المخدرات .. الموت البطيء في العراق

د. ماجد السامرائي

المخدرات من اسطورة المال الى تراجيديا الموت

اذا كان القرن العشرين هو عصر التحولات والحروب الكبرى فكذلك كان عصر انتعاش المخدرات وتجارتها في الجنوب والشمال الغربي من الكرة الأرضية ..بعد إيطاليا في قارتي أمريكا الجنوبية حيث الفقر والجوع , والشمالية عالم الرأسمالية الجديد الذي دخلته المخدرات كفايروز منهك للأفراد والمجتمع .

قصة المخدرات ارتبطت بالسياسة وبالمؤامرات قبل أن تكون مرضاً اجتماعياً وفردياً يؤدي الى تخريب الانسان وتدمير مقوماته الأخلاقية وتحطيم المجتمع .

المافيا الإيطالية هي الأكثر ايقاعاً في تاريخ الجريمة المنظمة , وفقا لتقارير مكتب التحقيقات الفدرالي الأميركي يقدر عدد أفراد أهم ثلاث عصابات مافيا إيطالية وهي كوزا نوسترا وكامورا وساكرا كورونا، بنحو 25 ألف شخص، بينما عدد الأفراد المرتبطين بها حول العالم يصل إلى ربع مليون شخص.

يقدر مراقبو المافيا أن حجم الأموال التي تديرها هذه العصابة من وراء تجارة المخدرات يتجاوز 60 مليار دولار سنويا، وهو ما يساوي الناتج المحلي الإجمالي لدول كثيرة .تقيم هذه العصابة علاقات مع منتجي المخدرات والموزعين في جميع أنحاء أميركا اللاتينية، وفي بيرو وكولومبيا والبرازيل.عادة  ما تتعاطى المافيات الإيطالية بتجارة ” الكوكايين ” في

أوربا خاصة .

الموقع العالمي الآخر كانت كولومبيا , حيث عاشت امبراطورية المخدرات عصرها الذهبي أوائل ثمانينيات من القرن العشرين . فكانت صادراتها الى أمريكا تشكل 90% من مجموع ما يصل اليها من بلدان العالم . كان الرئيس الأمريكي نيكسون أول من أعلن الحرب على المخدرات ووصفها بعدو الشعب ” وأنشئت في عهده عام 1973 إدارة مكافحة المخدرات التي أصبح نشاطها الرئيسي في بلدان أمريكا اللاتينية حيث معامل الإنتاج وخطوط التصدير. كانت مدينة مديين في كولومبيا هي أكثر بقعة تنتج وتصدر المخدرات إلى شواطئ كاليفورنيا  , واسم بابلو اسكوبار أصبح امبراطور المخدرات حيث أسس أكبر كارتل للمخدرات في العالم . ولعل مما يثير الانتباه إن اسكوبار قد فاز بمقعد في الكونغرس الكولومبي عام 1982 تتويجاً لصورة “روبين هود” حيث نجح في وضع نفسه بهذه المكانة الدعائية من

ملك المخدرات – بابلو اسكوبار – كوبلومبيا

خلال بناء البيوت لفقراء مدينة مديين وبناء مدارس ومستشفيات وغيرها من المشاريع الخدمية، لكن بقاءه كعضو في البرلمان لم يدم طويلاً ثم قتل عام 1993 ثم تحول مركز تهريب المخدرات الى المكسيك . رغم الكفاءة العالية لجهاز مكافحة المخدرات الأمريكي لكن تعاطي المخدرات قد ازداد بين صفوف الشباب الأمريكي ليس هروباً من الواقع كما حال الشباب العراقي , لكن للمتعة بتعاطي الصنف الأخطر هو الكوكايين  ثم الأقل ضرراً المارغوانا حيث اضطرت بعض الولايات الأمريكية الى  إجازة بيعه وتعاطيه في المقاهي .

