بين آنا كارينينا لليو تولستوي ودخلت في التجربة لمهى جرجور

مهى جرجور للحصاد:” للمجتمع دور مهمّ في صنع الروايات.”

“الحياة تمنحنا فرصة ثانية دائمًا، وما على المرء إلّا أن يعيد حساباته، وأن يحسن الاختيار، كأن يختار أن يحيا، أمّا اختيار الموت فهو دليل ضعف ويأس. “

 بيروت من ليندا نصار

مهى جرجور

تعالج  رواية “دخلت في التجربة” للأكاديمية الناقدة الروائيّة مهى جرجور، موضوع الخيانة الزوجيّة بعد مرور عشرين سنة من الزواج ، وتطرح أزمة الأربعين التي تمرّ بها النساء عادة والتي تسبّب بفعل عوامل عديدة أخرى مشكلات لا حدّ لها، فتهدم العائلة، وتدخلها في تجارب صعبة، تؤدّي إلى دخول كل أفرادها في تجربة قاسية تتّصف بالتشرذم والانفصال.

تنطلق الرّواية برؤية جديدة تثير الجدل من خلال المواقف الّتي تطرحها من منظور مختلف عمّا هو سائد، تدخل عميقًا في داخل الذّات الإنسانيّة الذّكوريّة والأنثويّة، وتحاول تشريح أسباب كلّ تصرّف تقوم به كلّ شخصيّة من الشّخصيات التي يبلغ عددها 36 شخصيّة، تتفاعل وتتصارع، وتروي بعض الفصول على لسان الزّوجة، وفصول أخرى على لسان الزّوج، وتعرض وجهات النّظر المختلفة، وتسمح لكلّ شخصيّة أن تعبّر عن نفسها، وعن تأثير التّجربة أو التّوجه الّذي قامت به الأمّ في كلّ منها.

 “دخلت في التجربة” من الرّوايات الشرقية القليلة التي تطرح بكاملها قضيّة الزواج المبكر، تليه خيانة للمرة الأولى بعد عشرين عامًا، خيانة أمّ لزوجها وعائلتها، في بيئة اجتماعيّة مسيحية، وقد أدّت هذه الخيانة إلى الانفصال  تليه محاولات عودة، وسط سيل من الأحداث التي تجري في إيقاع سريع، لتروي للقارئ  أحداثًا تتنامى وتتطور في سياق الفعل ورد الفعل. وتاليًا،  تقلب “دخلت في التجربة” الأدوار المعروفة في المجتمع الشرقي، فتجعل من المرأة  محطِّمة للقيم الأخلاقية المتعارف عليها، متجاوزة مشاعر الأمومة في مرحلة من المراحل، وكل القيم الأخلاقية والاجتماعية المرتبطة بها، مقابل ترسيخ قيم الأنانية والتمرد  باسم الحرية وباسم “أن أعيش حياتي كما أريد”. أدى كلّ ذلك إلى خلخلة البيت وفقدان التوازن الأاسري، والى الطلاق، ثم إلى عودة بعد محاولات عديدة قام بها الطرفان: الزوج والزوجة ، وبين شد وجذب وصراعات ومحاولات استيعاب وتفكير … وحشد أدلة وبراهين على محاسن العودة ومساوئها …

تتألّف الرواية من خمسة فصول، تهتمّ بأدقّ التّفاصيل، وترصد أثر التّجربة التي عمّمت على العائلة رصدًا دقيقًا، يشعر القارئ بأنّها تتكلّم عنه في ناحية من النّواحي، تصف مشاعره في موقف معيّن، تعنيه، وتتكلم بلسانه، تخاطب  أنا القارئ الحميميّة من دون أن تخدش حياءه، بلغة سهلة، سلسة، شائقة…

خلال لقاء تمّ في الجامعة اللبنانيّة برعاية عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانيّة البروفسور أحمد رباح حول “الرواية والتلقّي وافق التوقعات: آنا كارينينا لليو تولستوي ودخلت في التجربة للدكتورة مهى جرجور، الحصاد التقت الأكاديمية والروائيّة، منسّقة اللغة العربية في الماستر ومنسقة تدريس اللغات في الجامعة اللبنانية، مهى جرجور وشاركت الحضور بعض الأسئلة، وكان لها معها الحوار الآتي:

 الحصاد: في دخلت في التجربة قلب الأدوار بين الرجل والمرأة، الزوجة: المرأة تترك المنزل، تخون، تطالب بالطلاق، تقع في مشاكل مادية عديدة، ثم تطالب بالعودة. والزوج: يرفض التصديق، يحاول استعادتها، يوافق على الطلاق – ثمّ يتغيّر موقفه فيوافق على العودة التدريجية، ويساعدها على حل مشكلاتها المادية، ما هي الأسباب التي أدّت إلى هذه المشكلة؟

مهى جرجور “المشكلة متشعّبة، مشكلة الزوجة رنا وهي التصديق المرتبط بعدم النضج والغرور، ومشكلة هاني  -الزوج، وتتمثّل في اعتباره أنّ المال حلّ لكل المشكلات التي يمكن ان تواجهها النساء – ويتناسى كلّ ما عدا ذلك.  تنشأ من هاتين المشكلتين  تعقيدات عدّة تحتاج إلى كثير من الصبر والقدرة عن الاستيعاب لحلّها. ثمّة اتفاق  ضمني ثنائي مبنيّ على تنازل الزوج عن مكتسباته الشرقية، وإعلاء مكانة الأسرة، وجعل الحفاظ عليها قيمة تعلو كل قيمة أخرى فردية أو اجتماعية من جهة، وطاعة المرأة  وتسليم أمر إدارة شؤونها لزوجها  بمنزلة قيمة عليا لضمان استمرارية حياة الأسرة.”

 الحصاد: قدّم  تولستوي في رواية آنا كارنينا الصادرة عام1877  موضوعًا عن المرأة التي أحبّت فيها بطلته آنا رجلًا غير زوجها وقد وعلم الأخير  بهذه العلاقة وسامحها،  وهذا ما فعلته  رنا  في “دخلت في التجربة”.  زوج آنا سامحها عندما اعترفت له وهي على فراش المرض بحبها لرجل آخر، ولكن هاني لم يسامح رنا بالكلام وإنما بأفعاله الكثيرة التي سوّغها بأنها محاولات لم شمل الأسرة المفكّكة، ومن أجل هذا  الهدف وظّف هاني قدراته المالية والعقلية لاستيعاب الموقف. إلى أي مدى ترين أنّ هذا السلوك مناسب في مجتمعنا اليوم؟  ألا ترين  أنه يجب المحافظة على  مبدأ أنّ من يخطئ يجب أن يدفع ثمن أخطائه؟

مهى جرجور “في “دخلت في التجربة” محاولات خروج عن السائد والموروث والسلوكات النمطية من خلال فعل المسامحة  ومحاولة فهم ما يجري مع زوجة تبدّلت فجأة مع زوجها، وتغيّرت أحوالها. بالنسبة إليّ على الإنسان أن ينظر إلى نتيجة قراراته للمدى البعيد كما عليه أن يدرس ردّات الفعل وأن يحافظ على المصلحة العليا للعائلة. وفي ما خصّ إذا كان السلوك مناسبًا في مجتمعنا او غير مناسب،  يبقى هذا الطرح بعيدًا عن الواقع، لأن هذا الأخير يضجّ بحكايات مشابهة لحكايات رنا وإن كان معظمها يحدث في الخفاء

الحصاد: في الرواية حالة من النكران ومحاولة إخفاء حقيقة هروب رنا. ما سبب ذلك؟

مهى جرجور النكران حالة نفسية لدى الإنسان، وهي نوع من التقنيات الدفاعية ليحمي نفسه من هول صدمة تحطّ عليه بتداعياتها،  أمّا هنا فقد بدت كردّ فعل ساذج يلجأ إليه المجتمع المتخلف لمعالجة مشكلة ألمّت به، فيتوجه بهذا الاتجاه بدلًا من أن يبحث في الأسباب الحقيقية  التي أدّت الى تعاظم هذه المشكلة. “

الحصاد:  يرى هاني- الزوج، أنّ تجاوز ما حدث وقبول رنا في بيته مجدّدًا هو تنازل ضروري  كفيل بمنع رنا من التورّط في مشكلات أخرى.  كيف تقيّمين ذلك؟ 

مهى جرجور “تحكّمت بهاني مشاعره الأبوية إذ تعامل مع رنا في مرحلة من المراحل وكأنه وصي عليها وعلى أفعالها،  وعدّ عودتها الى البيت كعودة الابن الضال، واعتبر أنّ عليه حمايتها، وعودتها كفيلة بأن تؤمّن له هذه الوصاية.”

