الهوية والعولمه .. وحرب المفاهيم

طرحت رئيسة التحرير السيدة ابتسام اّوجى قضية (الهوية والعولمه) في احدى جلسات التحرير للبحث والدراسة ،وهي قضية بالتأكيد تحتاج بالفعل الى الكثير من المتابعه سواء في مراكز البحث والدراسة ومنابر الفكروالثقافة أووسائل الاعلام المختلفة ،فهي قضية تمس ثوابتنا على نحو تتزايد اهميته،فقضية الانتماء والهوية  ليست قضية عرضية ،وانما هي قضية اساسية ،ومازلنا نذكر تصريحا لرئيس الوزراء الاسرائيلي السابق ( بنيامين نتنياهو)، في مقر ( الشاباك ) وهو جهاز الامن الاسرائيلي  ، يعرض فيه بالقومية العربيه بقدر فيه الكثير من الاستخفاف أو

ميشيل عفلق
مؤسس حزب البعث

الاستهانه وهي انتماؤنا وهويتنا وقوله في هذا التصريح ( لقد نجحنا في القضاء على القومية العربيه ) وهو تحد علينا ان نجابهه، فهو ليس مجرد تصريح ،وانما هو اعلان يكشف عن نوع من التمني ،وللأسف فهو يكشف كذلك عن واقع مر نعيشه ونحياه ،وهواللهاث والهرولة التي نراها بأعيننا ،وراء عمليات التطبيع ،والنشوة  الاسرائيليه بأنهم يحرزون انتصارا وراء اّخر،ليس من خلال معارك عسكرية ،ولكن من خلال ضغوط سياسية او اقتصادية او حتى دبلوماسية   ،ان الأنتماء هو اعلان للوجود ،ومن ثم فهو رمز للبقاء .يزيد من تفاقم الأمر وخطورته هو اننا بالفعل نمر بفترة ،خفت فيها صوت ( العروبة) وخبى وتوارى كصوت جامع لأمة ،وانفرط فيها عقد التوحد في مواجهة ( العدو) ان لم يكن مفهوم ( العدو) نفسه قد اختلط في بعض الأذهان ،واصبح مجرد ( خصم) ذلك ان لم يكن (صديقا) وربما ( حليفأ) في تقديرات شديدة السذاجة  . تلك وحدها مأساة كان لها بلا شك تأثيرها  في بعض الاحداث التي مرت بها الأمة العربيه ،واّخر تلك  التحديات التي تواجهنا اليوم في اطار (حرب المفاهيم) التي نخوضها الآن، مفهوم اّخر تلوكه الكثير من الالسنه هو مفهوم ( العولمه) وكأنه مفهوم اصبح جاهزا وملائما ليأخذ مكانة الهوية والانتماء .!