دخلت المخدرات بشكل مبكر في السياسة منذ هيمنة المافيات على الحكم في إيطاليا القرن الماضي ,وحالياً حيث تهيمن المليشيات في بعض الناطق العربية في العراق ولبنان مثلاً .  تاريخياً كانت  فضيحة ( ايران كيت ) أكثر وقعاً في عهد الرئيس رولاند ريغن في الثمانينيات  لدعم جماعات “الكونترا”  وهي ميليشيات مسلحة كانت تدعمها واشنطن في مواجهة حكومة الساندنيستا التقدمية في نيكاراغوا في فترة شهدت أحداث عنف راح ضحيتها الآلاف وكانت دول أمريكا الوسطى والجنوبية أحد مسارح الحرب الباردة . ارتكبت خلالها ميلشيات الكونترا أثناء حربها مخالفات صارخة لحقوق الإنسان واستهدفت المدنيين, في ذلك الوقت كانت إيران تخوض حرباً ضد العراق وكانت تتعرض للعقوبات الأمريكية وحظر توريد السلاح لها. تم اكتشاف شحنة أسلحة أمريكية في طريقها لطهران ما أدى للتحقيق الذي كشف أن شحنات الأسلحة كانت من أموال المخدرات بإشراف السي آي إيه .

المخدرات وحروب المستقل

تقف المخدرات وراء جرائم الاغتيالات في المكسيك والبرازيل وغيرهما من الدول، ورغم أن العالم منشغل بمكافحة الجرائم الإرهابية، فإن الجريمة المنظمة لا تقل خطرا عنها، بل كشفت النزاعات بالشرق الأوسط العلاقة الوثيقة بينهما عبر تواطؤ جماعات مسلحة وتورطها مع تجار المخدرات وتبييض الأموال، وأمام دوامة العنف التي يغرق فيها العالم يعجز القانون الدولي عن التصدي لها.

أمام هذا العنف الذي يغرق فيه العالم بسبب الجرائم المنظمة، توقع الباحث روبرت موغاه في تقرير له بمجلة فورين بوليسي الأميركية أن تكون عصابات المخدرات ومجموعات المافيا والجماعات الإرهابية هي المسؤولة عن شن الحروب المستقبلية، محذرا من أن الوقت قد حان لإعادة صياغة خطط جديدة تنقذ العالم من أهوال الحروب القادمة.

وشهدت الحروب انتقالة جوهرية في الوسائل والأدوات ، لا سيما بعدما تضاعف عدد الحروب الأهلية، عما كان عليه الأمر في عام 2001 مثلا , وتزامنا مع اشتداد النزاعات يتضاعف عدد الجماعات المسلحة غير الحكومية في إراقة دماء المدنيين.

في الحروب عادة بما في ذلك النزاعات الدائرة حاليا في ليبيا وسوريا والعراق، تتنافس الميليشيات المسلحة من أجل فرض السيطرة. غير أن غالبية هذه الفصائل المتحاربة هي نفسها منقسمة داخليا إلى حد كبير، ومن المرجح أيضا أن يكون عدد كبير من المقاتلين اليوم منتسبين إلى عصابات المخدرات ومجموعات المافيا والعصابات الإجرامية والميليشيات والمنظمات الإرهابية وليس إلى الجيوش أو فصائل المتمردين المنظمة.

تدمير الانسان العراقي عبر المخدرات

لم يكن احتلال العراق عملاً عسكرياً خاصاً كما كانت احتلالات المستعمرين للمنطقة العربية أوائل القرن العشرين , بل كان مشروعاً تدميرياً للعراق استغل الفرصة الذهبية التي قدمها رئيس النظام السابق صدام حسين في احتلال الكويت عام 1990 ليدخل العراق بتخطيط مسبق في نفق الظلام والموت البطيء منذ عام 1991 في أقسى حصار تعرض له العراقيون , كان بعض دهاة اليمين الأمريكي المتشددين على قناعة بأن تفكيك العراق وتدميره يمكن أن يتم بالحصار وحده لكن البعض الآخر وهم النافذون في البيت الأبيض وجدوا من احتلال العراق عسكرياً فرصة تاريخية لقيام مشروع الشرق الأوسط الكبير . كانت الصدمة الأمريكية كبيرة حيث لم تتحقق الأهداف الأمريكية فلجأوا الى النظام الإيراني كمساعد قوي وفاعل لتحقيق التدمير عبر الأدوات المحلية التي أتقنت فن الخداع بالمذهبية .

