روى الراوي – رفيق علي أحمد متوجاً في يوم المسرح العربي

عبيدو باشا

عند الرجل قدرته على اقناع الآخرين بأن لون مدينة البندقية هو اللون الأزرق . وأن الجزء الأخير من الجدار لا يقع . وأن عمره مئة وثمانين سنة. لأنه اكتسى بقوة الرواية على مدى سنوات طويلة . انه الراوي مذ وجد في أحد ألأعراس في يحمر ، قريته الجنوبية . لم يعثر على نفسه ، لم يعثر عليه الآخرون ، الساهرون ، المتحلقون ، الا وهو يسقط على العرس كما يسقط الهواء عن الجدران . رقص وغنى وروى . ثم ترك القاعة ، لأنه لا يطيق البقاء في الأماكن المغلقة . هكذا ، البحر أجمل بكثير من غرف الفنادق الفخمة . هكذا ، كروم القرية أغنى من أفخم سوبرماركت المدينة .لا يؤمن بالرسائل . ذلك أنه لا يعتبر المسرح ساعي بريد . استيتيك المسرح رسالة المسرح الأولى . لأن جماليات المسرح وحدها هي الشيء الوحيد ما يجعلنا نعرف الفنان، أن نتعرف على الفنان ، أن نعرف أي شيء عن الفنان . الآداء لوحة من لوحات الإستيتيك، يبقى المسرح بدونه خالياً من وجهه ، وليس ثمة من أحد ، أحد، بلا وجه . لا يطرح رفيق علي أحمد ألغاز اخلاقية ولا الغاز وجودية وهو يضع اللوحات ، لوحة لوحة، على صفحات مسرحه الأشبه بمساحة حرة في حديقة . لم يكتف بالنظر ولا بالوقوف على المنصات مع ابرز المسرحيين اللبنانيين والعرب ، حين أدهش المتفرجين باضاءة مسرح الرجل الواحد ( الوان مان شو ) على منصات المسرح بشروطه الخاصة . ذلك أنه بعيد من الستاند اب كوميدي . لأن مونودراماه لا تقوم على السخاء بطرح قصاصات مختارة من الحياة . لانها تقوم على الدراما . دراما الحكاية ، دراما الحكواتي . من يروي ، من لا يتوقف عن الراوية لا لكي يسلي ويستعرض ، ولا لكي يدع النسيم يتغلغل بين المشاهدين . مونودراماته مؤلمة بقدر ما هي ممتعة . الإمتاع معطوفاً على حكايات من الواقع . كأنها مصنوعة من زجاج مضاء .

