المصالحة في العراق لم تعد شعاراً مجدياً

المهمّ بناء بيئة تصالحية بين الحكم والشعب

د.ماجد السامرائي

بين فترة وأخرى يعود شعار »المصالحة« في العراق الى الواجهة لتبرير مشاريع سياسية لجهات متعددة، ولعل الحكومة وأحزابها النافذة دائما ما تعرض هذا الشعار ولكن من دون مضامين أو حقائق عملية.والمسلسل الاعلامي لشعار المصالحة في العراق طويل من دون محتوى منذ أن تولت الجامعة العربية أواخر عام 2004 ذلك المؤتمر اليتيم للمصالحة العراقية في القاهرة تبعته زيارة الأمين العام السابق )عمرو موسى( عام 2005 لبغداد وتحت راية الاحتلال الأمريكي وسلطة حكم منزوعة الإرادة المستقلة، وكانت هناك مقاومة مسلحة ضده من مختلف الفعاليات الشعبية من خارج العملية السياسية ولم يحقق موسى شيئا من زيارته للمصالحة المزعومة لأن جميع فرقاء الحكم لم يكونوا على قناعة بأية مصالحة سياسية في العراق وأخفق ذلك الاجتماع في تحقيق أية خطوة تصالحية لسبب جوهري هو إن لكل طرف من أولئك المجتمعين لديه رؤى متعاكسة مع الطرف الآخر.وكلّ ذهب في طريقه أحزاب الحكم استمرت في منهجها السياسي القائم على المحاصصة الطائفية والاستئثار بالحكم، والمعارضون تشتتوا ما بين متمسك بالمقاومة المسلحة ضد الاحتلال الأمريكي وما بين راغب في الدخول بالعملية السياسية، ثم تشتتت تلك المقاومة بعد رحيل الاحتلال عام 2011.كما قامت السعودية بعقد اجتماع )مكة( عام 2006 بعد تصاعد حدّة الصراع الطائفي السياسي وتفجير مرقدي الإمامين العسكريين علي الهادي وحسن العسكري في سامراء في الثاني والعشرين من فبراير في العام المذكور.وكان الشعار الذي رفعه المجتمعون بذلك المؤتمر هو )تحريم الدم العراقي( ولكن للأسف بعد يومين من ذلك الاجتماع حصلت هجمات دموية على الدور السكنية والمساجد في بعض مناطق حزام بغداد.ذلك إن التطرف والإرهاب لا تردعه مؤتمرات او اجتماعات مهما كانت عناونيها براقة.وقد أصبح بعض السياسيين يرفعون شعار »المصالحة« في تعبير عن اليأس من السياسات الحكومية والحزبية، وقد وجدت بعض القيادات »الشيعية« من موضوع المصالحة مجالاً وأفقاً لتمرير مشاريعها في الوسط العراقي، ومحاولة لكسر حالة الانغلاق الحزبي والطائفي.وكان مشروع السيد )عمار الحكيم( رئيس المجلس الأعلى وثم رئيس تيار )الحكمة( قد طرح المصالحة باباً لما سماه »التسوية التاريخية« لإنهاء حالة الصراع المفتعل ما بين شيعة العراق وسنته، لكن مشروعه كان موسمياً ولم تقبله غالبية أطراف واحزاب »الاسلام السياسي الشيعي«.وقد نشطت في هذه القضية الأمم المتحدة بعد عام 2012 من خلال برنامجها)الإنمائي( وهو نشاط وظيفي له أموال مرصودة تنفق داخل العراق أو خارجه في ورش الحوارات والتدريب في مجالات الأمن والاستقرار السياسي والاجتماعي في العراق.وقد احتكر عدد من البرلمانيين العراقيين تلك الورش لمصالحهم الشخصية ونادرا ما كانت تتجاوزهم الى الأفق الاجتماعي والسياسي والثقافي خارج العملية السياسية.ومن بين نشاطاتها إنها اشتغلت على موضوع المصالحة الوطنية في العراق خلال العامين المذكورين متزامنة مع اقتراحات من بعض البرلمانيين السنة قدمت في حينه لرئيس الوزراء نوري المالكي الذي وافق عليها لتحقيق »مصالحة« عبر جلب عدد من السنة »الغاضبين« ووعد هؤلاء الوسطاء الضعفاء المالكي حسب ما ورد من تسريبات في ذلك الوقت إنه بجلب هؤلاء ستنتهي أزمة المقاومة السياسية والعسكرية ضد )الحكم والسلطة( وسيدخلون تحت مظلة المالكي وتحت شعار »المصالحة« أيضاً، وحصل هؤلاء الوسطاء على المكافاءات و» الإكراميات« لكنهم فشلوا بعد جولات مكوكية بين الأنبار وبغداد لعدم امتلاكهم قدرة التأثير على اوساط واسعة.

