معطيات الواقع العربي وجدوى الآنحياز إلى المستقبل

أ. د. مازن الرمضاني*

لا بد, ابتداءً, من تحديد دالة كلمة المستقبل الواردة في عنوان هذا المقال البحثي, سيما وإن استخداماتها العربية لا تتماهى مع تلك المنتشرة بين المستقبليين في انحاء العالم. عربيا, تُدرك هذه الكلمة بدالة لغوية, أي الزمان الآتي بعد الحاضر,ولا غير. وعلى الرغم من أن المستقبل يُعد موضوعيا بمثابة الحلقة الآخيرة في سلسلة أبعاد الزمان 🙁 ماضي, حاضر, مستقبل) الإ أن إدراكه بالمعنى اللغوي فقط يُعد ناقصا مفاهيميأ وحضاريأ.

فهو ناقص, لآن المعنى اللغوي للكلمة يفترض أن المستقبل معطى محدد مسبقا ولا دخل للإنسان في صناعته على وفق رؤيته وإرادته. ومثل هذا الفهم يتقاطع مع حقيقة إنفتاح المستقبل على شتى المشاهد البديلة: الممكنة والمحتملة والمرغوب فيها, فضلا عن أن الإنسان, كما يفيد واقع الزمان الممتد إلى ما قبل التاريخ, هو الذي يصنع المستقبل وليس المستقبل هو الذي يصنع الإنسان. ونحن نتبنى هذا المفهوم الحضاري لكلمة المستقبل.

مقالنا هذا يعمد إلى الآجابة عن السؤال  المركزي المركب الآتي:  ما مخرجات المعطيات الراهنة للواقع العربي ؟ وما الذي يدفع بنا إلى الإنحياز الى المستقبل الذي نريد والمشاركة في صناعته ابتداءً من الحاضر, وما  هي أهم الفوائد الناجمة عن مثل هذا الإنحياز؟

وبالقدر الذي يتعلق بالشطر الآول من هذا السؤال, أفضت دراساتنا لآحتمالات تطورالحاضر العربي خلال زمان المستقبل المتوسط: عقدان من الزمان ابتداءٌ من زمان الحاضر, إلى أنه قد يقترن بثلاثة مشاهد أساسية: مشهد ديمومة التردي الحضاري, ومشهد بداية الإرتقاء الحضاري, ومشهد ديمومة التردي وبداية الآرتقاء. وغني عن القول أن كل من هذه المشاهد يستند على مخرجات ثمة معطيات داخلية خصوصا  وأخرى خارجية داعمة لها, لسنا بصدد تناولها الآن.

ومع ذلك, نرى, وحتى تتبلور المشاهد الآخرى: الثاني والثالث أعلاه, من المرجح إستمرار أقتران الوطن العربي بمعطيات مشهد ديمومة التردي الحضاري خلال زمان المستقبل المتوسط. فديمومة هذه المعطيات إلى هذا الزمان هي التي ستجعل من المستقبل العربي إنعكاسأ إتجاهيا لمخرجاتها. وتتعدد وتتنوع هذه المعطيات بنوعيها الداخلية والخارجية, والتي أيضا لسنا الآن بصدد الدخول في تفاصيلها. ولكن, مع ذلك, نقول أن  ديمومة مخرجات الإنكشاف العربي الناجم عنها ستفضي إلى بقاء العرب خارج صناعة التاريخ , ولغيرصالحهم بالضرورة.

إن هذه الآرجحية العالية ستفضي بالقوى الإقليمية والعالمية إلى توظيفها سبيلا  لصناعة مستقبلنا ولكن لصالحها. إن في إستعمار المستقبل العربي الناجم عن هذا التوظيف تكمن الخسارة الكبرى. لذا يُعد مشهد ديمومة التردي العربي هو المشهد المرغوب فيه من قبل هذه القوى المعادية لفكرة ومشروع النهوض العربي, لانه, وببساطة, يحقق لها مصالح منشودة بأكلاف ليست باهظة.

وبالقدر الذي يتعلق بالشطر الثاني من السؤال  أعلاه, أي: ما الذي يدفع بنا إلى الإنحياز إلى المستقبل الذي نريد والمشاركة في صناعته؟ وما هي أهم الفوائد الناجمة عن مثل هذا الآنحياز؟ نرى أن الواقع العربي يفيد, في أن واحد, أن إنحيازنا نحن العرب للمستقبل تحد منه  ثمة كوابح, ولكن تدعمه بالمقابل ثمة فرص مهمة.

