القروض المتعثرة تهدد مصارف أوروبا مجدداً

بعد تخفيف القواعد المصرفية الصارمة لمواجهة كورونا

هلا صغبيني

رفع المصرف المركزي الاوروبي جرس الإنذار. هو يستبصر أوقاتاً صعبة مقبلة أمام المصارف الاوروبية. إذ يتوقع أن تواجه هذه الاخيرة مجدداً مشكلة ارتفاع حجم القروض المتعثرة، بعدما جرى تخفيف القواعد المصرفية الصارمة في وقت سابق لضمان دوران عجلة الاقتصاد التي أوقفتها جائحة كورونا.

تعد القروض المتعثرة وغير العاملة (NPL) من أكبر المشكلات التي تواجه جميع المصارف، وليست الاوروبية فقط، لما لها من أثر كبير على كفاءتها. فهي تضعف ميزانياتها، وتبطئ نمو الائتمان، وتؤخر الانتعاش الاقتصادي، وبالتالي فإن التعامل معها هو أمر بالغ الأهمية للتعافي الاقتصادي.

المصرف المركزي الاوروي يطلق خطة شاملة لمعالجة ارتفاع القروض المتعثرة

كانت هذه المحفظة الرديئة مصدر قلق دولي وأوروبي دائم بعد أزمة 2008 التي نتجت عن أزمة القروض المتعثرة لدى شركات الرهن العقاري في الولايات المتحدة، حين ارتفعت أعباء الدين نتيجة الإفراط في المديونية مما ساهم في إفلاس رابع أكبر مصرف استثماري في الولايات المتحدة ممثلاً بمصرف “ليمان براذرز”. وتلتها أزمة الديون السيادية الاوروبية عام 2009 حين عجزت خمس دول أعضاء في منطقة اليورو (اليونان والبرتغال وأيرلندا واسبانيا و قبرص) عن سداد أو تأجيل ديونها الحكومية أو أن تكفل المصارف المتعسرة الواقعة تحت إشرافها الوطني من دون مساعدة أطراف ثالثة مثل بلدان أخرى من منطقة اليورو أو المصرف المركزي الأوروپي أو صندوق النقد الدولي. فهل يتكرر الأمر اليوم ؟

بداية، تظهر المؤشرات أن المصارف الأوروبية قد نجت من أزمة فيروس كورونا بشكل جيد. فهي تتمتع بوضع رأسمالي أقوى بكثير الآن مما كانت عليه من قبل، وبأصول عالية الجودة في ميزانياتها العمومية، ما مكّنها من مواصلة إقراض الأسر والشركات طوال العام الأول من أزمة كورونا. ويرجع الفضل في ذلك جزئياً إلى المتطلبات الأكثر صرامة التي فرضتها الجهات التنظيمية عقب أزمة العام 2008 لاسيما المعيار المحاسبي الدولي لإعداد التقارير المالية IFRS9 والخاص بالكشف على القروض المتعثرة. ويبدو أنها أتت ثمارها.

ولكن لا يعني ذلك أنها باتت مستعدة أو قادرة على تحمل مخاطر مئات المليارات من القروض المشكوك في تحصيلها أو المعدومة مع استمرار ارتفاع حالات تفشي الجائحة في دول أوروبا، والتي يمكن أن تجعل أصولها تكاد تلبي متطلبات السوق.

تداعيات كورونا

تفشي كورونا أوقف الاقتصاد العالمي فجأة. فسارعت الدول الى اتخاذ تدابير لاحتواء الفيروس. أغلقت حدودها وجميع قطاعاتها وكل أماكن العمل، وفرضت قيوداً على السفر على نطاق واسع. وكان للإغلاقات الإلزامية تأثيرها الكبير على النشاط والتجارة في العالم. فيما اختنق النمو وشهدت مستويات البطالة ارتفاعاً كبيراً مع الاستغناء عن ملايين الوظائف، ما دفع المقترضين الى التخلف عن سداد التزاماتهم الى المصارف. ومنحت هذه الاخيرة تسهيلات لهم من أجل تأجيل الدفعات المستحقة في موازاة رزم تحفيزية سخية أعلنتها الحكومات من أجل مساعدة الشركات والأفراد على الصمود.

