الأيرادات المطلوبة سواء في تعويض تكاليف الأنتاج أو انتظار عوائد الأرباح، فبدأ التفكير في عرض الأفلام القديمة، لأن ساعات الأرسال طويلة، ولابد من شغل له، وافلام السينما لها جماهيرية ونسبة مشاهدة عالية، ولذلك بدأ السعي للحصول على التصريح بعرضها من شركات الأنتاج التي قامت باعدادها، وانفقت عليها في كل مراحلها الأنتاجية من شراء القصة الى اعداد السيناريو الى التمثيل والاخراج وما الى ذلك، وبدأ شراء حق العرض الى سنوات محددة أو ان تتم

مشهد من فيلم سلامة في خير

عملية بيع الفيلم بشكل مطلق.. ثم ظهر جهاز )الفيديو( الذي يمكن شراؤه وعرض الشريط السينمائي عرضا منزليا من خلاله، وفي أي وقت ترغب فيه العائلة. تنبهت الى ذلك بعض الشركات العربية، فتقدمت بطلب شراء بعض هذه الأفلام القديمة. وهي ذات رصيد كبير)أسود وأبيض( بشكل مطلق، سواء من القطاع العام أو من الشركات الخاصة وكانت زهيدة الثمن نظرا لقدمها. وبالتالي ستحتاج الى قدر من التكلفة لعملية الترميم نظرا لأهتراء البعض منها نتيجة لعدم تخزينها بشكل علمي مما عرضها لبعض التلفيات. أثير هذا الأمر عام 1977 في عهد وزير الثقافة والأعلام الراحل عبدالمنعم الصاوي وكان صحفيا وروائيا معروفا وهو مؤلف الثلاثية التلفزيونية الشهيرة )الساقية، والضحية، والرحيل( وكانت خماسية باضافة كلا من )النصيب والتوبة(، وحدث لها رد فعل عنيف حيث اعتبرها البعض نوعا من التفريط، وأن تسليم هذا )التراث السينمائي( المصري يتضمن خطورة ضياعه، ولكن الحملة هدأت بعد حين، وتقدم المنتج المصري)جمال الليثي(. لشراء العديد من هذه الأفلام التي تمتد في قدمها الى عقود خلت، وكانت له دار في شارع الألفي لبيع هذه النسخ من الأفلام على شكل شرائط فيديو، وحققت نجاحا كبيرا، بحيث شجعت بعض الشركات العربية لشراء مجموعات أخرى من تلك الأفلام، بل وظهرت بعد ذلك قنوات متخصصة في عرض مثل هذه الأفلام وخاصة أفلام )الأبيض والأسود ( ويرمز اليها بالأفلام )الكلاسيك(، وقد يتصور البعض أن عدد تلك الأفلام )الأبيض والأسود( ليست بالمستوى الوفير أوالكبير، ولكن يكفي ان نعلم أن فترة الأربعينات والخمسينات تحديدا وهي عشرون عاما كانت تنتج بالمتوسط أكثر من اربعين فيلما في العام الواحد وعلى سبيل المثال انتج عام 1949 عدد 44 فيلما، كما انتج عام 1959 عدد. 53 فيلما، والمصدر هنا )موسوعة الأفلام العربية(

هل تعد ظاهرة الأفلام الكلاسيك

والأقبال عليها ظاهرة عالمية ؟

توجد ايضا قنوات أجنبية للأفلام )الكلاسيك( ولها جمهورها العريض لاسيما أفلام )الكاوبوي( بطولة جاري كوبر، وجلن فورد، وتيرون باور، بالأضافة الى أفلام الكوميدي ويتصدرها )شارلي شابلن( بافلامه الصامتة، ثم أفلام ايرول فلين واوليفيا دي هافيلاند الشهيرة عام 1938 )روبن هود(، ثم الأفلام التي كانت تقوم بها السباحة )استر وليامز ( من منتصف الأربعينات الى منتصف الخمسينات تقريبا وأحواض السباحة بالأستعراضات التي كانت تتفرد بها، والتصوير تحت الماء، وكان يمثل اعجازا في ذلك الزمان، وقد. كانت بالطبع افلاما ملونة، وليست ابيض واسود، ولكنها تقع ضمن الأفلام )الكلاسيك(. افلام همفري بوجارت وانجريد برجمان ضمن دائرة افلام الأبيض والأسود )كازابلانكا ( وجلن فورد وريتا هيوارث )جيلدا( وجيمس ماسون فيلم )رومل ثعلب الصحراء(عن القائد الالماني الشهير وقصة خلافه مع هتلر، وفيلم )الأصابع الخمس( عن الجاسوسية في الحرب العالمية الثانية، وفيلم دوجلاس فيربانكس عن )السيندباد( وعن )لص بغداد(بطولة )سابو( وعالم الف ليلة وليلة بابهاره الذي لايقاوم في سحره. هي. مجموعة من الأفلام الأجنبية التي تصنف اليوم أنها أفلام )كلاسيك(لكنها ما زالت. تتمع بجمهور كبير ولها سحر وأثر خاص.