الحصاد: المشترك بين آنا كارنينا ورنا أنّهما تصرّان على الطلاق إلّا أنّ رنا تطالب بالعودة في وقت لاحق، وتسعى إليها وتحقّقها، ما الذي دفع رنا إلى العدول عن قرارها؟

مهى جرجور “تزوجت رنا في سن مبكرة،  وكانت طاعتها دليلًا على أنها زوجة صالحة، وبخبرتها هذه، تمكّنت لاحقًا، وعلى الرغم من كل المشاكل التي حصلت، من إقناع زوجها وأمّه بأنها تغيّرت وتستحق العودة إلى المنزل بمجرد أنّها أبدت استعدادًا مجدّدا لتطيعهما وتنفّذ مشيئتهما.

وبذلك، تحوّلت العلاقة من علاقة خيانة ووفاء، الى علاقة سلطة، من يقود؟ ومن يأمر؟ ومن يطيع وينفذ.”

الحصاد: هل يمكن اعتبار انتحار شخصية آنا كارنينا لدى تولستوي، تأكيدًا على  حريّتها في الاختيار؟

مهى جرجور “لا أعتقد ذلك، فلو كانت حرّة أو قادرة على أن تكون حرّة في خياراتها  لسيطرت على مشاعرها، ولتمكّنت من تجاوز مشكلتها، وبدأت حياة جديدة مع شخصيات جديدة وإمكانات أخرى. فالحياة دائمًا تمنحنا فرصة ثانية، وما على المرء إلّا أن يعيد حساباته، وأن يحسن الاختيار، كأن يختار أن يحيا. أمّا اختيار الموت فهو دليل ضعف ويأس. “

الحصاد: من خلال آنا كارينينا ودخلت في التجربة، ما رأيك بدور المجتمع في فرض نهايات الرواية؟

مهى جرجور “للمجتمع دور مهمّ في صنع الروايات، ولكن تجدر الإشارة هنا إلى أنّه في “دخلت في التجربة” أدّى وظيفة مختلفة عمّا بدا لنا في رواية “آنا كارينينا” لتولستوي، إذ دفع بهاني الى إستعادة زوجته، على الرغم من كل شيء، ليبدو في موقع القوي القادر على حلّ مشاكله ولملمة ما هو مفترض أن يمنحه صورة المنتصر، عبر إخفاء معالم ما حدث ولفلفته. “

 الحصاد: أيّ نوع من النساء تمثّل رنا في مجتمعنا اليوم؟

مهى جرجور “جسدت  رنا صورة المرأة التي قامت بردّ فعل عنيف على غبن طويل، لحقها عبر العصور ردّ فعل هدّام لكلّ القيم، ومؤسّسة لقيم أخرى، تجعل الأنانية والغريزة المحرّك الأساسي لها، متّخذة من رغبتها في استعادة ما فقدته، على المستوى النفسي هاجسًا للانفصال، والاستقلالية التامّة عن قوة تصارع فيها العالم الذكوري المحيط بها، والممثل بالزوج والعشيق والصديق المفترض.  إلا أنها فشلت في ذلك وسقطت ضحية الرجل مرات عديدة.  تمثّل رنا المرأة التي لم تستسلم فهي لم تنتحر لأن  الانتحار ليس حلًّا بالنسبة  إليها، بل تريد أن تغذّي أنانيّتها وتشبع رغباتها الجسدية، لا مشكلة أخلاقية عندها، ضميرها لم يعذّبها، ولم تعشق أحدًا ذلك العشق المستحيل،  بل أحبّت نفسها فقط،  وعلاقاتها الأخرى بقيت علاقات سطحية. فالمسألة بالنسبة اليها مجرّد حاجات عاطفية ومعنوية وسعي لإشباعها، وكل ما عدا ذلك كان خارج حساباتها.”

العدد 130 / تموز 2022