النقد الأدبيّ الرصين

“رؤى وروايات” قراءات في أفق الرؤية”  للناقدة خالدة سعيد

بيروت – ليندا نصار

    ليس خفيًّا أنّ ناقدة الأدب الحديث خالدة سعيد لم تتوقّف عند تجربة واحدة بل نوّعت أبحاثها النقدية وعملت على الأدب بالإضافة إلى الفنون كالسينما والرسم وغيرها. كما أنّ المتطّلع إلى مسيرتها في الأدب والنقد لا يمكنه أن يغفل عملها على تشريح النص الأدبي وتطبيقها المنهجيات وتطويرها

خالدة سعيد

وابتداعها نظريات ورؤى خاصة تمكنت من خلالها الولوج إلى أعماق هذه النصوص والكشف عن خفاياها متطرّقة إلى أهمّ القضايا التي تطرحها القصائد والروايات. لخالدة سعيد كتب نقدية أشهر من ان تعرّف ونذكر منها: يوتوبيا المدينة المثقفة 1 و2، جرح المعنى، فيض المعنى، فضاءات، وكتاب رؤى وروايات موضوع مقالنا.

    خالدة سعيد التي واكبت مجلة شعر ونبغ نجمها منذ خمسينيات القرن الماضي، آمنت بالإنسان وصوّبت قلمها نحو التّطلع إلى القيم الإنسانية التي لا بدّ من أن تكون عصب نجاح كلّ مبدع لتكتمل مسيرته وليترك بصمة للأجيال وإرثًا لهم في المكتبة العربية.

    أيقونة النقد العربيّ  الحديث في بلادنا، كما أسمتها جريدة النهار، اشتغلت حديثًا على كتاب بعنوان رؤى وروايات (دار تكوين للنشر والترجمة في دمشق سوريا)  وهو عبارة عن مجموعة أبحاث تعنى بالنقد، يتضمّن ستّ دراسات نقدية  بينها دراسة شعريّة خصّت فيها الشاعر أمجد ناصر وأخرى في السينما( سلوى بكر: البشموري أو عودة شهرزاد، يوسف حبشي الأشقر الذي خصّته في بحث مطول فاشتغلت على “لا تنبت جذور في السماء” الزمان والشخصيات والسرد وكتابة اللاكتابة، الإيقاع والفيض في نجوم أريحا” للروائية الفلسطينية ليانة بدر،  أمجد ناصر والكشف عن لعب المرايا أو البحث عن الزمن المكتشف في رواية خذ هذا الخاتم، الطيب الصالح والعمق الأسطوري في رواية عرس الريف: العمق الأسطوري في عرس الزين، وطوق الحمامة المفقود: السينما كرواية شعرية)

    الناقدة التي تتمتع بثقافة واسعة راكمتها عبر الزمان وتحصيلًا معرفيًّا، اشتغلت بطريقة علمية مضيفة رؤيتها للنص كقارئة أولًا قبل أن تكون ناقدة. إنها تختار في نقدها من ابتعدوا عن القوالب الجاهزة وخرجوا عن المألوف وهذا هو المشترك بين النصوص المختارة في هذا الكتاب حيث يمتاز المنهج النقدي لخالدة سعيد بالصرامة والدقة والأسلوب العميق وقد اشتغلت على المصطلحات والمفاهيم النقدية وفق معايير النقد وعدة تقنيات لتكون تجربة تؤسس للأجيال المقبلة.

    تفتتح الناقدة كتابها عن الرؤية التي تلغي الحدود بين الأزمنة معتبرة أنّ الروايات رحلتها الإضافية وكأنّها تريد أن تردّ للمقروء بعض الجميل. إذ تكتب في افتتاحية الكتاب: “الرواية لقاء المفكر والمؤرخ والحالم ذي الأفق الشعري. هي رؤية تفتح الأبواب والحدود بين الأزمنة. كانت قراءة هذه الروايات رحلات إضاءتي، آمل أن تكون قد ردّت للمقروء بعض الجميل.”

عن أمجد ناصر في رواية “خذ هذا الخاتم”:

وتتناول الناقدة خالدة سعيد الشاعر أمجد ناصر في روايته “خذ هذا الخاتم” معنونة بحثها ” لعب المرايا أو البحث عن الزمن المكتشف”. فتشير إلى أنّ نص الشاعر أمجد ناصر يحمل نوعًا من الأصوات والخطى على طريق الملوك فنصّه ساحر تتداخل فيه الرؤى الشعرية والقيم الحكائية حيث تتأرجح بين الذاتي والتاريخي. ويتبدّى عنده تعدّد العوالم الفنية الشعرية حيث انتقال الانزياح من الشعر إلى السرد لمحاكاة المعنى. فلدى أمجد ناصر التباس الأخبار بالمجاز حيث تتموّج الأصوات من الذاكرة عبر الأزمنة. لعلّنا أمام سيرة ذاتية للمكان. أمّا الراوي فهو مرآة تعكس صورة الراوي الحقيقي وكأننا أمام سرد عبر المرايا أمّا لغته فتقترب من لغة الحلم ليسير بين الواقع والخيال فتعتبر الناقدة أنّنا هنا أمام شاعر يتقن اللعبة منطلقًا في كتابته من تداعيات الذاكرة.

تلخص رواية “خذ هذا الخاتم” لأمجد ناصر البائعة الصحراء التي تحشد الذكريات بماضيها وحيواتها المتناسلة وصورها الغريبة ومفرداتها المستوحاة من معجم الطفولة، بالنسبة إليها وبعد البحث والتعمّق في النص تجد سحر الصحراء في سبيل البحث عن الزمن المكتشف الضائع وهي سيرة بلد بأكمله بكل تحولاته وهو الشاهد على الحروب والتغييرات، تداخل الشعر في المقاطع السردية لغة التباس مفتوح على الأسطورة.