السينما والتلفزيون ومقاييس ذلك الزمان

هل يعني ذلك ان السينما في هذا العصر، لم يعد لها نفس البريق، الذي كان يحيط بها في ذلك الزمن ؟

لاشك ان التلفزيون ان لم يكن كاد أن يسحب البساط من تحت اقدام السينما، الا انه بالطبع قد أحدث أثرا على مكانتها، ليس فقط لأنه قد أصبح ضيفا مقيما مع الأسرة، في المنزل، تراه وقت ان شئت، وبأقل درجة من الحركة، وتستطيع ان تتجول عبر محطاته لكي ترى ما تحب، ثم أن تغير رأيك وترى شيئا آخر تفضله ولايستغرق منك الوقت سوى عدة ثواني.. يضاف الى ذلك جانب موضوعي أنه رغم ان التقدم التكنولوجي قد أضاف الكثير على صناعة السينما من حيث عوامل الأخراج والتصوير وأساليب الأبهاروتحريك الخيال، الا انه من جانب أبعد قد سلب

مشهد من فيلم حبيب الروح

منها الكثير من الواقعية والبساطة وكذلك مشاعر الرومانسية، الى حد يمكن القول معه، ان هذا التقدم في مجمله جعل السينما أقل انسانية مما كانت عليه. ويبدو ان تلك ليست آفة السينما العربية فقط، ولكن لها ايضا امتداتها حسب مواصفات العصر، فالعالم أصبح قرية صغيرة بفضل شبكة الاتصالات والمواصلات فقد ذكرت الفنانة الأيطالية الشهيرة جينا لولو برجيدا في الزمن المشترك بين الأفلام )الأسود والأبيض ( والأفلام الملونة ردا على سؤال وجه اليها عن رأيها في السينما المعاصرة قالت )انها لاتقارن بأفلام زماننا، حيث كانت هناك موضوعات وقضايا، وليست سينما )الدم والرعب والجريمة ( كما نشاهد الآن. كانت السينما المصرية في المرحلة الليبرالية تقدم اسهاماتها في معالجة القضايا الأجتماعية، الا انها كانت تعمد الى الأساليب التصالحية بين طبقات المجتمع باعتبارأن )الحب( لايعرف الغني والفقر، وأن كل البشر ينتمون الى فترة حمل واحدة، وهي التسعة شهور.. شاهدنا ذلك في العديد من الأفلام، منها ليلى بنت الفقراء، وأشكي لمين، وقلوب العذارى، وطلاق سعاد هانم، وهو نهج أغفل تماما مفهوم )الصراع الطبقي( والعدل الاجتماعي، وان كان نهج المصالحة في نفس الوقت كان مطلوبا فيما يخص الأديان، باعتبار ان الدين لله والوطن للجميع، ورأينا ذلك في افلام حسين صدقي مثل )الشيخ حسن( كما انها لعبت دورا في الحركة الوطنية والكفاح ضد الأستعمارمثل )يسقط الأستعمار( لحسين صدقي وفيلم )فتاة من فلسطين( لمحمود ذو الفقار، ومن جانب القيم الأحتماعية تصدت لظاهرة )الثأر( مثل فيلم )الريف الحزين( بطولة يحيى شاهين وفاطمة رشدي، وأفلام عمر جميعي عن الأسرة والتعامل مع الوالد والوالدة بأفلام مباشرة مثل فيلم )الأم( بطولة أمينة رزق وحسين رياض وليلى فوزي، وفيلم )ألأب ( بطولة زكي رستم وعلوية جميل ومحمود المليجي.. كما عالجت قضايا العمال مثل فيلمي )العامل ونحو المجد( لحسين صدقي، أما الفيلم الغنائي والأستعراضي فقد ظهرت مواهب نادرة لم تتكرر حتى الآن وفي المقدمة منها )ليلى مراد( وأفلامها مع محمد فوزي )المجنونة وورد الغرام( ومع حسين صدقي )ليلى، وليلى في الظلام، وشاطئ الغرام، وآدم وحواء( ومع أنور وجدي وروائعه معها ومنها )عنبر، وغزل البنات، وبنت الأكابر، وليلى بنت لبفقراء، وليلى بنت الأغنياء( ومع ان انور وجدي لم يكن ملحنا أو مطربا ولكنه كان احد الفرسان المهمين في صناعة السينما، وقد قدم أيضا فيلمي )ياسمين ودهب( مع الطفلة المعجزة )فيروز( وبالفيلمين استعراضات نالت الكثير من التقدير والاعجاب، من طفلة لم تتجاوز سن العاشرة من العمر..