قضيـة الهـويـه

قامت الأمبراطوريه العثمانيه ،واستطاعت ان تتمكن من تثبيت دعائم حكمها في مناطق شاسعة من العالم، وكانت الكثير من الدول التي نراها اليوم دولا مستقله وذات سيادة، تدخل في اطار سلطتها ،وضمن ولاياتها المتعددة لفترة زمنية تجاوزت اكثر من ستمائة عام. كانت هذه الدول التي ظهرت على السطح في بدايات القرن الماضي، مجرد ولايات عثمانية. في هذا الاطار كان العالم العربي على اختلاف مواقعه الجغرافية في ازمان يتفاوت تاريخ دخولها الى الحدود العثمانيه وكذلك خروجها من تلك الحدود واستقلالها . كانت العباءة الاسلامية الفضفاضه التي يدخل الجميع (من العالم العربي) تحت ردائها تحجب التمايز بين شاغليها واهمها اللغة المختلفة والموقع او الارض التي لا تلاصقها الحدود ،وكذلك التاريخ الذي لاينصهر فيه النضال المشترك ،.يأتي بعد ذلك عنصر الألم من افتقاد الحكم للعدل في موازينه ، أو الأمل في النظر الى المستقبل بكل امانيه واحلامه و.لعل اشهر الصيحات التي كان المصريون يطلقونها احساسا منهم بالمرارة في مواجهة  الحكم العثماني وجبروته تساؤلات المواطنين المصريين على سبيل المثال ازاء اعباء الضرائب الثقيله في مخاطبة الوالي العثماني ،وكان اسمه ( البرديسي) قائلين ( ايش تاخد من تفليسي يابرديسي ) أو دعواتهم نتيجة للتسلط الذي لا يرحم ( يارب يامتجلي ..اهلك العثمانلي) . خلال القرن التاسع عشر، واكبت حركة التطور البشري التي تلاحق الانسان بأفكاره وتأملاته،موجه بعد اخري، ملاحظة جديره بالأنتباه وهي ان هناك عناصر محدده حين تتلازم في التجمعات الانسانيه ،فانها تعبر عن حالة تواجديه اصطلح على تسميتها ب (القومية ) ،وعناصرها الرئيسية ( اللغة والتاريخ والمصير المشترك ) ولها ايضا عناصر ثانوية هي ( العقيده الدينيه ،والأصول الانسانية ويرمز لها بالعرق، واللون) وهي ثانوية باعتبار ان القومية يمكن ان تشمل العقائد المختلفة أو المتباينه ،وكذلك اللون وتعدد سماته . وكانت كلا من الوحدة الايطاليه عام 1861 ،والوحده الألمانيه عام 1864 مثالا مؤثرا لفت الانظار وكرس لنوع من العلاقات بين الجماعات . نشأت الحركة القومية عموما في عصر الثورات الصناعية ،والليبرالية في اواخر القرن الثامن عشر ،وقد اضيفت لتعريفاتها مفاهيم متعددة ،وفق الايدولوجيات السياسية ،في المانيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر رأى المفكر الالماني يوهان جوتفريد هيردر ( ان مفهوم الهوية الألمانية يتجذر في عنصر اللغة،فهي التي تنبع منها وحدة الثقافة ومصادر التأثير الروحي). بينما ذكر المفكر الايطالي فيليبي ماتزيني تشبيها يقول فيه ( ان عناصر الجسد هي اللحم والعظم والدم ،ولكي يهب الجسد ويتحرك يستلزم عنصر (الروح) ،والقومية كذلك فان عناصرها هي (اللغة الموحده والتاريخ المشترك والمصير الواحد ) ولكي تتفاعل الحركة القومية وتشتعل وتفرض وجودها يلزمها عنصر (الروح)،وهو (الاحساس بتلك القومية ) التي تجتهد بدورها في النضال من اجل تحقيق هذه الوحدة ، ثم اضاف الماركسيون اسسا اخرى للقومية اهمها وحدة التكوين النفسي ووحدة السوق الاقتصادية ،بمعنى وحدة المصالح الاقتصادية. في النهاية كانت النماذج البارزة التي سطرها التاريخ عبر رحلة الزمن تلك التجربتان في الوحدة وهما الوحدة الالمانيه ،والوحده الايطالية،وقد كانت تلك الوحدتان حصيلتا حركات سياسية ثوريه واجتماعيه متمردة ،انتشرت في كل من ايطاليا والمانيا خلال القرن التاسع عشر،واستهدفتا الرغبة في التغيير السياسي والاجتماعي بما يعود لصالح الوطن الواحد والامة الواحده ،وليست امة الممالك والدوقيات والكونتات .

رواد الفكر القومي العربي

 تأثر بعض المثقفين العرب بالفكر الجديد الكاشف لمعنى ( الهوية) بمعنى الانتماء الواحد، وادركوا ان هناك قومية جامعه في المنطقة التي يعيشون على ارضها فهي تتكلم بلغة واحده ،و تقطن على نفس الارض المحددة ،كما يجمعها التاريخ بمعنى حركة النضال الواحده والمصير المشترك ،فظهرت من خلال  هذا الفكر والاجتهاد بعض الأسماء من الكتاب والمفكرين الذين بشروا  بالفكر القومي العربي  ،بل ومنهم من اثرى ذلك الفكر بتشكيل احزاب او هيئات او جمعيات تدعو الى ذلك الفكر وتعمل على نشره والترويج له ومنهم مفكرون كبار،ورجال تنظيمات  أمثال الكواكبي وقسطنطين زريق وساطع الحصري وزكي الارسوزي وميشيل عفلق.وقد كان الاسم الابرز في حركة الفكر هو ساطع الحصري كما كان الاسم الابرز في الحركة السياسية والتنظيميه هو ميشيل عفلق من خلال تنظيم حزب البعث ،في فترة الأربعينات من القرن الماضي ،ثم كان ظهور جمال عبدالناصر في الخمسينات، والمد القومي العارم الذي صاحب ظهوره قد بلغ مداه ،حين تم تجسيد هذا الفكر القومي بميلاد دولة  الوحدة بين مصر وسوريا  عام 1958 تحت اسم ( الجمهورية العربيه المتحدة) وبرئاسة جمال عبدالناصر.

