انهيار شامل في العراق: شهادة متأخرة للأمم المتحدة

د. ماجد السامرائي

لم تتمكن ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة في العراق (جينين هينيس بلاسخارت) الاستمرار في صمتها عما يحدث في العراق ونفاق الأحزاب الحاكمة في بغداد لأنها موظفة أممية تحاول ان تكون أمينة على وظيفتها التي قررها مجلس الأمن الدولي للحالة العراقية بعد خروج الاحتلال الأمريكي العسكري عام 2011 فقدمت تقريرها الخطير أواخر الشهر الماضي أغسطس 2020، والذي يشكل بداية صحوة شخصية لها أمام انصراف المجتمع الدولي عن حال العراق.

أسباب عدة تساعد الأحزاب الإسلامية على الاستمرار بسياسات تدمير العراق من بينها الصمت الأوروبي عما يحصل من انتهاكات فاضحة لحقوق وتعدّي على الحريات بسبب نفاق الأوروبيين لإيران المتحكمة بهذا البلد ولمصالحهم النفعية التي تجعل من تلك المعايير في آخر الاهتمامات، إلا أن ثورة شباب العراق وانتفاضتهم الجريئة في أكتوبر من العام الماضي أحرجت المجتمعين العربي والإنساني ودولهما ولم تتوقف عبر تضحيات الدماء عن إعلان حقيقة ما يجري داخل العراق وإنما قدمت البديل الحقيقي وهو قيام حكم المواطنة العراقية الحقيقية.

لهذا تقدم الشهادة الأممية الجديدة حلقة مهمة في تعزيز كلمة الشعب العراقي وعزل قوى القتل والتدمير ومحاصرتها داخل فوهات نيرانها فالتاريخ يؤكد بأن الشعوب مهما طالت معاناتها من الظلم والقهر والاستبداد لا بدّ أن تنتصر في النهاية.

ما يحصل اليوم في العراق من انهيار الأمن وهيمنة المليشيات المسلحة وتغّولها في الحياة الاقتصادية والاجتماعية جاء بعد تداعيات امتدت لسبعة عشر عاماً ثمانية أعوام منها كان تحت احتلال عسكري دّمر كل شيء وخلّق وعزز الى جانب المدّ الطائفي عناصر الفرقة بين أبناء الشعب الواحد وزرع ما سميّ  »بالدولة الإسلامية السنيّة« لداعش المزّور لحقيقة الإسلام وأمدّه بعناصر القوة والاجتياح العسكري للموصل ولباقي المحافظات الغربية لتقسيم العراق طائفياً، وليصبح من يدعّون الانتساب للطائفة الشيعية زوراً هم  »الأصلح والأنسب لحكم العراق مقابل الطائفة السنيّة مركز الإرهاب« وكان هذا التقسيم الجائر والخطير قد تمّ برعاية كل من طهران وواشنطن المختلفتان شكلاً لأسباب استراتيجية.

 فطهران استثمرت الاجتياح والاحتلال العسكري للعراق لترسل أدواتها المسلحة وبناء منظوماتها الدعوية باسم  »ولاية الفقيه« في تحدّي شرس لقواعد وتقاليد شيعة العرب العراقيين، فيما سعت قيادة الاحتلال الأمريكي خلال السنوات الثمان الى إشاعة فوضى الأمن والاقتصاد والسياسة والاعلام وإطلاق نزعات الكراهية والفرقة وقتل آلاف المقاومين الحقيقين لاحتلالهم واعتقال مئات الألوف مما ساعد كثيراً القوى الإسلامية الشيعية لاستلام الحكم، كما دعّمت واشنطن المؤسسة السياسية الكردية وأمدتها بعناصر البقاء ككيان مهدّد لوحدة العراق وانسجام مكوناته السياسية قومياً لكن القيادات الكردية وتعبير عن اخلاصهم لتاريخهم القومي استطاعت استثمار العهد الجديد لما بعد 2003 لتحقيق استقرار أمني واقتصادي بثروات العراق في منطقة الإقليم الكردستاني يباهون به بغداد.