انتقل مشروع التدمير المنظم من القتل الجماعي والاختطافات على الهوية المذهبية في السنوات الأولى بعد الاحتلال الى استخدام آلة التدمير والموت البطيء ” المخدرات ” فالشاب العراقي المنهك من الجوع والفقر والحرمان والافتقاد التدريجي لأبسط مقومات الحياة الإنسانية حيث الأمية الجماعية بعد أن كان العراق خالياً منها قبل عام 2003 وفق منظمات الأمم المتحدة , أصبح هروبه الى المجهول عبر تعاطي المخدرات يسيراً لا يتعاطى المخدرات من اجل المتعة كما في الغرب وامريكا . فابتدأت حكاية الموت البطيء في العراق . لهذا وصل الحال ببعض الشباب المصابين بهذا الداء الخطير أن يبيع أحدهم قنينة الغاز أو أثاث بيته لشراء مادة الكرستال المخدرة .

كان العراق قبل عام 2003 خالياً من المخدرات لأن عقوبة الإعدام بحق المتاجرين رغم قلة أعدادهم كانت رادعة . استخدمت الأراضي العراقية بشكل محدود كمنطقة عبور للمخدرات القادمة من أفغانستان وايران .

ما حصل بعد الاحتلال الأمريكي انفتاح الحدود أمام أنواع كثيرة من عصابات الجريمة المنظمة في ظل غياب الدولة التي أزاحها الاحتلال العسكري , واستوطنت تلك العصابات في هذا البلد . كان طبيعياً أن تجد عصابات الاتجار بالمخدرات مناخاً وبيئة حاضنة لهم , ثم ليتم توظيف هذا الحقل التدميري لاستهداف الشباب العراقي . انتقلت القصة من كون العراق مجالاً جغرافياً ناقلاً للمخدرات الى بيئة للإنتاج في مناطق حيوية خاصة مدينة البصرة التي كان استهدافها مقصوداً .

استلمت المليشيات المسلحة هذا الملف الخطير بتوجيه من إيران وإشراف من الأحزاب التي وجدت في رعاية هذه التجارة رافداً مالياً نافعاً لتسديد بعض نفقات المليشيات وتحول بعض أفرادها الى نماذج مكررة لأباطرة المافيات في أمريكا اللاتينية .

كان غياب القانون وأدواته واغراق البلد في الفوضى السياسية والأمنية الفرصة الذهبية لانتعاش التجارة المنظمة للمخدرات . وبعد سبعة عشر عاماً على عمر هذا النظام لا يتردد المسؤولون الحكوميون عن الاعتراف بجسامة المشكلة وعدم القدرة على السيطرة عليها . ولعل من جملة الأسباب التي جعلت المليشيات في العراق تقتل الناشط والمحلل الأمني هشام الهاشمي هي صراحته في الأيام الأخيرة التي سبقت اغتياله . فبالاضافة الى تقريره الموثق حول وجود المليشيات ومستقبلها في العراق تجرأ في الحديث عن ملف المخدرات في حديث صحفي قال فيه ( إن ملف جرائم المخدرات تطور من ملف جريمة تقليدية عام 2005-2010 إلى جريمة منظمة 2010-2017 تهدد الأمن الوطني العراقي . ففي عام 2018 عدد من أدينوا كان نحو 1000 متهم بجرائم المخدرات , التعاطي والترويج والاتجار، وفِي عام 2019 ارتفع العدد حتى أصبح معدل من يُعتقل أسبوعياً بين 50-60 متهماً، وهذا أمر خطير جداً بسبب ارتفاع النسبة عن عام 2018 إلى الضعفين) لا يتردد مجلس القضاء الأعلى في العراق من التصريح بأن 50% من شباب العراق يتعاطون المخدرات . ومن نتائج مخاطر تعاطي المخدرات في العراق زيادة مشاكل التفكك الأسري وحالات الانتحار . الأرقام الرسمية تذكر بأن عام 2019 شهد 590 حالة انتحار مسجلة رسمياً .

