النزاع الأميركي-الإيراني يستبيح الساحة اللبنانية

 »عزل« جنبلاط كاد يشعل حربا في الجبل

بيروت-غسان الحبال

يرفض مرجع حكومي لبناني المقارنة بين قرار الحركة الوطنية اللبنانية برئاسة الشهيد كمال جنبلاط، في أعقاب ما سمي بـ »حادثة بوسطة عين الرمانة« في نيسان العام 1975 والذي قضى بعزل حزب الكتائب ووزارئه واقصائه عن المشاركة في القرار السياسي، والحصار الذي تعرض ويتعرض له الحزب التقدمي الاشتراكي منذ ما قبل الانتخابات النيابية الأخيرة في العام 2018، وصولا إلى أحداث عاليه الأخيرة في منطقة الجبل بين  »التقدمي الاشتراكي« من جهة والتيار الوطني الحر برئاسة الوزير جبران باسيل والحزب الديموقراطي اللبناني برئاسة النائب طلال ارسلان من جهة ثانية.

إلا أن المرجع السياسي يستطرد قائلا:  »إن هذا لا يعني التقليل من خطورة حادثة قبرشمون وخلفياتها وأسبابها المباشرة وغير المباشرة، وبما يمكن ان تجره على منطقة الجبل ولبنان ككل من تدهور أمني وسياسي«.

وفعلا، فإذا الحادث الدموي في قبر شمون، الذي وقع خلال شهر يونيو/حزيران الماضي، والذي راح ضحيته قتيلان وجريحان من مرافقي الوزير صالح الغريب، أعاد إلى الأذهان ذكريات بغيضة من الحرب الاهلية في لبنان، وصوراً ومحطات جهد اللبنانيون، وأهل الجبل تحديداً، لنسيانها ومحو آثارها، ووضعت مصالحة الجبل، ومعها الاستقرار الهشّ والتسويات المهشّمة أمام مفترق خطير، وإذا كان الدم قد أريق في الجبل، إلا أن الخوف والقلق والتوتر قد عمّ لبنان بسببه، وليس أدلّ على دقة الموقف مسارعة كبار المراجع والقيادات السياسية والروحية إلى

حادث قبرشمون.. التفاف درزي حول جنبلاط

الدخول على خط التهدئة لإدراكهم حراجة وخطورة ما جرى ولمنع انزلاق الأمور إلى الأسوا.

ويعكس هذا القطوع الخطير، الذي تلتقي بعض القيادات السياسية على ربطه بحركة وتحرك ومواقف وطموحات صهر رئيس الجمهورية ميشال عون وزير الخارجية جبران باسيل، الأزمة الداخلية بأبشع صورها والمدى الذي بلغه التفسخ والتباين والتواطؤ في العبث بأمن لبنان واستقراره، وهو يقف أصلاً على حافة الخطر سياسياً واقتصادياً وسياحياً ومالياً، الأمر الذي أعاد طرح الأسئلة المصيرية على الأطراف المشاركة والمتسببة والمتفرجة والمراهنة على الحادث، عن الغاية من دفع البلد نحو الفتنة والمجهول.

السنيورة وفقدان الثقة

وربما يكون رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة هو الشخصية الوحيدة التي عبرت بهدوء شديد عن خطورة التطورات السياسية والخلل الحاصل في التنسيق والتفاهم بين مختلف الأطراف السياسية في البلاد، والذي أدى بدوره إلى التوتر الأمني، حين حذر في أعقاب لقائه البطريرك مار بشارة بطرس الراعي في بكركي من أن  »الثقة ما بين الدولة والمواطنين انحسرت الى درجة مقلقة جداً، ولإستعادتها يجب إحترام القوانين والدستور والدولة والطائف والكفاءة، ويجب أن يرى المواطنون بأعينهم أن المسؤولين يمارسون هذا الإحترام، فعندما تستطيع الدولة أن تضع نفسها على المسار الصحيح سوف نخرج من الأزمة، كما يجب عليها أن تقوم بخطوات فعلية وتبدي للبنانيين أولا، وللمحيط والعالم أجمع ممارساتها الفعلية والصحيحة، وعندما يرى اللبنانيون أن هذا الموضوع يتطلب دورا منهم تصبح هناك إمكانية للخروج من الأزمة«. وغمز الرئيس السنيورة من قناة الوزير باسيل حين قال:  »ليس من المفيد إعادة نبش القبور بل يجب أن نعلي فكرة التسامح والغفران في ما بيننا وليس إثارة النعرات لأنها لا تفيد، فالمكاسب الصغيرة التي يحققها البعض سرعان ما تزول، ومن الضروري تفهّم الظرف الذي نحن فيه وما نعاني منه من وضع إقتصادي صعب، والتاريخ أعطانا نماذج عديدة ليفهّمنا أن لبنان بحاجة الى الإتزان والتوازن للإستمرار«.