الانهيار الأمني

قدمت الممثلة الأممية في احاطتها الجريئة وصفاً أكثر واقعية من السابق لتداعيات الانهيار الأمني في العراق خاصة بعد الدخول في المنحنى الخطير عام 2019 في قتل شباب الانتفاضة التشرينية واختطاف ناشطيهم السلميين، حيث فضحت في تقريرها إسكات الأصوات المسالمة بالسلاح  »إن اسكات الأصوات المسالمة بالضغط على الناشطين ووسائل الإعلام وإرباك المشهد أو حتى بأسوأ من ذلك بإراقة الدماء، هذا الاسكات المتعمد للأصوات المسالمة يشكل إهانة للحقوق الأساسية والكرامة«.

الممثلة الأممية تتذكر جيداً الوعود الحكومية بمحاسبة القتلة لكن لم يحصل شيء في الواقع رغم محاولات رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي ضبط مسيرة وعوده للشعب بإجراءات محسوبة في عدم الاصطدام بالفصائل المسلحة ذات الشعارات الولائية لطهران، وحاول تجريب حظوظه في هذا النمط من المجابهة اللوجستية في عملية اقتحام وكر لفصائل حزب الله العراقي بمنطقة  »الدورة« ببغداد الشهر الماضي انتهى بتراجعه. لكنه وجد إن الحرب الناعمة عبر تجفيف منابع التمويل لتلك المليشيات هو أفضل الطرق.

معاناة أهل البصرة من الظلم وتعمّد الإيذاء الجماعي والانتقام عن طريق التجويع انموذجاً حيّاً لمدى الحقد على أهل البصرة وإغراق مدينتهم بمليشيات القتل خصوصاً بعد إعلان التحدّي الشبابي الشعبي في الانتفاضة وإعلان الحرب على تلك الأحزاب التي عبثت في المدينة ودواخلها وموانئها واستهترت بالقوانين الحكومية وتقاسمت الموارد فيما بينها، وتمثلت الحلقة الأخيرة بالقتل المنظّم لكوكبة من عشرات شباب الحراك، وآخر أمثلتهم الناشطة الطبيبة (ريهام يعقوب) أنموذج المرأة العراقية المقاومة، والناشط تحسين أسامة. تتم هذه التصفيات بتحريض مباشر من قبل إيران. فقد نشرت وكالة مهر الإيرانية الرسمية عام 2018 قائمة بأسماء ناشطين عراقيين – بينهم ريهام يعقوب – قالت إنهم يندرجون ضمن شبكة تم استقطابها من قبل  »القنصلية الأميركية في البصرة« لتنفيذ مصالح أميركا في المنطقة ومن بينها  »استهداف مكانة إيران وتقسيم الشرق الأوسط ولاسيما العراق«.

هناك ملف المغيّبين والمخطتفين بالآلاف ما زال في الأدراج في حين يستخدم من قبل الواجهات السياسية لمدعي الطائفة السنية في العراق لأغراض تسويقية انتخابية وليس لمناصرة أهاليهم وذويهم، في وقت يعاني أكثر من مليون ونصف من أهالي تلك المحافظات من هجرة إجبارية عن ديارهم وفق تقرير ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة، ولم يتم إعمار مدينة الموصل بعد تدميرها.

العجز الاقتصادي

الأرقام تتحدث عن تداعيات مخيفة للعجز الاقتصادي بسبب الاعتماد الرئيسي على واردات النفط وانصراف أعمدة النظام القائم عن وضع برامج للإصلاح وتنمية القطاع الخاص لأن الحكام منشغلون بالنهب وليس لخدمة المواطن العراقي. بلغ العجز في موازنة العراق نحو 112 مليار دولار لعام 2019 فيما ما زالت موازنة عام 2020 في ادراج البرلمان. وجرت محاولات تسديده من خلال القروض لجهات عالمية لشراء الأسلحة والدعم اللوجستي لوزارتي الدفاع والداخلية والحشد الشعبي

تراجع مؤشر النمو والاعتماد على مصدر وحيد للدخل القومي (النفط) الذي هبطت أسعار الى النصف عما كان في الأعوام السابقة. بلغت إيرادات النفط لشهر يونيو مليارين دولار في حين كانت 5 مليارات شهر فبراير من عام 2020. كانت حصة الفرد من الإنتاج القومي في عهد النظام السابق عام 1990 وفي ظل الحصار (7000) دولار، أصبحت 4990 دولار عام 2017. تقول الحكومة ان عدد موظفيها 4 ملايين موظف لكن التقديرات تقول 7 ملايين مع احتساب العاملين في العقود والأجراء اليوميين وأفراد المليشيات ضمن الحشد الشعبي.