من مسرح الحلم والوهم عند أمجد ناصر تولد الشخصيات. فرواية “خذ هذا الخاتم ” هي سيرة التجارب الشبابية. كأننا أمام أسطورة أو أنه يحفر في الحلم أساطير مثقلة بالرموز، هو بحث شعري حول عدة مدن.

كذلك تمكّنت الناقدة من اكتشاف عدة مرايا في نصوص ناصر: الحلم الذاكرة العالم… وترى أنّ الراوي يتخفّى وراء قناع المخاطب. وتمتاز العمليّة الكتابية عنده بالبعد التأملي والغموض وتكثر الرموز والوصف التحليلي. باختصار تعتبر سعيد أنّ أمجد ناصر هو شاعر عليم بالحدود بين الذاكرة والخيال.

“الإيقاع والفيض في نجوم أريحا” الروائية الفلسطينية ليانة بدر

وتعالج خالدة سعيد في رواية “نجوم أريحا” للروائية الفلسطينية ليانة بدر، الفضاءين المكاني والزماني وحبكة السرد والشخصيات التي تؤدي أدوارًا توصلها إلى ما هي عليه فتحدد تصرفاتها وتمثّلها في هذا الإطار. إنها تستحضر زمن الوقائع وترصد حركية الذكريات فترى الناقدة أنّ نص ليانة بدر متمرّد على حدود النوع وتقاليده.

تمارس بدر عملها حيث تقارب الحياة من موقع تسميه ضد الحياة أو صلب الحياة وتعمل بطريقة مقلوبة كأن تستحضر الزمان من الغياب، الزمان المكسور أي ضد الزمان. هنا لا تماسك لا الماضي متماسك ولا الحاضر حتى أنّ الأحداث حطام أحداث.

أريحا ليانة بدر ليست مدينة عادية بل هي مسارح وذكريات تستحضرها وتعيدها إلى الحياة، كما أنّها ليست مكانًا واحدًا بل أكثر من مكان إنها تستعيد مدينتها على شكل كائن نابض متحرك مبني على تناقضات الفرح والحزن. أريحا ليست فلسطين الإعلام إنها أريحا بعاداتها وتقاليدها وقصصها وسحرها. ففي النص عدم استقرار على الزمن الماضي ولا على الحاضر في إيقاع النص. وتكشف الكاتبة التمزق من خلال التناقضات وتوتّر هذه المدينة وفي وطنها ككل وكأنّها تردم الغربة وتخفّف من ثقلها عبر الخيال والأحلام والأحاسيس والتفاصيل واللحظات، إذ  تلتقط الشفرات بالحس. فليانة بدر تعمل على التنوع بين الاستقرار واللااستقرار ويمكن القول هنا وبحسب خالدة سعيد إنها حركة ضد التمزّق. وتتابع بأنّ ليانة بدر كتبت بحدس عجيب قبل اتفاق أوسلو  وكأنّه مكتوب بجرة قلم واحدة في سباق مع الوقت والكوارث.

طوق الحمامة المفقود السينما كرواية شعرية للسينمائي والحكواتي التونسي ناصر خمير

اختارت خالدة سعيد فيلم “طوق الحمامة المفقود” للأديب والمخرج السينمائي ناصر خمير وهو العمل السينمائي الوحيد الذي أدخلته ضمن هذه الأبحاث في هذا الكتاب. وقد انتبهت الناقدة هنا أنّ المشاهد تتوالد من بعضها البعض مثل المنمنات المتحركة إذ عمل ناصر خمير على تصميم اللوحات والمشاهد بحسب تطابق الألوان الإسلامية. بالنسبة إليها هذا الفيلم ليس تاريخيًّا بل هو عبارة عن عالم يرسمه المؤلّف فنحن أمام أندلس الأحلام وتصوّر العرب لتاريخهم باستحضار الموروث الحكائي. فتدرس الناقدة المكان والشخصيات ولا يخفى عليها تحليل علاقة هذه الشخصيات خصوصًا بالمكان حيث اللعب على الأضواء.

الطيب الصالح العمق الأسطوري في رواية عرس الريف: العمق الأسطوري في عرس الزين

التفتت الناقدة خالدة سعيد في بحثها إلى المجتمع وصورته الذي تجمع بين توازنه وعدم اتّزانه في آن، إنها الشخصية الأساسية التي تتخطى الطبقية ملمّحة إليها وتمثّل شخصيات نجدها في كل زمان ومكان في مجتمعنا.

إنها ترسم شخصية الزين بشكله الخارجي على غرار أنكيدو في ملحمة جلجامش، هذا الزين يخضع للتحولات مع الزمن وتصور الناقدة مواقف الناس منه وتربط هذه الشخصية بمن لم يكتمل ولم يتزوج أولم يكمل نصف دينه ولم يدخل ضمن مؤسسة اجتماعية معينة، فتصف أدقّ تفاصيله وتبرز تحول الزين من شخصية قبيحة شبيهة بالحيوانات وشراهته وعدم إدراكه الفوارق الاجتماعية، فهو شخصية لا تلتزم حدودها ثم تصف العلاقات بينه وبين صداقاته ونظرة الجماعة له وعرسه وهو مخبول في نظرهم فتدقق في المواقف المتناقضة وكونه شخصية روائية. إنّها صورة الراوي الذي اختار الزين شخصًا غير عادي منذ الولادة وحتى الزواج. وتختم عن الطيب الصالح بأنه صورة الشخصية في القرية وهنا تبادل الأدوار ونظرة الجماعة لبعضهم البعض، وتعتبر أن الطيب الصالح من الذين حققوا الرواية الحديثة.