لا شك إن أي تجمع ديني أو سياسي يؤشر بجدية الى مواطن الخلل السياسي والأمني العراقي هو فعالية مهمة وتستحق التأييد، لكن يجب الا تؤدي تلك الاجتماعات والمؤتمرات الى تغييب الجوهر الحقيقي للمشكلة العراقية وهي السياسات والتوجهات التي أدت الى الانفلات الأمني وغياب قانون الدولة، إن أية مصالحة جادة لا يمكن أن تنطلق من مؤتمرات وتجمعات اعلامية ولكن من تحديد واضح للمشكلة بأنها ليست صراعا بين الطائفتين السنية والشيعية واللتين تعايشتا على مر الزمان، وهناك معايشة ومعاشرة بين القبائل العربية في العراق التي تجمع الشيعة والسنة، فأي احتراب وصراع هذا الذي يحتاج الى مصالحة ؟ أما الحديث عن التسامح الديني والمذهبي ومواجهة الغلو والتطرف فهذا موضوع فكري وسياسي يهم العالم الإسلامي كله وعلاقته المتأزمة بالعالم الغربي والأمريكي في ظل نشوء وتطور التيارات المتطرفة. المشكلة في العراق سياسية مغطاة بالديني والمذهبي، فمن الصعب في عراق اليوم الفصل ما بين الديني والسياسي بعد أن قاد رجال الدين المعمموّن وخاصة من »الشيعة« أحزاباً وحركات وكتلاً سياسية نافذة بالبلد والى جانبهم شخصيات الاسلام السياسي )الشيعي والسني( الذين يجمعهم هدف واحد في مزج الأهداف الدينية المذهبية بالسياسية، وهذه هي إحدى مظاهر الوضع السياسي المتأزم في العراق.وهناك اعتقاد راسخ عند بعض القادة السياسيين العراقيين إن المصالحة هي شعار لتسويق البعض لأنفسهم أو لإيهام من ينادي بهذا الشعار إن الحكومة وأحزابها جادون في هذا المشروع والدليل على ذلك إنه تم تشكيل هيئة رسمية للمصالحة ملحقة بمكتب رئيس الوزراء، لم تحقق خطوة على الطريق الجدي للمصالحة رغم ما أنفقته من أموال طائلة للسفرات واللقاءات مع معارضين في عمان أو غيرها دون تحقيق خطوة واحدة على طريق المصالحة الوطنية الجديّة لسبب سياسي مهم وبسيط وضح منذ عام 2004 هو إن مبدأ المصالحة يتطلب وجود طرفين لديهما منهجان سياسيان مختلفان على القضية الوطنية العراقية ولا بد لهما من الجلوس على طاولة الحوار بعد توفر إرادة الاستماع الى الآخر والنيات الصادقة وهذا لم يتحقق لأن الطرف الحاكم قد صادر شعارات الوطن وشكك بغيره لكي ينفرد رغم الفشل السياسي والإداري في جميع السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية الى جانب ظاهرة الفساد التي نمت في حماية تلك الأحزاب.وألصقت بالطرف الثاني المعارض تهم )الإرهاب( والذي كان موجها نحو قوات الاحتلال الأمريكي، في ظل تصاعد سياسة التهميش والعقاب الطائفي بمختلف الأوجه وأبسطها حقوق المواطن العراقي المكفولة بالدستور في تولي الوظائف العمومية وليست الوظائف والمراكز السياسية العليا المحصورة لصالح الأحزاب، فتم استبعاد الكفاءات العلمية من أخذ دورها الوظيفي المشروع مما اضطر الكثير منهم للهجرة خارج العراق باصعب الظروف تخلصاً من الموت أو الاعتقال لا لتهمة سوى إنهم خدموا الوطن في ظل النظام السابق، وبذلك تم احلال الجهلاء وأصحاب الشهادات المزيفة محلهم،

لمن يخدم شعار المصالحة اليوم ؟ لا أحد، فالحكام ورؤساء الأحزاب الكبيرة لم يحتاجوا سابقاً ولا يحتاجون اليوم لهذا الشعار، لأنهم اختاروا طريقاُ آخر لتصفية الخصوم وإخماد الرأي الآخر تحت عناونين »الإرهاب وداعش« ومن تحدث من البيت »الشيعي« عن التسوية التاريخية أصبح اليوم يقتبس شعارات تقليدية سياسية ويرفعها مثل »الجيهة الوطنية« أما الزعامات السنية فقد اهتدت أخيراً الى طريق يسير هو الموالاة والتبعية وهم اليوم يتنازعون فيما بينهم على المرتبة بالتبعية يتقدمهم الحاصل على الرضى والتوصية من خارج الحدود، فلماذا »وجع الرأس« بقصة المصالحة، من بقي في الركب السياسي هم ممثلو بعض القوى المحسوبة على الصف الوطني والتي رفعت في مرحلة ما من العهد السياسي الحاضر شعارات عابرة للطائفية، وهذه اصبحت على قناعة بأنه لا توجد اليوم أطراف تعقد بينها المصالحة الوطنية.إن المصالحة الحقيقية في العراق ليست بالمؤتمرات والاجتماعات، وليس شعاراً تسويقياً يتجدد في مواسم الانتخابات، أو دائرة ملحقة بديوان رئاسة الجمهورية أو مجلس الوزراء العراقي، وإنما هو بناء مناخ سياسي واقتصادي واجتماعي شامل وبيئة تصالحية ما بين الحكم والشعب.