تكلفة واردات الطاقة الكهربائية من ايران 1 2 مليار دولار سنويا وبسعر 11. 23 دولار لكل ألف قدم مكعب مقارنة ب 5. 42 دولار دفعتها ألمانيا لشراء غاز أبعد مسافة من روسيا فيما يهدر العراق ما مقداره 1. 55 مليار دولار من الغاز الطبيعي.

اصبح الفساد جزءا من النظام السياسي والاقتصادي حيث يحتل العراق المركز الأخير في مؤشر مدركات الفساد التابع لمنظمة الشفافية الدولية محتلا المرتبة 169 من أصل 180. وتقول بأن حجم الأموال المنهوبة ما بعد 2003 يصل الى 300 مليار دولار.

هناك نهب منظّم لأموال العراقيين بطرق متعددة أبرزها ما يسمى بمزاد بيع العملة من قبل البنك المركزي وفق عقود وهمية وغالبية تلك الأموال تهرّب الى ايران.

معدل البطالة وفق تقديرات حكومية عام 2018 كان 16 بالمائة وفي المحافظات التي احتلها داعش وصلت النسبة الى 41 بالمائة. تقول ممثلة الأمين العام الى أن  »ثلث عدد سكان العراق الآن تحت خط الفقر كما يعد الاستهلاك الغذائي لما يزيد عن ثلاثة ملايين عراقي غير كاف بسبب انخفاض القوة الشرائية«.

انهيار النظام التعلمي

القطاع التعليمي في العراق واصل انهياراته المتواصلة منذ عام 2003. ففي بلاد هي أول من عرفت الكتابة قبل آلاف السنين على يد السومريين ووضعت نظم العدالة وحقوق الإنسان وخلفت إرثا معرفيا وثقافيا غير قابل للاندثار يعاني البلد حالياً من تصاعد آفة الأمية، والنظام التربوي في العراق قبل 2003 كان من أحسن النظم التربوية في المنطقة وفقا لتقرير منظمة (اليونسكو) الصادر في أبريل/نيسان 2003 وكان التعليم مجانياً لمراحل التعليم العام والجامعي كافة بما فيها الدراسات العليا وإلزامياً لمرحلة التعليم الأساسي. وبلغ العراق مرحلة صفر أمية في منتصف الثمانينات من القرن الماضي بعد حملة وطنية شاملة لمحوها انطلقت عام 1978 حيث كانت الحكومة العراقية ترعى حملات محو الأمية، وأصبح التعليم إلزاما ووضعت عقوبات لكل من يحول دون حصول أي عراقي طفلا كان أم شيخا مسنا على مبادئ القراءة والكتابة الأساسية. ووضعت نكسة حرب الكويت 1990-1991 البلاد والتعليم بشكل خاص في نفق مظلم نتيجة الحصار الدولي الذي فرض على العراق. كما إن حكام ما بعد 2003 الذين رفعوا شعارات إنقاذ العراق من الديكتاتورية جلبوا معهم توابيت الظلام والجهل والدمار للعراق. منظمة اليونسكو صنّفت العراق من ضمن البلدان التي تعاني صعودا كبيرا في نسب الأمية يتجاوز 47 (للأعمار بين ستة و55 عاما). وفي آغسطس/آب أعلنت منظمة هيومن رايتس ووتش في تقرير لها ان 6 ملايين لا يجيدون القراءة والكتابة من اصل 37 مليون عراقي. وإن ثلث الشباب فقط في المدارس والجامعات.

ماذا تبقى في العراق أمام هذه الأرقام والحقائق المذهلة في الأمن والاقتصاد اضافة الى الصحة المنهارة وشواهد ما يحصل خلال جائحة كورونا دليل على ذلك، وجميع هذه الظواهر تحصل في بلد يوصف بأنه غني بالموارد، فكيف حاله لو كان خالياً منها افتراضاً لا شك إنه لم يكن هناك فاسدون مثلما يشاهدون اليوم يتحدثون عن خدمة المواطن وهو يقتلوه يومياً بالسلاح وبنهب أمواله.

هل يصحو العالم ويلتفت الى ما يحصل في العراق، وهل تكقّر الولايات المتحدة الأمريكية عن جريمتها الكبرى باحتلال العراق، ويمدّوا لشعبه وانتفاضته الشبابية يد الدعم والعون لتخليص البلد.

العدد109 /تشرين2020