فأما عن الكوابح, فهي تكمن في مخرجات الإنتشار الواسع للثقافة الماضوية, أو للتبعية التاريخية, داخل شرائح عربية واسعة الإنتشار. فهذه الشرائح تذهب إلى سحب ما كان على ما هو كائن وكذلك على ما سيكون. ومن ثم رؤية الماضي بمثابة البديل للحاضر والمستقبل. ومما ساعد على هذا الإنتشار تاثيرمدخلات ثقافية متعددة تكمن في العقلية الشاعرية العربية, والمبالغة في تقييم تراث الماضي, فضلا عن الآخذ بالثنائيات المتقابلة. بمعنى اما أبيض أو أسود مثلا, ناهيك عن التثقيف الديني المتطرف الذي يرفض فكرة إستشراف المستقبل بحجة إنه ينطوي على التعدى على الذات الإلهية, علما أن القران الكريم ملئ بالايات الكريمة, التى تدعو إلى العمل من أجل المستقبل الدنيوي وكذلك ما بعد الدنيوي.

وتدعم مخرجات هذه المدخلات الثقافية تاثير مخرجات مدخلات علمية تكمن في تاثير عموم التخلف العلمي, وإنتشار الآمية الآبجدية والتكنولوجية, فضلا عن تراجع العقلية العلمية لصالح تلك غيرالعلمية بإنواعها . إن تاثير هذه المدخلات وسواها أيضا أفضت , وكما قال المرحوم خير الدين حسيب, إلى: ” غياب الوعي بالمستقبل عن تصوراتنا والتنظير بشأنه عن إبداعنا.”

وغني عن القول أن إسقاط الماضي على الحاضر والمستقبل إسقاطا مطلقا وشاملا يعبر عن رؤية لا تدرك أن العالم يتغير وعلى نحوٍ غير مسبوق وبمخرجات تجعله غير ذلك الذي كان. هذا هو واقع عالمنا , الذي تتطلب معطياتة أن نرتقي إلى مستوى تحدياتها وفرصها . فغير ذلك سنكون من الخاسرين. كما أن هذا الإسقاط يعبر عن رؤية ثقافية خاطئة.

فعلى الرغم من أن الماضي يشكل جزءأ مهمأ من تاريخ الإنسان, إلا أن مثل هذا الإسقاط يفضي بالضرورة إلى رؤية مجمل أبعاد الزمان وكأنها  تستوي مجازا والبساط الممتد الذي لا يتحرك ولا يتموج, ومن ثم إدراك الزمان وكأنه الزمان الراكد, وهو الآمر الذي يتقاطع مع دينامية عملية تغيير العالم وعلاقتها الطردية الموجبة مع حركة التاريخ. وهنا لنتذكر أن مخرجات هذه الحركة هي التي تؤدي بالزمان إلى أن يكون متجددا والمستقبل بدائل متعددة يختار الانسان منها ما يريد. لذا من الخطأ العلمي رؤية الماضي وكأنه هو الذي يصنع المستقبل. فحركة الزمان الممتدة إلى الآمام تؤكد إنها تتعامل مع معطيات لا سوابق ماضوية لها.

وأما عن الفرص, فهي تقترن بتلك المتغيرات العربية, المرئية وغير المرئية, التي تعمد إلى مقاومة إخراج العرب من التاريخ, ومن ثم تسعى إلى تحقيق التغيير المنشود في الواقع العربي لصالح المستقبل العربي الآفضل من الحاضر والماضي. وعندنا تكمن هذه المتغيرات في اربع مجاميع, وكالاتي:

أولآ, تاثير تسارع عملية التحول الديمقراطي في عدد من الدول العربية جراء ما يلي:

  1. تزايد عدد سكان المناطق الحضرية, ولا سيما العواصم العربية, وبضمن ذلك تزايد عدد المتعلميم والعاملين في مختلف قطاعات الانتاج, فضلا عن تصاعد مطالب هذه الكتلة البشرية, الحضارية- المتعامة -العاملة, وذات العلاقة بتأمين مشاركتها السياسية الفاعلة وإجراء إصلاحات شاملة وحقيقية, ومن ثم بداية تبلور رأي عام أعمق وعيأ , وأكثر إستعدادأ للتاثير الجاد في أنماط حركة صناع القرار العرب لصالح تأمين مطالبه.
  2. إقتران نمط حياة شرائح عربية واسعة بتراكمات ثمة تحولات كمية وكيفية حقيقية. وبالإضافة إلى أن الإرتداد عن هذه التحولات اضحى لا يقبل التحقيق, كذلك جعلت مخرجات هذه التحولات مطالب إعادة هيكلة الواقع العربي, سبيلآ لتحقيق التغيير المنشود, مطلبأ جماهريأ واسع الآنتشار.