الى اليوم، لا يزال الدعم المالي مستمراً في العديد من الدول. في الولايات المتحدة مثلا، وقّع  الرئيس الاميركي جو بايدن أخيرا على رزمة تحفيزية تاريخية بقيمة 1.9 تريليون دولار أميركي، فيما قرر الاحتياطي الفدرالي الاستمرار في شراء السندات بمعدل 120 مليار دولار شهرياً الى أن يلمس “تقدماً جوهرياً” نحو أهدافه المتمثلة في التوظيف الكامل والتضخم.

المصرف المركزي الاوروبي يعمل الى الآن على مساعدة المصارف الأوروبية على تجاوز محنة ديونها المتراكمة على الشركات والحكومات عبر مدها بالسيولة وبنسبة فائدة سالبة، كما يمنحها فرصة شراء السندات الحكومية عبر التمويلات قصيرة الأجل. وهو سيستمر في الشراء الطارئ للسندات بهدف ضمان بقاء الائتمان رخيصاً.

لكن ماذا ستفعل الشركات حين تتوقف هذه المساهمات ويتم التخلي عن هذه الاجراءات التحفيزية؟ وماذا ستفعل المصارف اذا استمر الوباء الذي يقلص النشاط التجاري ويفاقم انكماش الناتج المحلي الاجمالي؟ بالطبع، ستفقد الشركات والمؤسسات مدفوعات ديونها وستتوجه بالتأكيد الى تقديم ملفاتها للإعسار. بمعنى آخر، ستشهد المرحلة المقبلة زيادةً في حالات التخلف عن السداد والقروض المتعثرة في المصارف التجارية عامة. وفي المقابل، فإن أعباء ثقيلة ستهدد المصارف نتيجة استمرار الركود الاقتصادي.

 خطة أوروبية شاملة

تُعتبر مخاطر الائتمان من الأولويات الرئيسية للرقابة المصرفية للمصرف المركزي الأوروبي المكتوي من الازمة المالية العالمية ومن أزمة الديون الاوروبية، والعارف جيداً كيف يمكن أن تحدّ المستويات المرتفعة للقروض المتعثرة وغير العاملة من قدرة المصارف على دعم الاقتصاد الحقيقي. هو اليوم يتوقع تجدد ارتفاع حجم القروض المتعثرة في الأشهر المقبلة مع اشتداد تأثير أزمة كورونا على الاقتصاد الحقيقي. فقرر التحرك استباقياً عبر خطة شاملة لمعالجة ارتفاع القروض المتعثرة في مرحلة مبكرة ومنع تراكمها على المدى القصير في جميع أنحاء أوروبا. فكلما أسرعت المصارف في تحديد قروضها المتعثرة، كلما كانت عملية حل هذه القروض والتخلص منها أسرع وأكثر سلاسة.

في السنوات الأخيرة، وتحديدا بعد أزمة الديون الاوروبية، تعززت الرقابة المصرفية للمصرف المركزي الأوروبي، فساهمت في تقليل مخزون الأصول المتعثرة في الميزانيات العمومية لمصارف منطقة اليورو. اذ تظهر أرقام المصرف المركزي الاوروبي أن نسبة القروض المتعثرة في مصارف منطقة اليورو تراجعت الى 2.8 في المئة في الربع الثالث من العام 2020، من حوالي 7 في المئة في نهاية العام 2015. هذا التراجع في حجم اقروض جاء بعدما طلب المصرف المركزي من المصارف تقييد توزيعات الأرباح لتعزيز ميزانياتها العمومية وزيادة قدرتها على استيعاب الخسائر، وأطلق مخزونات رأس المال لزيادة قدرة المصارف على الإقراض. فتجنب بذلك حدوث أزمة مصرفية.