المنافذ الحدودية مسيطر عليها من قبل المليشيات , ممر الموت هو منفذ ” الشلامجة ” المحاذي للبصرة جنوبي العراق , والمادة الأكثر رواجاً هي ” الكرستال ” والحشيش والترياك من إيران , تمر البضاعة بسيارات محمية من قبل المليشيات المسلحة , وهناك تواطؤ مع أفراد من الأجهزة الأمنية . تقول الأخبار الرسمية إنه في عام 2019  اعتقلت الأجهزة الأمنية أفراد عصابة تتاجر بالمخدرات في بغداد، كان من بينهم الضابط في جهاز المخابرات جواد الياسري ونجل محافظ النجف لؤي الياسري أحد قيادات حزب الدعوة الذي يتزعمه نوري المالكي .

ليست مدينة البصرة المستهدف الأول والأخير لإغراقها في المخدرات , فقد انتقلت الى المحافظات المحررة من داعش . ذكرت التقارير الرسمية إن المخدرات انتقلت الى الموصل بخطة محكمة من قبل إيران وميليشياتها , كما أصبحت كل من سامراء وتكريت مكاناً خصباً لزراعة المخدرات , تم الاعتماد على شخصيات لبنانية وايرانية لإنجاح هذا المشروع التدميري .

قصص مخجلة

من القصص التي تكشف ضخامة امبراطورية مافيا الفساد والمخدرات في العاصمة العراقية , حيث أخذ التنافس بين ابطالها درجة التسقيط العلني . فقد تناقلت أجهزة الاعلام العراقية قبل أشهر خبر عملية إلقاء القبض  على المدعو حمزة الشمري المعروف بإسم حجي حمزة وهو أحد قادة المليشيات المطلوب فضحه بعد تماديه حيث كان يدير ويشرف على أكثر من صالة قمار وروليت في بغداد لوحدها ، إضافة الى العشرات من شبكات الدعارة والتجارة بالنساء، وتنظيم ليالي حمراء لقيادات الحشد الشعبي من ضمنهم رجال الدين وزعماء أحزاب تابعة لإيران. حيث يجتمع باستمرار قادة المليشيات والسياسيون العراقيون البارزون التابعون لإيران إضافة إلى قيادات من الحرس الثوري الإيراني في هذه القاعات للعب القمار وإبرام الصفقات السياسية والتجارية وتوزيع المناصب الوزارية والأمنية، وكان الشمري يشرف بنفسه على تنظيم هذه الاجتماعات التي يبعد عنها في أغلبية الأحيان العمال العراقيون ويحرص على الإتيان بفتيات روسيات وأوكرانيات إلى هذه الاجتماعات. كان يجني يومياً أكثر من مليوني دولار يومياً يأخذ منها حصته والباقي لقادة ميليشيات نافذين في العراق .

في وقت انتقد كثر من الصحفيين العراقيين مهادنة رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي وتغطيته لتلك المليشيات التي ما زال العراقيون يتندرون بما قاله عن مصدر المخدرات من الارجنتين ,يقولون إنه يقصد إيران .

كارثة الموت التي يعيشها شباب العراق عن طريق إغراقهم بتناول المخدرات مترابطة مع مشروع احكام البطالة لكي لا تبقى هناك آمال بأن يستعيد العراق عافيته بعد رحيل هؤلاء الفاسدين من الطبقة السياسية الحاكمة بالبلد . لا توجد حلول جزئية لأن القضية تتعلق بالنظام السياسي القائم على الغطاء الديني والمذهبي . وهنا في هذه الجزئية البسيطة , هل بإمكان القنوات الفضائية وهي بالمئات في العراق أن تقوم بدلاً من ترويج الخرافات لمدعي الدين من المعممين بإطلاق حملة من قبلهم يوجهون فيها الشباب للتخلي عن تناول المخدرات رغم إنها ليست حلولاً لمعالجة الكارثة التي وصلت الى مستويات خطيرة ضمن مسلسل تدمير العراق .

الجواب : كلا لأن الجميع خاضع لمشروع واحد هو تدمير العراق وأهله .