إن  تاثيرهذه المتغيرات وسواها لا تسمح بقبول الرأي المتكرر, والذي يفيد أن الإنسان العربي سيبقى ماضويأ. لذا نحن بحاجة إلى  تسويق الرأي المضاد, الذي يؤكد أن الإنسان عمومأ مستقبليأ بفطرته. والدليل على ذلك أن الإنسان عمد, ومنذ زمان ما قبل الحضارة, إلى إستشراف المستقبل تبعأ لنوعية تطوره الحضاري في الزمان والمكان. وبعد تطور متواصل, استقر الإنسان على الآخذ بالتفكير العلمي في المستقبل وبمخرجات علمية وعملية ذات فائدة عالية. لهذا ينتشر هذا التفكير, ومن ثم الإنحياز للمستقبل عالميأ. وتنسحب مستقبلية الإنسان ايضا على الإنسان العربي رغم إنتشارالثقافة الماضوية عربيأ ومن بين فوائد هذا الإنحيازالآتي مثلآ:

اولآ, إستشراف مشاهد المستقبل.

 لقد أضحى الرأي يتفق على أن إستشراف المشاهد المتعددة والبديلة للمستقبل هي الفائدة المباشرة. ومن هنا يحرص جل المستقبليين على استخدام كلمة المستقبل بدالة الجمع بدلا عن إستخدامها بصيغة المفرد . وعلى الرغم من إننا نتفق مع هذا الإستخدام, الإ إننا نرى أن الانحياز إلى المستقبل لا يفضي إلى مجرد إستشراف المشاهد البديلة للمستقبل, وإنما أيضا إلى توظيف هذا الاستشراف سبيلا لصناعة المستقبل, ولاسيما المرغوب فيه. وبهذا الصدد لنتذكر أن العلاقة بين إستشراف المستقبل وصناعته تتميز بتداخلها الطردي, بمعنى أن أجدى وسيلة لإستشراف المستقبل تكمن في صناعته, وإن أجدى وسيلة لصناعة المستقبل  تكمن في إستشرافه.

ثانيأ, دعم عمليات التخطيط الإستراتيجي وترشيد عملية إتخاذ القرار.

 يعبرالتخطيط وإتخاذ القرارعن عمليتين ذات غايات مختلفة. فبينما يُقصد بالتخطيط الإستراتيجي, التدبرالرامي إلى الإستعداد للمستقبل عبر خطط معدة مسبقا تحقيقا لآهداف مرغوب فيها, يقترن إتخاذ القرار بالمفاضلة الدقيقة بين العديد من البدائل ذات القيمة الواحدة أو المتقاربة, ومن ثم إختيار البديل الآكثر قدرة على تحقيق المنشود. إن الإنحياز إلى المستقبل يفضي إلى دعم كل من التخطيط الإستراتيجي وإتخاذ القرار بتلك القاعدة المعرفية , التي يفترض أن لا  يتم إعداد الخطط و/أو إتخاذ القرار بدونها, وعلى ثلاثة مستويات:

  1. تقديم تحليل علمي بشأن جل المتغيرات المؤثرة في موضوع الإستشراف وأثر تفاعلاتها في بلورة مشاهد المستقبل.
  2. بناء فرضيات بشأن كيفية تبلور هذه المشاهد ومن ثم إخضاعها للفحص بقصد تحديد الفرص التي تنطوي عليها, والكوابح التي تحول دونها.
  3. إقتراح الإستراتيجيات الملائمة, قريبة أو متوسطة أو بعيدة المدى , للإنتقال بهذه المشاهد إلى حيز التطبيق.

ثالثأ, الحد من صدمة المستقبل.