“يجب أن نتعلم من دروس الماضي لجعل الانتعاش الاقتصادي قوياً وبأسرع ما يمكن.. نحن بحاجة إلى مواجهة هذا التحدي بفاعلية”، تقول عضوة مجلس الإشراف في المصرف المركزي الاوروبي إليزابيت ماكول. وهذا يكون أولاً بأن تتأكد المصارف الاوروبية من أن لديها القدرة التشغيلية لمعالجة القروض المتعثرة بشكل سريع وشامل وتحديد مشكلات الملاءة الأساسية في مرحلة مبكرة. ولهذه الغاية، طلب المصرف المركزي الاوروبي من المصارف بأن تحدد الصعوبات المالية للمقترضين في مرحلة مبكرة، وأن تجري تحليلاً ائتمانياً شاملاً لتحديد ما إذا كان الوضع الائتماني الحقيقي للمقترض يشير إلى تدهور ائتماني دائم، وذلك بهدف إدارة التعرض بشكل استباقي تجاه العملاء المتعثرين، والتعامل معهم بهدف إيجاد حلول عملية وإعادتهم إلى مسار مستدام أو إطلاق خروج مبكر من السوق عندما لا يوجد خيار آخر متاح. وسيقوم المصرف المركزي بمراقبة مقاييس مخاطر الائتمان المتعلقة بهذه القروض ومدى توافقها مع ما وضعته الهيئة المصرفية الاوروبية للكشف عن حالات سوء التصنيف المحتملة، وتقييم ما إذا كانت العواقب قصيرة الأجل لأزمة كورونا قد تطورت إلى مشكلات طويلة الأجل.

التشدد الذي يبديه المصرف المركزي الاوروبي حيال تطبيق المصارف للخطوات الاحترازية المعلن عنها، يمكن ربطه مع ما أعلنته ماكول أن المصرف المركزي يرجح ازدياد حالات إفلاس الشركات الصغيرة والمتوسطة، وأن يجد عملاء المصارف صعوبة أكبر في سداد قروضهم في ظل إلغاء إجراءات الدعم تدريجياً واستمرار الصدمة الاقتصادية في الظهور في جميع أنحاء أوروبا. وهو ما سيؤدي حتماً إلى زيادة نصيب القروض المتعثرة في الميزانيات العمومية للمصارف والتي بدورها ستتطلب مخصصات أعلى وتولد خسائر وتضغط على قدرة المصارف على الإقراض وعلى ربحيتها المنخفضة هيكلياً أصلاً.

وكانت غيوم عدم اليقين المحيطة بمخاطر الائتمان بدأت تتضح، عبّر عنها أخيرا خوسيه مانويل كامبا رئيس الهيئة المصرفية الأوروبية ومقرها باريس. فهو كشف في تصريحات أن الهيئات التنظيمية تتوقع زيادة القروض المتعثرة “إلى مبلغ كبير” خلال العام الحالي، بعد عام من الدعم الحكومي للمقترضين وتساهل المصارف لعدم التخلف عن السداد. وقال كامبا إنه يجب أن يكون هناك “اعتراف مبكر قدر الإمكان بالخسائر. فكلما زاد اعتماد المقترضين على التساهل اللمنوح لهم بالسداد، زادت احتمالية رؤية آثار الانحدار لأنه من المرجح أن تكون هذه القروض قد تدهورت خلال هذه الفترة الطويلة من الزمن”.

أما رئيس مجلس الإشراف في المصرف المركزي الأوروبي أندريا إنريا، فكان أكثر دقة في عرضه للأرقام التي تنبئ بأوقات صعبة قادمة. اذ كشف أنه حصلت زيادة معتدلة في حصة التعرض المصنفة على أنها من غير المرجح أن تُدفع في ما بين حالات الوقف الاختياري الجارية والتي انتهت صلاحيتها. وهناك اختلافات كبيرة في ما يتعلق بكيفية تعريف المصارف بتعرضها للخطر، مما يثير القلق من أن بعضها لا يتبع نهجا ًكافياً ومناسباً في هذا المجال. ومن المثير للقلق على نحو خاص، بحسب تعبير إنريا بنفسه، الحصة الكبيرة من حالات التعرض التي انتقلت مباشرة من المرحلة الأولى (الأداء) إلى المرحلة الثالثة (عدم الأداء)، من دون اجتياز المرحلة الثانية (الأداء المتدني). وقد يوحي ذلك بأن نظم الإنذار المبكر غير فعالة.

هل هذا يعني أن المصرف المركزي الاوروبي يتخوف من خسائر مصرفية أعلى لاحقاً بعد انتهاء إجراءات الدعم؟ طبعاً، لكن الوقت يكون قد فات. فقد نشهد حينها انتكاسة جديدة للمصارف الاوروبية شبيهة بتلك التي عاشتها في بداية العقد الجاري مع أزمة ديون منطقة اليورو التي لم تتمكن دول المجموعة من حلها إلا بمساعدة صندوق النقد الدولي، والتي كادت أن تفلس العديد من دول منطقة اليورو، بعدما أفلست اليونان.

العدد 116 / ايار 2021