وُجد رفيق علي احمد مع يعقوب الشدراوي ( جبران والقاعدة ، مخايل نعيمة ) وروجيه عساف ( من حكايات العام ١٩٣٦ وأيام الخيام) والطيب الصديقي ( ألف حكاية وحكاية في سوق عكاظ ) وفؤاد نعيم ونضال الأشقر في الحلبة . ثم بحث عن طبقته الخاصة بالمسرح ، اذ أدرك أن المسرح طبقات . ذلك أنه مذ قدم ” حكواتي من جبل عامل” كمشروع تخرج من معهد الفنون الجميلة ، حتى أضحى صاحب نسق ، صاحب أسلوب ، تصغي اليه الصبية كما تراه الأم ، ويراه الابن كما يصغي اليه الأب . بوسعه ان يقدم الحياة اليومية بقسوتها بطريقة كوميدية ، بدون أن يردها الى الخلف . هكذا ، طور ” حكواتي من جبل عامل ” بحيث أصبحت ” الجرس ” ، مونودراما دللتها الجمهورية لأنها وجدت فيها حدوث ما لم يحدث بعد . رجل وحيد على المنصة ،يروي ويؤدي ويرقص ويمارس عمليات صيد المشاهدين في الصالة ، بما سمي العلاقة المباشرة بالجمهور . حتى إذا ارتدى ملابسه أمام الجمهور أو غير ملبس بملبس بدا أن إشراق اللعب يقوم على الأساس في ان باستطاعتك ان تري الاخر نفسه على خشبة المسرح ، بدون أن يرى نفسه كضحية كما يجري في المسرح اليوناني. الإثنان يرويان ، الراوي حين يروي والمشاهد حين يصمت ويستمع . والمشاهد حين يرى فيما يراه شيئاً شديد الدفء. الرواية بشكل منفصل رواية اتصال والرواية بشكل متصل هي رواية تأخذ من الناس الموجودين في الصالة عناصرها الأساسية . قاد الرجل المسرح الى المونودراما ، بعد أن شاهد وطلاب معهد الفنون في افينيون ” رقصة الشيطان” لفيليب كوبير احد ابرز الممثلين في مسرح الشمس الفرنسي مع اريان منوشكين ، مخرجة القرن العشرين في الجمهورية الفرنسية . مذاك ، استمرت المونودراما بالحدوث في حياته : قطع وصل والزبال ووحشة وجرصة . خلق بذلك الصورة الاجمالية في لبنان والعالم العربي . جرى القبض على مونودراماه من البعض وتقليدها من البعض . غير أنه بقي قائدها من حقبة الى حقبة . ولا يزال .أوقف عروض وحشة والصالة كومبليه ، لأن الحاجة باتت اكثر ضخامة .لن يفيد بعد سوى العمل بالتلفزيون . باستطاعته ان يرى المسافة بين المسرح والتلفزيون ، شأنه شأن العاملين في المجالين ، إلا أن الحاجة تبرر الوسيلة . انه الآن يصور في تركيا الجزء الثالث من ” عروس بيروت ” بعد أن حضر في ابرز المسلسلات في الأعوام الأخيرة من ” الهيبة ” الى ” عشرين عشرين ” و” الزير سالم ” و” الأخوة”. القائمة طويلة ، حشد من مواليد جديدة كما يراهم رفيق من يجذب بعينيه المشاهدين كما يجذب بعينيه ونرجيلته رواد مقهى الروضة على الشاطئ اللبناني ، حيث ” يداوم ” كل ايام الاسبوع . واذ يرى ان المرحلة مرحلة الأقواس المكسورة وهو لا يكف عن النظر الى البحر ، خرج أرنبه الأبيض من قبعة الهيئة العربية للمسرح ، حيث تعمل حفنة من البشر المؤمنين بالمسرح ، المسرح وحده كجانب من جوانب الحياة ، حفنة اذا تناثرت في بلدان المسرح بد أفرادها وكأنهم بالعشرات ، حين أنهم لا يتعدون العشرة ،على رأسهم الأمين العام للهيئة الكاتب المسرحي اسماعيل عبد الله وغنام غنام ( المخرج والكاتب والممثل / مسؤول النشر والعلاقات العامة ) وحسن النفالي ( مسؤول المهرجانات ) ويوسف عيدابي ( مستشار الدكتور سلطان بن محمد القاسمي حاكم الشارقة عضو المجلس الأعلى ومستشار الهيئة ). سوف يلقي المسرحي المخضرم كلمة اليوم العربي للمسرح ، وهو يوم غير منافس اليوم العالمي للمسرح . هو يوم مواز ، يسأل الأول عن احوال الآخر ويسأل الثاني عن أحوال الأول . ويسأل الاثنان عن احوال المسرح . كل يقابل الآخر . علماً أن الهيئة تحتفل باليوم العربي منذ سنوات ( كتب الكلمة الأولى ، المسرحي اللبناني الراحل يعقوب الشدراوي ). ولكنها استطاعت ان تكرسه هذا العام بتحويله من اعتقاد الى ابتكار ما يرام وسط الاحوال الاقتصادية والصحية والامنية والثقافية ، من خلال اجتماع وزراء الثقافة العرب الاخير . هكذا ، كرست الهيئة يومها بدون مقايضة وبدون حرج . اضحى اليوم واقعاً من قرب ومن بعد في نظام واضح يعود زمنه الى زمن الهيئة العربية للمسرح ، زمن الانفتاح بعيداً من الرداءة والاهمال وظهور كل ما يمت الى المسرح كبقع لا كسرير يستريح عليه المسرحي والمسرح على حقيقة الحياة . وهي اذ اختارت الشدراوي في اليوم الأول ، اختارت رفيق علي احمد اليوم الراهن ( نص الكلمة في صفحة اخرى ) . خياران كباقي الخيارات ، خيارات انتباه الى المنجزين والمبدعين ( ثريا جبران ، المنيلة ووزيرة الثقافة المغربية الراحلة ، اسماعيل عبدالله ، دكتور يوسف العيدابي … ). لا علاقة للحظ بالاختيارات . انها بما يمتلكه من اختارته الهيئة العربية للمسرح .