غني عن القول أن العالم يتغيرعلى نحوٍ غير مسبوق, وأن مخرجات عملية تغيير العالم تفضي بالضرورة إلى أن يكون مستقبله  على قدر عال من الإختلاف عن ماضيه. إن هذه العملية تتطلب درجة عالية من الوعي والإستعداد النفسي لتقبل مخرجاتها ومن ثم الآرتقاء بالإستجابة الإنسانية إلى المستوى الذي يسهل الحد من تفاقم  الحالة , التي أسماها المستقبلي  الآمريكي المشهور, الفين توفلر, بصدمة المستقبل )  ( Future Shock, وهي التسمية التي جعلها توفلر بمثابة العنوان لآحد مؤلفاته  المشهورة :  صدمة المستقبل. المتغيرات في عالم الغد, والصادر في عام 1970.

 وبهذا الصدد, أريد  بصدمة المستقبل التعبير عن حالة التشتت والتمزق التي يعاني منها الإنسان جراء الفجوة المتزايدة بين سرعة  عملية تغيير العالم من جانب ومحدودية القدرة الإنسانية على التكيف مع مخرجات هذه العملية من جانب أخر. والآنحياز إلى المستقبل يُعد السبيل الآمثل للحد من تاثير هذه الفجوة. وبهذا الصدد يقول توفلر: “… ( لو توافرنا على) صورة واضحة للمستقبل, (فإنها يمكن) أن تمد حاضرنا بعديد من البصائرالتي لا غني عنها. إننا سنواجه مصاعب متزايدة في فهم مشكلاتنا الشخصية والعامة إذا لم نستعن بالمستقبل كأداة للفهم والإدراك…”

ونرى أن مضمون صدمة المستقبل لازال نافذأ ونحن في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. ويؤكد ذلك المستقبلي الآمريكي, جيمس كانتون, في كتابه الاستعداد الذكي للمستقبل. إذ يقول: “)… قد لا يدرك) أغلب الناس الذين اعتادوا أن يعيشوا حياة عادية أمرا مهمأ للغاية ( هو) أن التغييرات الشديدة والاتجاهات المستقبلية الجديدة ستقلب كل جانب من جوانب الحياة في هذا العالم, وبالتالي فإن أغلبهم غير مستعد لهذا التحول العالمي…بإختصار هم ليسوا مستعدين للمستقبل على الاطلاق…”

رابعأ, دعم الجهد المشترك لإستشراف مشاهد المستقبل.

 تتميز المواضيع التي تنصرف دراسات المستقبلات إليها بتنوع معطياتها وتشابك تفاعلاتها وعمق تعقيداتها. إن هذه السمات وغيرها تتطلب توافر ثمة شروط معرفية ومنهجية متنوعة قد لايمكن تأمينها إلا من خلال تظافر جهد مشترك يتأسس على تعاون وتفاعل وتكامل وطيد بين فريق عمل متخصص ضمانأ للآصالة والمصداقية سبيلا لتجنب انتاج دراسات توحي عناوينها إنها تنتمي إلى دراسات المستقبلات ولكن دون أن تكون كذلك عمليأ من حيث المضمون. وما اكثر مثل هذه الدراسات.

أن الحاجة إلى الجهد المشترك مع أهميته لا يلغي الجهد الفردي الإبداعي للمستقبلي المحترف, بل وحتى جهد المستقبلي الجديد على إستشراف المستقبلات. فالإستعانة بالمستقبليين الجدد يساعد على دعم إعدادهم كأجيال جديدة عبر إكتسابهم للخبرة العملية, وههو مستلزم مهم.

وفي ضوء جميع ما تقدم, لا مغالاة في القول إن الإنحياز إلى المستقبل, كتفكير وسلوك في الحياة, عندما يضحى ثقافة مجتمعية منتشرة, عندها يصير ممكنأ توسيع قاعدة المهمومين ببناء فراديس المستقبل لا الباكين على اطلال الفراديس المفقودة. ومثل هذه الثقافة, إن توافرت, ستكون الإداة التي تفضي إلى إكتشاف القدرات الكامنة للمجتمع وتجميعها, ومن ثم تحويلها إلى مصادر داعمة لكيفية التعامل الهادف والفاعل مع اللايقين والاستعداد للمستقبل بكفاءة أعلى.

والشىء ذاته ينسحب علينا: نحن العرب.

  • استاذ العلوم السياسية/ السياسة الدولية ودراسات المستقبلات/ لندن

العدد 119 / اب 2021