بيرم التونسي- الأب الروحي لشعراء العاميه في مصر

بقدر مانسجت الأقدار موهبته ،وأعطته بسخاء سيولة الكلمه ورقتها ،وعمق المعنى وأصالته بقدر مالفت الأحزان مسيرته، وكبلت انطلاقاته بالقيود وألأغلال .انه  الشاعر المرهف الحس، الذي لم يسمح للخيال بالأستغراق في الأحلام،وكان حرصه ان تلتصق عيناه بالواقع وقضاياه وماّسيه ، ولذلك توجت مواهبه تقريبا في ترجمة الآهات والأوجاع ،اكثر مما حلقت في متاهات العواطف والاشجان . لقد طحنته الأحزان ، وخطت الدموع طريق حياته بسخونتها ،وكل مراراتها ،سنوات  بعد سنوات حيث ارتطمت مسيرته  بالعديد من الماّزق كما اعتصرت مشاعره الكثير من الآلام،

بيرم التونسي
شاعر الغربه والحنين للوطن

ومن هنا كان ارتباط اشعاره المطلق بالطبقات الشعبيه على اختلاف درجاتها ، وربما ذلك يصلح تفسيرا لألتصاقه الحميم بالشيخ سيد درويش ،حين  تعرف على انجازاته الفنيه ،وارتباطاتها الواضحه بقضايا الفلاحين ،وطوائف العمال ،فقال عن نفسه ( أنا موليير زماني) وهو المعجون بموهبة الكلمه ،وجرسها اللاذع . انه ( هرم الزجل) والزجل هو شعر نمطي عامي ظهر مع ظهور العرب بدولة الأندلس ،وانتشر في المغرب العربي ،ثم شاع في مصر ، وأنبت من هذا النوع الكثير من الشعراء ،مثل صلاح جاهين وعبدالرحمن الابنودي واحمد فؤاد نجم . كان بيرم شديد التوهج ،تزكيه في ذلك  موهبته باقتدار. قيل عنه ( أن اللغة العربية تخشي على سحر بيانها من فصاحته العاميه) . ونسب الى امير الشعراء أحمد شوقي انه قال ( لا أخشى على اللغة العربيه الا من عامية بيرم التونسي ) .لقب بالتونسي ،مع ان ميلاده كان في مصر،ووالده ايضا ولد في مصر،وان كان جده تونسي الأصل ،ولذلك اشتهرت العائله بصفتها عائله تونسيه، حتى وان خلا الاسم من هذا التوصيف.انه (محمود محمد مصطفي بيرم الحريري) الذي ذاع صيته ،وطافت في الأفاق  شهرته ،تحت اسم  (بيرم التونسي) .

 طفولته وعائلته

كان يوم ولادته 23 مارس عام 1893 بشارع البوريني بالسياله في حي الانفوشي بمدينة الأسكندريه  ،وكان جده لأبيه تونسي الجنسيه،قد استقر في مصر، أثر عودته من الحج ،حيث عمل بتجارة الحرير، وحين رحل،قام الأبن بمواصلة رحلة أبيه في ميدان التجارة،وكان رجلا مزواجا ،انجب العديد من الأبناء .التحق بيرم بكتاب الشيخ جادالله حين بلغ الرابعة من العمر، وكان يخرج من الكتاب الى حيث يعمل ابيه ،ويقوم بالعمل معه ،ولكن الحال لم يدم طويلا على هذا الشكل ،فحين تم طلاق والدته ، ذهب معها الى بيت خاله ،ولم يستمر في العمل مع ابيه ،وحين تزوجت والدته قام بالعمل مع زوجها ،وكان يعمل في صناعة هوادج الجمال ،الى ان توفيت امه عام 1910 ،فبدأ مرحلة الاعتماد على النفس ،وقام بفتح محل للبقالة ،ثم تزوج من ابنة تاجر اّخر يعمل في تجارة العطاره،قامت باختيارها له أخته ( من ابيه ،واسمها ( لبيبه) و تكبره بعشرين عاما  ،وعاش مع زوجته في غرفة بمنزل ابيها. لم يستقر به الحال كثيرا على هذا المنوال ، فسرعان ماأفلست تجارته ،وقام باغلاق محل البقالة ،وباع المنزل الذي تركه له والده ،واشترى منزلا صغيرا في منطقة الأنفوشي ،وعمل في تجارة ( السمن) ، وبعد فترة امتدت لست سنوات توفيت الزوجه تاركة له ابنا اسمه محمد وبنتا اسمها نعيمه ،ولم يستطع ان يقوم على خدمتهما ،فعمد الى الزواج مرة أخرى ،بعد وفاة الزوجه بسبعة عشر يوما من وفاتها .