لم يعد اليوم في المدخنة ولا تحت القناطر ، اضحى على شاشة العالم . يوم ان قوانينه الخاصة وتراكيبه النحوية وحركاته ضد اليأس والراهن غير الهين . وما اختيار رفيق علي أحمد ، سوى اختيار بارع ، لأن قاله على صعيد المسرح والمسرحيتان دعوة إلى الاستيقاظ لا النوم ، الصادر عن الحالات الاخلاقية الطبيعية والقواعد اللاخاطئة. رجل ومض، رجل رقي ، يشبه التحدث معه التحدث مع النفس . ذلك أن علي احمد غالباً ما اهتم بما يفكر لا بما ينتج فقط . هو من لا يحب الإرتفاع على الجنبات . لا غريق ولا إطفائي . لم يتعلم الغليان لأنه لا يستدرج نفسه إلى الأشياء ، قدر ما يخرجها من حواسه. عنده روى الراوي ، عنده لايفر الحاوي حين يروي الراوي . الأول ضد التخمين والآخر.لأنهما بطريقه منذ اللحظات الأولى . أعرف الأمر لأننا على المركب ذاته مذ وجدنا ” بعرض البحر ” بمركب مروجيك على منصة معهد الفنون الجميلة / الفرع الأول بالعام ١٩٧٧. لم نشترِالمودة لأن أخوين لا يتحف الواحد الآخر بالمودة ، ما داما وجدا نفسيهما بطريق البحث عن الأجوبة في حياة حدثت الآمها بالحرب . ولم تنتهي بعد.لأن الحرب لم تنتهي ، إذ استبدلت كتائب إعدامها الأولى بكتائب إعدام جديدة . هذه حرب لا تنتهي بعمر لن يلبث أن ينتهي . مضى عمر ولا نزال نرى الصور تتلعثم، بعد أن لم نعد نبحث عن ذرائع للظهور . لم يبحث رفيق عن ذريعة للظهور ولا بيوم من الأيام . حكواتي منذ اللحظة الأولى . حكواتي بالفطرة لا على الطلب . وحاوٍ بالفطرة لا على الطلب . لم يضل الطريق منذ فراره من منطقة ما وراء أرض المسرح إلى أرض المسرح ، حيث صناديق الأحاجي تضج بالرؤوس والذكريات والأمداح والقسوة . ضد التسعيرة دوماً. هكذا وجدني من الغلاة المبشرين،حين حاولت قنصه وحمله إلى “فرقة الحكواتي “، لمَّا وجدت الفرقة تغز واحد في قنوات المسرح الجديدة، بجزء مما أعرف عن المسرح في تلك الايام البعيدة . إنهم شيوعيون قال ، وكأنه قومي إجتماعي سوري . وهو حر ، وجد بالأحزاب أحزابَ تهشم الحياة بين جنازتين . لم تغره فرقة طليعية . وجد أن أصحابها وافرادها أشباح في مصاعد . لا أزال أسأل نفسي حتى اليوم ، إذا ما جاء رفضه تهوراً أو موقفاً متخذاً على نوع من الصفاء النادر . جاء الجواب فيما مضى ، بعد أن أضحى أحد نبلاء الفرقة لا واحداً من عبيدها الواقعيين . كاتب بأكثر من سبب ، لأكثر من سبب . هكذا ، حين كتب مشهده الأول لفرقة الحكواتي وجد الآخرون بالفرقة أن لا بد من شراء أدوات تنظيف، ينظفون بها ما علق بأذهانهم من طيبات الكتابة المستعارة من الآخرين أو سيئات الكليشيهات.برصيده كورال من المونودرامات ، لا تلعب في حاويات الملابس ولا يستطيع ناقدمسرحي أو مسرحي أن يتهم نصوصها أو يتهمه بالخفة . نصوص جديدة منزوعة من التقويم ، لأن من يريد أن يقيم التقويم على نص أو مسرحية ، لا عليه إلا العودة إلى النصوص هذه بالذات، بعدأن رتبت الأرض لهذا الصنف من المسرح على أرض الواقع .نصوص على عجلات ، تسير إذا أراد صاحبها أن تسير أو أن تبقى واقفة على شرائطها .لم يأتِ الى الكتابة بالتقسيط ، لأنها إبنة رأسه. لا أبنة التذاكي و اللؤم . منذ ” الجرس” (١٩٨٢)تمتعت نصوصه بالمفاصل والقفلات الخارجة من هدوء العاصفة . الخروج من العاصفة ، تحميل النصوص بسخاء المصادفات في المرويات الشعبية وبفهم حركات العضلات بالنصوص الأجنبية . عند الرجل القدرة على الخداع . حين يشي بأنه لا يريد أن يجرب حظه مع المناهج . المناهج موجودة بنصوصه وجسده سواء بسواء . لا يقف عند منهج ، إذ يرى في الوقوف وقوفاً في كانتونات الوصاية لا الرعاية . شفقة النفس على النفس . ويرى في المناهج ، كما رآها عند الآخرين ، أقراصاً تؤخذ على الطلب لا عند الحاجة وتفكيك الحاجة .هو ضد الشغل على الطلب . ثم أنه مرن نفسه على نفسه ، كما مرن نفسه على المناهج بدون غصب أو قسر . وجدها حين وجد فيها تنويعاً لغوياً في المسرح . وهجرها بعد أن وجدها مقتولة بالفرص الضائعة . لم يرغب بالإنضمام إلى الجمعة المفاجئة بالحكواتي لأنه وجد ستانسلافسكي عند يعقوب الشدراوي ( ميخائيل نعيمة وجبران والقاعدة ). حدث أن وجده في شقوقه بدون أن يبحث عنه . ميالٌ إلى المعلم الروسي لا إلى المعلم الألماني بريشت من أقام فرقة الحكواتي على منهجه في لحظاتها الأولى .