المقاييس العامة للفنانين

تأثرت السينما العربية في بداياتها وهي مرحلة )الأسود والأبيض( الى حد كبير بالسينما الغربية بشكل لافت من حيث معايير الوسامة والمواصفات العامة للجمال كعناصر مطلوبة، باعتبار ان السينما ايضا صناعة وتجارة، ولذلك لابد من الحرص على المقاييس الجمالية للأبطال، فنرى في ممثلات تلك الحقبة القوام الفارع والوجه الجميل، وكانت بطلات تلك المرحلة أمثال ليلى فوزي ومريم فخر الدين وراقية ابراهيم وماري كويني ومديحة يسري، وكاميليا، قبل ان تدخل المواهب الجديدة فاتن حمامة وماجدة وسعاد حسني ونادية لطفي الى الساحة الفنية، ونفس الأمر بالنسبة للرجال فقد كان أبطال ذلك العصر يحيى شاهين وأنور وجدي ومحسن سرحان وكمال الشناوي وحسين صدقي، الى ان دخل الى الساحة عماد حمدي يعكس جمال الرجولة قبل جمال الوجه، وبتطور حركة المجتمع والاتجاه الى قاع الطبقات الفقيرة، وبافتتاح المعاهد العلمية في المسرح والسينما، وتغير النظرة الى الفنانين باعتبارهم مواهب، وليسوا مجرد سلعة يتم الاعلان عنها بحجم الوسامة أكثر من حجم الموهبة ظهرت أجيال جديدة من الفنانين في طليعتهم أحمد زكي، والآن محمد رمضان استطاعت ان تخطو بفنها وبصناعة السينما الى

فاتن حمامه
تاريخ عريض في فن التمثيل

الأمام.

انسانية أفلام ألأسود والأبيض

تستطيع بسهولة ويسر ودون أي غضاضة أن تفتح تلفزيون بيتك، وان تشاهد فيلما من عصر )ألأبيض والأسود( دون ان تقتحم حساباتك الفاظ خادشة، أو مناظر تخدش حياءك.. كنا نرى في ذلك العصر أن مشاهد الجنس كان يرمز اليها بالعاصفة العاتية التي تدفع النوافذ، أو انطفاء شمعة أو تصوير موجة عاتية عالية، دون الدخول في التفاصيل التي نشاهدها الآن في معالجات الجنس، وتوصف بأنها مشاهد جريئة، ويحصل الفيلم على دعاية مجانية ان خصصت المشاهدة. لمن هم فوق 18 سنة.. وترد دعاوى على ذلك النقد بأن الأفلام الأباحية أصبحت تغمر القنوات، وأنه لاينبغي لنا أن ندفن رؤوسنا في الرمال، ولكن الفرق كبير بين الحالتين ان تعرض افلاما يتم التلصص عليها في معزل عن العائلة وبين ان تعرض افلام وتفرض عليك مشاهدتها بحكم الأمر الواقع.. يقول الفنان الراحل شكري سرحان في احد حواراته )في أحد السنوات تم اقامة مهرجان سينمائي في الأردن، وتأخر الفيلم المصري في الحضور حتى يوم افتتاح المهرجان، والمفروض أن يعرض على الرقابة في الأردن أولا، ولكن المسؤولين عن المهرجان قالوا )ان فيلما من بطولة فاتن حمامة وشكري سرحان ليس في حاجة للعرض على الرقابة ( كانت هناك ثقة مطلقة في ان هناك نوعا من نجوم السينما حريصون على لغة الحوار ورقيها، ومشاهد الفيلم وخلوها تماما من اي ابتذال..

بالطبع لايمكن أن تكون كل فضائل السينما القديمة )الأبيض والأسود ( أنها أخلاقية وانسانية، والا كان في ذلك كل الأجحاف لحجم التميز في الأداء الذي كان طابعها.. كان بالفعل هناك عمالقة في فن التمثيل، لم يلتحقوا بمعاهد ولم يدرسوا فن التمثيل، ولكنهم كانوا موهوبين بالطبيعة. يقول الفنان الراحل نور الشريف، وهو لم يكن مجرد ممثل موهوب وقدير، وانما كان استاذا يرمز اليه ويؤخذ عنه قال)ان زكي رستم لم يدرس فن التمثيل، ولكنه حين مثل كان يضع في تمثيلة قواعد لفن التمثيل(.. قال المخرج الكبير الراحل يوسف شاهين عن محمود المليجي )حين اقوم بمناقشته في بعض القضايا العامة أرى حجم بساطته في التفكير، ولكنه على الشاشة لامع وله بريق ملحوظ(.. هكذا كان هناك ممثلون افذاذا كنجيب الريحاني وبشارة واكيم واسماعيل ياسين. وعبدالسلام النابلسي واستفاروستي، و في كل مجالات التمثيل وتخصصاته سوف تجد فنانين من الوزن الثقيل، كان أداؤهم الأساسي يرتكز على مواهب حقيقية، استطاعت ان تفرض وجودها، حيث أن الفن لايقبل وساطة ولا شفاعة. ان الموهبة وحدها هي الحكم والحضورالعام للممثل والتأثير في المشاهدين الى حد ان يمتلكوا اعجابهم ومن ثم عواطفهم.. ان توفر ذلك هو معيار الأستمرارفي هذا المجال، ويبقى في النهاية أن تلك المرحلة من تاريخ السينما ذات وزن عاطفي لايخلو من وزن انساني، ومن اعجاب بالغ التقدير لتلك المواهب التي راحت، ولم يبق منها سوى الذكريات العزيزة، كأنها نفحات من النسمات الرقيقة تهب علينا في ايام القيظ الشديدة، فتلطف الأجواء وترطب القلوب.

زكي رستم
أستاذ في عالم التمثيل