تكوينه المعرفي والثقافي

دخوله الى كتاب الشيخ جاد الله، ثم أسلوب التربيه والتعليم من خلال القسوة والتعامل بعنف ،لم يساهما في تفتح مواهب الطفل بيرم ،ولذلك لم يستوعب سوى تعلم القراءة والكتابه ، ولكن كانت هناك مدارس أخري غير نظامية انجذب اليها الطفل بيرم، أولها حين سكن في منزلهم استاذ تركي اسمه (محمد طاهر) رأى  بفراسته في عقلية هذا الطفل ميله للشعر ،فقام باهدائه كتابا في فن العروض ،وكان هذا الكتاب بمثابة نقطة تحول في حياته ان لم تكن قد حددت مسارهوايته ،وماذا يمكن ان يحققه في مستقبله بشكل عام ،فما كاد ينتهي من قرائته ،حتى بدأ على الفور في نظم بعض الأزجال وأبيات الشعر، وكانت المدرسة التاليه في حياته،تلك التي تعرف عليها من خلال تردده على مسجد ( المرسي أبو العباس) حيث المعهد الديني،ومشاهدته لطلابه،وطريقة حفظهم لعلومه،ثم والأهم ماذا يقرأون،ويتعلمون .بدأ بيرم في الالتفات الى عالم الكتب ،فنهل وهو ابن السابعة عشر من كتاب في الصوفيه لمحيي الدين بن عربي ،وما ان انتهي منه حتى تلقف كتب للمقريزي والغزالي والميداني ،وقرأ في الأدب الشعبي لعبدالله النديم وحفظ ازجال الشيخ النجار والشيخ القوصي ، كما ان تردده على الاحتفالات الشعبيه والموالد والمقاهي التي يتردد عليها هواة الزجل والشعر ، زادت تجربته خصوبه ،في نفس الوقت الذي تنوعت فيه قراءاته ،فقرأ الف ليله وليله ،

وأبو زيد الهلالي ،وكانت هذه الكتب تحتوي على ابيات من الشعر،وصادفت هوي عند الصبي ،ووقعت في يده مصادفة مجموعة أشعار (لأبن الرومي) التي اعتبرها بيرم من أروع ما قرأ. ومن ثم بدأت اجتهاداته في التأليف وكتابة الأزجال والأشعار، ونظمها كالمحترفين في هذا المضمار.

 دخوله الى الحياة العامه

وبداية متاعبه الحقيقيه مع السلطه والمنفي

اشتبك اولا مع المجلس البلدي في الحي بناء على مايدفعه من ضرائب ، وقد لعب شعره دورا في التفات الناس اليه وتأييدهم له ،فطبعت ابياته وتم نشرها بين اهل الحي ،مما لفت اليه الأنظار،فقام بطبع مجلة    اسمها (المسله) نسبة الى تسمية المسله الفرعونيه،ويتعرف على سيد درويش ليبدأ خطوه اخرى اكبر في الاتجاه الى القضايا العامه،ويتفقا على عمل مسرحيه اسمها(شهوزاد) سخرية من شهوات العائلة الحاكمه وتعترض


ام كلثوم
شدت بأشعاره فخلدت قصائده

الرقابه،فتتحول الى(شهرزاد) ويكتب بها النشيد الوطنى (أنا المصري كريم العنصرين / بنيت المجد بين الأهرمين.جنودي أنشأوا العلم العجيب /ومجرى النيل والوادي الخصيب.وتعرض المسرحيه بعد طرده من مصر،أثر كتابته قصيدة ( الباميه الملوكي والقرع السلطاني) هاجم فيها الملك فؤاد وبتوصية من زوج الأميرة فوقيه ابنة السلطان فؤاد ( أصبح اسمه الملك فؤاد بعد صدور دستور 1923 وتصريح 28 فبراير 1922 باعلان استقلال مصر مع التحفظات الأربعه)،وقد سبق وان هاجمه بصفته محافظا للقاهره في مقال كان عنوانه ( لعنة الله على المحافظ).طرد الى تونس باعتبارها موطنا لأجداده،وهناك حاول ان يتعرف على عائلته، و لكنهم تبرأوا منه،باعتبار ان السلطان كان قد اهدى والد جده جاريه،انجب منها جده قبل ان يعلن زواجه منها،ولذلك أنكروا نسبه،وضاق به الحال هناك،فقد كانت سمعته انه مشاغب،ووضعته السلطه تحت عينها ،فاشتغل في بعض المحلات التجاريه ،ولما ضاق بالرقابه ومطاردتها ،قرر ان يبحث عن وسيله يعود بها الى مصر،حيث اسرته واولاده، فلجأ إلى اختصار اسمه في جواز السفر الجديد الذي