لم يتلصص على هذا ولا ذاك . فهم ما الذي سيقع فيه بفطرة الراوي ، بفطرة الحاوي . ما احتاجه لكي يهشم مجالاً بالمسرح حتى يقيم مجاله في عالم المسرح ، حيث بقدرة الراوي ( راويه / هو )أن يظهر التنين في الرواية وبقدرة الحاوي ( هو )أن يصطاد التنين . كل كلام على مسرح رفيق علي أحمد بوصفه مسرح الفطرة (وحدها) كلام مكسور ، كلام متكسر ، كلام بغرض إشعال أعواد الثقاب بتجربة / عرس ، بيد أنها لا تقوم على قص الأخبار وحدها من صحيفة الحياة ولا على قص الأخبار أمام الجمهور فقط . صحيح أن الرواية سريره، إلا أن لا سرير بلا وسائد . الوسائد على السرير بلا زركشات مجانية . بلا استعراض وجود . لأن الوجود من الوجود . أيُ زيادةٍ مبالغةٌ . هذا ما يراه ، هذا ما يفهمه ، هذا ما يمارسه . لا جسد هش ولا سعرات حرارية زائدة . هذا الأمر بحاجة إلى حيلة ، يحتاج إلى خيال . الإثنان من مشاعاته . الخيال حرية و الحيلة ثقافة . مسرح رفيق علي أحمد لا يذيب نفسه بالثقافة ، لأنه يذيب الثقافة في مسرحه . لا يقوم مسرح بلا ثقافة . مسرحه مسرح ثقافة لا مسرح مثقفين . ثمة بون واسع بين الإثنين . لا يقوم مسرح إلا على جسد ثقف نفسه بتسلق أعصاب الثقافة لا مظاهرها . جسده ملكه ، مسرحه ملكه . تتناسل المناهج في مسرحه بدون أن تقدم دروساً. لا يمانع التناسل ، غير أنه يمانع أن يضحي المسرح درساً . لم يعد المسرح بحاجة إلى درس ، إلى دروس . تدب المناهج في مسرحه كما يدب النمل ، كظل بطل قديم يعبر في شريط سينمائي جديد.

أن ترجع القسمات إلى أثرها ، لا يقوم الأمر بلا تقنية رفيعة . يرجع الرجل القسمات إلى أثرها كما لو أنه يتسلى بتمرين الأعصاب على الضربات الخاطفة، لا على التمرين العصبي . ثمة بون بين الإثنين . رفيق ممثل بأجنحة، كأجنحة شخصيات شاغال بلوحاته المترفة بالقوة الخفية . قوة كقوة رفيق على المسرح . اقام الرجل عاداته على المسرح ، حيث لم يجد نفسه بحاجة إلى عادات الآخرين . أحرق الكتب المستعملة ، لأنه لا يحبذ سيطرة الآباء على الغابات ولو أنه لا يرفض فهمهم . لهم بالماضي أسنانهم . من يريد أن يأكل حلواه عليه إستعمال اسنانه ، أسنان رفيق، الباهظة القيمة والجمال . لن ينام مسرحه وحده . لأن مسرحه لم ولن ينسى مايرخولد ولا غروتوفسكي ولا ستانسلافسكي ولا بريشت . ينام معهم لأنه حوَّر غرائزهم ، بدون أن يطفئها ، بحيث أضحت جزءاً من غرائز الراوي والحاوي ، غرائزه. ذاهبٌ إلى الأقصى . ذهب الرجل إلى الأقصى بالركض الواقعي خلف الأحلام ، أحلامه وحدها . الراوي هو الحاوي . رفيق الأول بالثاني والثاني بالأول . هذا موعده الدائم . وهذا هو من سوف يربط حزام الكرسي ، قبل ان تقلع طائرة كلمنه في اليوم العربي للمسرح .

العدد 125 / شباط 2022