الكتابة والعودة إلى مسرح الجريمة

“ليست الكتابة بالأمر الصعب، ما عليك سوى أن تجلس أمام الآلة الكاتبة وتبدأ بالنّزف”. حسنًا، لنبدأ بما قاله السيد أرنست همنغواي) 1899-1961 (ومن التضاد المقصود بين سهولة الكتابة وذاك النزف المرافق. جرح مفتوح حتى رمق الكلمة الأخيرة. هكذا ترتدي الكتابة رداءً داميًا مفتونًا بالعنف الروحي. وهكذا يتّسع الوصل بين الكلمة والجرح.

الكتابة “انفتاح جرحٍ ما” يقول فرانتز كافكا (1883-1924)، ولكن هل من خيطٍ سرّي يخيط ما انفتح؟ على الورق وفي الروح بلا ألم ولا قيء ولا ندوب؟  

مناسبة الكلام على الكتابة وطقوسها ومراميها وهولها عند الحدوث، وأبعادها وانثيالاتها النفسية والروحية، ما كتبته الفائزة بجائزة نوبل للآداب 2022 الفرنسية أني إرنو في إحدى رواياتها “الشاب” حين تحدثت عن “المعادلة الفيزيائية” التي “إن لم أكتبها لا تبلغ مداها، وتبقى مجرد أشياء عشتها، بل لا يتحقق وجودها أصلاً”. ما دفع بالكاتبة إلى الدخول بعلاقة عاطفية مع طالب شاب يصغرها بثلاثين عامًا. كل هذا لإيجاد دافع للكتابة لأن “نشوة الكتابة لا تفوقها نشوة أخرى” كما تقول، وكل هذا لقدح شرارة تأليف كتاب.

قبل أن تصبح الكتابة فعلًا ميكانيكيًا يتقنه البعض لأهداف اقتصادية من دون اكتراث لقدسية الكتابة وجودتها، نستحضر قول بنجامين فرانكلين (1706 – 1790): “إما أن تكتب شيئًا يستحق القراءة، أو أن تفعل شيئًا يستحق الكتابة عنه”. فهل تأخذ الكتابة مداها بعد تدوين الفعل، أي فعل، أم أن الكتابة هي حاجة بيولوجية تُربِّت بأصابعها النحيلة على مكمن الإلحاح في خلفية رؤوسنا، فنلبّي نداء شريكتنا في التانغو كي لا نرقص فرادى في رقصة هذيان لا تتوقف؟

أو أنّنا نتلطّى خلف الكتابة في محاولةٍ للتواري والاختباء والهرب من عجز عن تقديم أنفسنا كما يشتهي أن يرانا الآخر؟ “الآخر الجحيم”، على قول “سارتر” الفيلسوف، الذي هرب هو الآخر، من الآخر، لعجزه عن إثبات تفوّقه الفلسفي والفكري (رغم الاعتراف بهذا التفوّق) كما يشتهي أن يصدّقه هذا الآخر لا كما يكرّسه.

أم أننا “سنصرف العمر في إتقان فن الكتابة لنذيع جهلنا لا غير”، كما أجاد بالشرح ميخائيل نعيمة؟

في آخر المطاف، تبقى الكتابة عزلتنا الأنقى، وتبقى العودة المتكررة إليها كعودة المجرم إلى مسرح الجريمة وانخراطه باحثًا مع المحققين عن دليل دامغ على أنه هو الضحية، والجلّادون هم من نحرتهم قريحته وهي تتفتّق عن عوالم لا يعرفها سواه…