وإذا كان السنيورة قد تحدث عن أزمة الحكم بشكل عام، فإن مصدرا مقربا من رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، بادر في أعقاب إحداث قبرشمون إلى توضيح التراكم في العلاقة السلبية بين الحكم والحزب التقدمي بسبب الإخلال بالتفاهمات  »فالحكومة هي حكومة وفاق وطني ولكنها أبعدت بعض الناس، وكل من ليس من  »التيار الوطني الحر« وحلفائه، ومنهم  »الكتائب«، من مواقع القرار«، في هذا الوقت كان عضو  »اللقاء الديمقراطي« النائب مروان حمادة يطالب بعودة هيبة الدولة والقضاء وأن يترك للّواء عباس إبراهيم أن يعمل على تسليم من أطلق النار من الجهتين«.

زحف نحو.. الديكتاتورية

وتحدث حمادة عن خلل في التوازنات في الحكومة مشيرا إلى أن  »هناك وسيلة جديدة يعتمدها العهد هي مجلس الدفاع الاعلى واستعماله لغرض ليس غرضه.. المشكلة ان هناك مخططاً مع سابق تصوّر وتصميم في تشكيل الحكومة وحصر الوزارات السيادية وتلك التي تحضر مجلس الدفاع الاعلى وتغييب سائر القادة سوى قائد الجيش«، وقال:  »تبين ان هناك خلق لهيئة تعطى صلاحيات غير دستورية، وهذا ينم عن الزحف نحو الدكتاتورية والفاشية المغلفة في الجمهورية الديمقراطية البرلمانية«.

جبران باسيل.. حرق المراحل ام حرق البلد؟

وفي هذا الإطار أيضا، يعتبر وزير العدل السابق أشرف ريفي أن ما حصل ويحصل هو  »إستهداف من المحور السوري الإيراني لوليد جنبلاط«، ويقول أن  »الكيان الدرزي هو كيان وطني وسيادي في لبنان بالإضافة لكونه كياناً عروبياً بتاريخه وحاضره ومستقبله«، ويدعو ريفي  »الأطراف السيادية التي كانت رمزاً لانتفاضة ثورة الأرز 2005 بألا يتخلوا عن جنبلاط ولا عن خطه الوطني العروبي فعندما يؤكل، سيؤكل الثاني والثالث«، مشيرا الى أن  »الفريق الاخر يستهدف كل الكيانات السيادية التي تعمل خارج إطاره«.

ويوضح أنها  »فرصة لإعادة لمّ شل هذه القوى ووليد جنبلاط هو في طليعة السياديين ويجب علينا دعمه وحماية حِراكه كونه يشكل ركناً أساسياً فيها في لبنان والعالم العربي على حدٍّ سواء«.

وتتحدث مصادر محايدة عن ثلاثة دوافع خلف الإصطدام الذي حصل:

الدافع الاول شكّل السبب المباشر بإستمرار الحزب التقدمي الاشتراكي، ويتعلق بالتوازنات الداخلية وموقع رئيسه وليد جنبلاط في معادلة السلطة منذ وصول العماد ميشال عون الى رئاسة الجمهورية. وليس سراً أن أحد أبرز خلافات جنبلاط مع الرئيس سعد الحريري كانت شكواه من التساهل الذي يبديه الحريري حيال سطوة الوزير جبران باسيل داخل الحكومة.

أما عشية اندلاع الصدام كان ملف التعيينات هو سيد المفاوضات في الكواليس السياسية، حيث بدا لجنبلاط وجود اتجاه جدي لإعطاء رئيس الحزب الديموقراطي اللبناني الأمير طلال ارسلان، وأيضاً رئيس حزب التوحيد العربي وئام وهاب نسبة وازنة من الحصة الدرزية، وكان ذلك بالنسبة الى جنبلاط بمثابة توجيه ضربة قاضية لزعامته، وخلال الاسابيع التي سبقت الاصطدام الامني راحت الأمور في اتجاه توزيع حصة الوظائف الإدارية للدروز بين ثلاث قوى، الأمر الذي استفز الحزب التقدمي وأدى إلى التفاف الشارع الدرزي حول جنبلاط، وقد ساعد في ذلك الأخطاء المتتالية التي ارتكبها الوزير باسيل ما سهّل عملية تعبئة الشارع الدرزي.