كان يحمل ختم القنصلية البريطانية، واستطاع بهذا الجواز أن يصعد إلى احدى السفن المتجهه الى مصر وينزل في ميناء بورسعيد يوم 27 مارس 1922 ويتجه فوراً إلى الإسكندرية، متخيلًا اللحظة التي سيلتقي فيها بزوجته، ويأخذ بين يديه مولودهما الذي لم يتعرف على ملامحه بعد، فقد ترك زوجته الجديدة وهي حامل. وماان وصل إلى حي الأنفوشي حتى علم أن زوجته وضعت طفلة اسمها عايدة،وأنها طلبت الطلاق في فترة غيابه،وحصلت عليه بعد أن أثبتت أن زوجها مغضوب عليه،وليس هناك أي أمل في عودته للبلاد .كانت ألأوضاع السياسية متردية ،وسلطات الاحتلال تقمع أي معارضة، ولهذا فقد قرر بيرم ألا يغامر بالنزول إلى الشارع،وأن ينتظر أن تتغير الأحوال ،ولكن الأمر طال، وكان عليه ان يتخذ خطوات ايجابيه ،فاتفق مع جريدة ( الشباب) ان يكتب لها كل اسبوع معظم مواد العدد ،وأن لا يوضع اسمه على ما يكتب خصوصا الأزجال السياسية ،واستمر وجوده في مصرلأكثر من عام،ثم تم  القبض عليه مرة أخرى في 25 مايو 1923 ،وتم وضعه على ظهر سفينه متجهه الى فرنسا ،وهبط في ميناء مارسيليا ،حيث عمل حاملا لحقائب المسافرين،ولصناديق البيرة ، وما شابه ذلك . مرت تسع سنوات قضاها في فرنسا بعد نفيه من مصر للمرة الثانية،لا ينقطع فيها بيرم رغم الاّلام النفسية والجسديه عن تأليف أبدع الأزجال التي كان يرسلها إلى الصحف وناشري الكتب بصفة مستمرة،ولم يمنعه من مواصلة الكتابة سوى خروج الصحف الفرنسية ذات يوم وبها إنذار يطالب الأجانب بالأستعداد لمغادرة البلاد والعودة إلى أوطانهم ، فتذكر بيرم في هذه اللحظة آلامه في المنفى،والدنيا التي تنكرت له،وحياة التشرد التي عاشها،وتصل  آهاته إلى عنفوانها عندما يصف الجحود الذي اُستقبل به سواء في مصر أو أوباريس،فيقول:الأوله اّه مصر،وقالوا  تونسي ونفوني،جزاة الخير واحساني / والتانيه اّه وتونس،وفيها الأهل جحدوني،وحتى الغير ما صفاني /والثالثه باريس و في باريس جهلوني وأنا موليير في زماني .

 العوده من المنفي

والحصول على الجنسية المصريه

كانت جريدة (الأهرام) سببا فى عودة بيرم  التونسى إلى مصر بعد محاولات متعددة منه للتسلل إليها ولأن أنطوان جميل رئيس تحرير الأهرام كان يعلم أن محمد محمود رئيس الوزراء و فهمى النقراشى وزير الداخلية.،من أشد المعجبين ببيرم، فقد وافق على نشر القصيدة بالصفحة الأولى بالأهرام.. وبعدها أصدر وزير الداخلية أمرا (بتجاهل وجود بيرم فى مصر)، وظل الأمر معلقا حتى  صدر عفو من الملك فاروق  ولكنه لم يحصل  على الجنسية المصرية الا بقرار من جمال عبدالناصر عام 1954 .عاد بيرم  التونسي 