الهوية .. وحرب المفاهيم 

 نتذكر ان بريطانيا في اطار احتلالها لمصر منذ 1881 قامت باعلان الحماية البريطانية عليها 1914 في بدايات الحرب العالمية الاولى،وسلخها من الامبراطورية العثمانية،ثم تم ابرام معاهدة (سايكس – بيكو) عام 1916 وقسم العالم العربي بناء عليها،بعد هزيمة الامبراطورية العثمانية وتفككها، وأقيمت الحدود الجغرافيه،تعلن الفواصل بعد ان تم التقسيم،ومن ثم تشكلت (الهوية الوطنية) ضمن الحدود التي تم التعارف عليها،وتشكل مع تلك الهوية مؤسسات

فيليبي ماتزيني
احد قيادات القومية الايطاليه

الدولة وفق هرمها التقليدي. لكن ذلك من جانب اّخر لم ينف ان تلك الهوية (الوطنية) لها كذلك عمق عربي واسلامي، يستند على قاعدة راسخة التكوين والعمارة وهي (اللغة) .ان التاريخ والجغرافيا دعامتان قويتان في رسم ملامح ( الهوية) بكل نصاعتها،وهي ( القومية) الجامعة بكل تواصلها الفكري والثقافي ،وما يمكن ان يحققه ذلك من اّمال.

قضية الوحده أزاء حرب المفاهيم

اولا – الحركة القومية العربيه مازالت في حداثتها ،فالتعريف بها ومناقشتها ،امر لم يأخذ حقبة طوبله من التاريخ،وان كانت كمفهوم  عاصرت اجيالا قريبه منذ انطلاقها،وكانت معاركها في الستينات لها ابعاد مترامية، ولاشك ان الحركة القومية رغم تلك الحداثه الا انها حققت انتصارات لافته في معارك التصدي للأحلاف الأستعمارية ،وانتصار الثورة الجزائرية ،وكذلك الثورة اليمنيه بل وتوحيد اليمن وكذلك مناصرة حركة المقاومة الفلسطينيه ،وتحويلها الى قضية شعب وليست مجرد قضية لاجئين

ثانيا– قضية العروبه والاسلام : بدأت حرب المفاهيم اشتعالها،حين تصورت جماعة الاسلام السياسي، ان العروبه قد جاءت لكي تأخذ مكانة الاسلام في حين ان الاسلام عقيدة دينيه يوجه للعالم اجمع ،بينما القومية العربيه عقيدة سياسية خاصة بالمنطقة العربيه وتخضع لخصائص حكم بها علمي التاريخ والجغرافيا،اي حركة الزمان وتجربته بما يعني التاريخ ،وموقع الارض ومكانها ويعني ذلك الجغرافيا.

ثالثا– الأمة أو العروبه والدولة القطرية:أزاء اتفاقية( سايكس – بيكو) بين بريطانيا وفرنسا قسم العالم العربي بين الدول الاستعمارية الى كيانات سياسية،وبالتالي استعرت حركة المقاومة الوطنية ،وتراوح نضالها بين المعارك والمفاوضات وكان من نتيجة ذلك ان نشأت الدولة (القطرية) بنخبها السياسية التي تولت الحكم،وكما نرى الآن حين تصبح تلك النخبة الحاكمة في مأزق وطني،فانها تستنجد بالعروبة (الجامعه العربيه) كمؤسسة  ترمز للنظام العربي،ولكنها في استقرارها تركن الى مصالحها الخاصة القطرية .من جانب اّخر تجذر مفهوم (الوطنيه) بمعنى (القطريه) ولذلك ترى بعض النخب ان مفهوم الوحدة يشكل تهديدا بزوال اسم الدولة ذاتها ( يعشق المصريون مثلا كلمة (مصر) كتعريف للوطن، وهو ما يعني ان قضية القومية لابد ان تضع في اعتباراتها الوحدوية معالجة لتلك القضية ،ولابد ان نسترجع محاولات  مشروع الوحدة الثلاثية بين مصر والعراق وسوريا عام 1963  ‘فقد سعى لعملية الوحدة دون الأخذ بالفكرة الأندماجية التي طبقت عام 1958 بين مصر وسوريا .

رالعا – خرج العرب من الامبراطورية العثمانيه ،وليست لديهم  طبقة تجارية او حتى طبقة وسطى قوية تستطيع ان تبرهن على ان القومية  تشكل دعما لحركتها وانها كما ترعى الحماية الامنية لسلام الدول تستطيع  ايضا ان تنعش الحالة الاقتصادية للدولة بشكلها الجامع . لذلك يمكن ان يترابط مفهوم القومية ،بتطور حركة النهضة العربيه الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ، فعنصر التلاقي يعزز حركة النهضة بالمفهوم القومي ، فالوحدة ايضا تحقق بجدارة الكثير من المصالح ،اي انها ليست فكرة رومانسية حالمه . ان الوحدة بنيان حقيقي  للنهضة الشاملة .