باسيل وتناقض الخطاب

الدافع الثاني هو المرتبط باستحقاق رئاسة الجمهورية، والذي تمثل بجولات باسيل المناطقية والهادفة إلى تسويق نفسه لرئاسة الجمهورية، اضافة الى شد عصب جمهوره على الساحة المسيحية الذي يتطلب خطابا غرائزيا يظهره الاقوى مسيحياً، فيما توسيع دائرة حضوره في الساحات الأُخرى يتطلب خطاباً استيعابياً وانفتاحياً، وقد أدى هذا التناقض في الخطاب بين بيئة وأخرى الى أخطاء كثيرة أدت إلى استفزاز مختلف القوى السياسية في البلاد.

ويشكل الدافع الثالث مؤشرا إلى أن ما حصل في الجبل لم يكن لا صدفة ولا وليد ساعته، بل جرى التحضير له قبل أيام من خلال التعبئة والتجييش. ويوم الحادث بقي جنبلاط الذي كان خارج لبنان، خارجا عن السمع ايضا، الى أن وقع الحادث فتخلى عن حذره وتحفظه المعتادين، فيما بقي حزبه على نبرته العالية من غير اي تراجع، لا بل أنّ النائب فيصل الصايغ المعروف بمرونته، ردّ بعنف على كلام المسؤول في  »حزب الله« الوزير محمود قماطي، ما أوحى أنّ جنبلاط يتكئ على غطاء كبير مجدداً، جعله يتخلّى عن سياسته الحذرة. غطاء يريد له إعادة إحياء دور جنبلاط لمواجهة  »حزب الله« في ظل الوضع الجديد والدقيق الذي تعيشه المنطقة وسط النزاع مع ايران.

إيران وخلط الأوراق

ويعتبر ديبلوماسي غربي أن أحداث الجبل تشكل منعطفا كبيرا في مسار الحياة السياسيّة والحسابات الداخلية اللبنانيّة، لكنه يضيف أنه من الخطأ الجسيم إغفال المعطى الخارجي في الأسباب والمؤثرات، وهذا ما أوحى به جنبلاط حين أبدى تخوفه من أن الأزمة في لبنان هي انعكاس لأزمة من صفقة أكبر يجري العمل عليها وقد يترتب عليها إعادة خلط للأوراق في لبنان والمنطقة، من منطقة الخليج واليمن إلى العراق فسوريا ولبنان والأراضي المحتلة.

ويقول الديبلوماسي الغربي أن إهتزاز الإستقرار الأمني والسياسي في لبنان، وتعثر مفاوضات الحدود في ظل وضع إقتصادي-مالي سيء، تشكل مؤشرات لرسائل إيرانية معبرة عبر الساحة اللبنانية.

ويضيف أنه لمواجهة تصاعد الضغوطات الأميركية على إيران، لجأت هذه الأخيرة إلى التصعيد بوجه أميركا وحلفائها، مستخدمة ساحات متعددة تنتشر فيها مكونات فيلق القدس والكيانات المسلحة المتحالفة معه: غزة، اليمن، العراق، وسوريا،فيما ظلت الساحة اللبنانية حتى اللحظة الأخيرة خارج هذا المنحى التصعيدي، لا بل بالعكس بعثت إيران برسائل إيجابية لأميركا من خلالها: كالإفراج المفاجئ عن نزار زكا، والدخول في مفاوضات إسرائيلية-إيرانية بالمضمون، وإسرائيلية-لبنانية بالشكل، حول ترسيم الحدود البرية والبحرية الإسرائيلية-اللبنانية. وقد هدفت إيران من هذا التصرف الإيحاء أن بإمكانها أن تنتهج الإيجابية مع أميركا، غير أن إستثناء الساحة اللبنانية من رسائل طهران الحامية لها سبب أساسي آخر، هو مراعاة وضع حزب الله في واقع لبناني يعاني إقتصاديا وماليا ومرشح لعقوبات قد تنعكس سلبا على الحزب، بالإضافة إلى أن حزب الله هو المكون-القاطرة لفيلق القدس، مما يحتم عدم إستخدامه إلا في حالات الأخطار القصوى.

ويقول الديبلوماسي الغربي، أنه ليس صدفة ما حدث في الجبل في هذه اللحظة التي تحتدم فيها المنازلة الأميركية-الإيرانية، ولا صدفة إندفاعة باسيل على زيارات كافة المناطق اللبنانية وإجتماع الثلث المعطل في وزارة الخارجية في وقت يفترض بالوزراء أن يحضروا ألى القصر الحكومي، وليس صدفة أن تتعثر المفاوضات الحدودية، فكافة هذه التطورات هي رسائل إيرانية يفترض باللبنانيين التعاطي معها متكاتفين.

 

 

العدد 95 – اب 2019