الى مصر في 8 ابريل عام 1938 متسللا ،وظل مختفيا حتى صدر عنه عفومن الملك فاروق ،وقد كتب قصيده بعنوان( غلبت اقطع تذاكر،وشبعت

فريد الاطرش
المطرب الذي ترجم نبضات بيرم العروبيه في بساط الريح

يارب غربه ،بين الشطوط والبواخر ومن بلادنا لأوروبا / اقول لكم بصراحة اللي في زمانا قليله ،ماشفت ياقلبي راحه في دي السنين الطويله/ الا ما شفت البراقع واللبده والجلابيه . كانت شهرته قد امتدت وازجاله لها عشاقها ،وكتب في الاهرام من خلال الكاتب الشهير ( كامل الشناوي) ثم بدأ تعاونه مع ام كلثوم والحان زكريا احمد ابتداء من عام 1940 ،وكتب لعبدالوهاب ( مااحلاها عيشة الفلاح ) وكتب العديد لفريد الأطرش اشهرها ( بساط الريح ). ثم قامت ثورة 23 يوليو عام 1952 فاستقبلها بترحاب شديد ويقول فيها  ( العيد ده أول عيد عليه القيمه ،مافيهشي تشريفه ولا تعظيمه ،صابحين وأعراضنا سليمه ،والقيد محطم ،والأسير متحرر ،مرمر زماني يازماني مرمر) . يعطيه جمال عبدالناصر الجنسية المصريه ،ثم يعطيه جائزة الدولة التقديريه ،وهي أرفع الجوائز في ذلك الزمان .كتب لأم كلثوم الكثير من الاغاني منها ( هو صحيح الهوى غلاب  معرفش أنا والهجر قالوا مراروعذاب واليوم بسنه ،و، شمس الأصيل دهبت خوص النخيل في طلعتك ياجميل وغيرها من الاغاني القصيرة ( غنى لي شوي شوي) وياصباح الخير ياللي معانا) وغيرها ولفريد الاطرش احبابنا ياعين ،ويالله اتوكلنا على الله وغيرها . و سخر من كتاب قصائد في الاغاني ذات المعاني المكرره،وكتب يقول  ( ياأهل المغنى دماغنا وجعنا دقيقه سكوت لله/ داحنا شبعنا كلام ماله معنى /ياليل وياعين ويااّه / طلعت موضه غصون وبلابل شابط فيها حزين/ شاكي وباكي وقال مش عارف يشكي ويبكي لمين الخ) وقد لحنها وغناها زكريا احمد .

 ن كلمات بيرم التونسي

الأغنيه مدرسة تستطيع أن تعطينا قيما سليمه او تدس لنا سموما خبيثة فهي اخطر أداة للنشر في هذا العصر والمحزن انه لا احد يدرك او يقدر خطر الأغنية على الناس لا المؤلف ولا الملحن ولا المطرب .

وحين سئل عن دور الفن في الحياة رد قائلا : الفن هو التأثير الوجداني للحياة والفنان الأصيل هو الذي يعبر في صدق عن عواطفه ومشاعره . ثم فى الخامس من يناير عام 1961 كان على موعد مع القدر ،فقد لفظ أنفاسه الأخيرة بعد حياة صاخبه مريره فيها من الحزن والأسي أكثر مما فيها من بسمات وضحكات ، توفى الشاعر بيرم التونسي ،واسمه الأصلى محمود محمد مصطفى بيرم الحريري، لتنقل «الأهرام» الخبر بصفحتها الأولى بتاريخ 6 يناير من العام ذاته ، وكان عنوان الخبر.

(وفاة بيرم التونسي)ونصه:مات أمس الأديب الزجال بيرم التونسى الذى كان يكتب أغانى الحب والعاطفه وهو يشكو آلام الربو الذى ظل يعانى منه منذ أكثر من 20 سنة. كتب فى كل شيء.. فى الصحف وفى الإذاعة وفى المسرح.. وكان يحمل لواء الثورة على فساد الملكية فنفى من مصر.. وكان آخر أغانيه التى غنتها أم كلثوم (هو صحيح الهوى)وأمس كانت حفلة أم كلثوم، ولكن بيرم التونسى مات قبل أن يسمع أم كلثوم، وكان الراحل قد حصل على جائزة الدولة التقديريه ووسام الفنون والأدابأء