 رابعا –  نسبيا فان قضية القومية تحتاج الى الكثير من تعميق الفكر نحوها ، وعلى الاخص في اساليب الحكم ،ومدى ارتباطها بقضية الديموقراطيه.

 خامسا:قامت اكثر من تجربة وحدوية في العالم العربي،ولكنها تعثرت،ولذلك لابد من دراسة عميقه للواقع القطري،والأخذ في الاعتبار لمجمل ظروفه قبل القفزالى التوقيع النهائي لصيغة الوحده.

مفهوم  العولمه كقضية

من الشعارات التي ارتفعت مع نمو حركة التجارة العالمية ذلك الشعار ( ان علم التجارة المرفوع يسبق علم الاحتلال الجاسم ) ،فالترابط وثيق – تاريخيا – بين الاقتصاد والسياسة ،بل ان كليهما صنو للآخر وسلاحه، فكما تحمي السياسة الأقتصاد ،فان الاقتصاد ايضا من جانبه يمهد الارض ويفتح الباب للسياسة. بين هذا التشابك ياتي التقدم التكنولوجي الذي قدم بالتأكيد خدمات جليله في تطور حركة المواصلات والأتصالات بحيث اصبحت هناك مقولة مفادها ان  (العالم اصبح قرية صغيرة) .لكن على جانب اّخر ،فان هذا التقدم التكنولوجي مهد الطريق  لاقتحام نظام السوق

المفكر العربي القومي
ساطع الحصري

للعالم، بل ان الأمر قد  تطور الى ابعد من ذلك فأصبح العالم نفسه سوقا ،الغلبة فيه لليد الاكثر طولا،سواء كانت تلك اليد تملك المدفع الاكثر تدميرا أو تملك العملة الاكثر تأثيرا،اوتملك الاعلان الاكثر جذبا واغراءا. تلك هي الخيارات المطروحة امام العالم الذي نسمية ناميا باللغة الاكثر تأدبا،أو العالم الأكثر تخلفا بلغة الواقع مهما كان ذلك صادقا او بالاحرى مؤلما. في اطار تلك (العولمه) فان  اللاعب  فيها هم الأقوياء ،و مدى قدرتهم على التأثير ،ليس بقوة العلوم والفنون والاّداب ،ولكن بقوة الأختراق  للمجتمعات،وغزو الاعلام للعقول،واستخدام كل فنون التكنولوجيا في التزييف وفي الايهام والتلفيق.(العولمة) ليست كما نود ونحلم ان يكون ( العالم) اياد تمتد بفنون الاختراع والابتكار لكل بني البشر،وأن يصبح ( العالم) مناره يتقاسم فيها الجميع فيها ثمار الحضارة والتقدم علما وفنا واّدابا ، عالم يمتلأ بالخضرة والنماء ،ويتعالى فيه البناء صروحا من محال للتجارة العامرة بكل ماتطمح اليه العيون، أوتتطلع له وتتمناه التفوس  ،أو  من أنواع المصانع التي تزدهر بالأنتاج الوفير الذي يغمرالأسواق خدمة لبني الأنسان ،وتعزيزا لرفاهيته. .( العولمة ) بذلك الحلم  وهم غير قابل للتحقيق ،فنحن لا نعيش في عالم يحكمه العقل والرحمة والاتزان  ،ولكننا نحيا في غابه يحكمها رأس المال بكل جشعه وانانيته وحبه للسيطرة والاستحواذ (كل شيئ له ثمن،وليس كل شيئ له قيمه). لذلك لا نندهش حين تتعالي الأصوات في عصرنا الحديث بضرورة الالتفات لحقوق الانسان،والمطالبه بتعديلات في المؤسسات الدولية كالأمم المتحدة ومجلس الأمن،بحيث لا تتحكم القوى الكبرى في

جمال عبدالناصر
بطل المد القومي العارم في عصره

مقدرات الدول الصغرى.ان للعولمة وجهان وجه تطل فيه الانسانية بمعانيها الجليلة تخدم الحق والعدل والسلام،ووجه اّخر تطل منه القوة و البطش ،وتبرز فيه غير خافيه وحشية بعض بني الانسان. وهكذا يمضي الانسان في هذا العالم الواسع بكل ايدولوجياته وعقائده ،يحمل قدره على كتفيه ساعيا لتحقيق الطموحات العريضه والآمال الواعده ،مهما كانت الأنواء الغالبه والآلآم العميقه، وان كانت قضايا الوحدة والاندماج تحتاج الى قيادات من نوع خاص،قادرة على مواجهة التحديات بنفس  القدرة على صياغة الأحلام،والتعبير عن الآمال بل والطموحات .

امين الغفاري

العدد 125 / شباط 2022