تراجع الشعر وتقدم الشعرية

محمد علي فرحات

كتابة الشعر أو الكتابة في موضوع الشعر قد تكون آخر الاهتمامات المتوقعة في المتابعة الثقافية اليوم، ففضلاً عن تحديات الوجود التي يواجهها العرب في هذه المرحلة الحرجة، لا بد من الاعتراف بتراجع حضور الشعر والكتابة عنه في عالمنا العربي في العقدين الأخيرين على الأقل.

ومن اجل مزيد من التحديد لا بد من الاعتراف بتراجع الانتاج الابداعي النوعي في الفنون الكتابية وغير الكتابية في ديار العرب ، ولذلك اسباب قد يقع الخلاف حولها وحول اولوياتها، لكون عملية الانتاج الابداعي نفسها نشظت وتداخلت، فصار الشعر في جوهره متداخلاً مع فنون لغوية وسمعية وبصرية كثيرة. تراه حاضراً في ثنايا النصوص النثرية على انواعها، بقدر ما يحضر في اللوحات التشكيلية والعروض السينمائية والأعمال الموسيقية والغنائية.

في البدء كان الايقاع (الموسيقى)، وأعقبه تداخل المعنى مع الايقاع، قبل ان تتفرع تلك العملية الابداعية ولا تبقى بسيطة خطّيّة، انما تدخل في تركيب وتعقيد من حيث المباني الايقاعية والمعاني.

وهكذا بدأت النّزعة الشعرية مع التنهدات الاولى للانسان الأول، واتخذت شكل ايقاعات وأصوات هي ردود فعل الانسان على ما يرى ويسمع.

تلك البداية سبقت استكمال تشكل اللغة كتعبير، وربما كانت تمريناً اول على صياغة اللغة، تمريناً صوتياً وجدانياً. وقد احتاج الأمر زمناً طويلاً لتستكمل اللغة شكلها حيث يتغلب العقل على الوجدان، أي يتحكم فيه. ذلك أن الوجدان عزلة والعقل اتصال. الوجدان كلام مع النفس فهو ليس كلاماً تاماً. انه مشروع كلام لا يكتمل الاّ بانتقاله الى مجال العقل.

والعقل قاعدة للكلام مع الآخر، فهو بهذا يتخذ مظهر النثر والكلام المرسل وفق مقاصد المتكلم.

ومنذ العصر الجاهلي كان هناك فرق بين الشعر والشعرية، وهو لم يكن يثير الانتباه لدى الشاعر والمتلقي معاً، ولكن سرعان ما بدأ الفارق يجذب الانتباه مع توسع اللغة العربية جغرافياً واعتمادها لدى شعوب متنوعة تحت حكم العرب المسلمين، ومنها من تعرّب كلياً مثل اهل العراق وبلاد الشام ومصر، ومنها من تعرب جزئياً مثل الجزائر والمغرب واحتاج وقتاً مديداً ليكتمل تعريبه.

ويعتمد الشعر العربي اساساً على الشكل المستند الى موسيقى اللغة والذي يدخلها في ايقاعاته الخاصة به، تلك التي نظّر لها وضبطها لاحقاً الخليل بن أحمد الفراهيدي في سياق تسهيل تعريب الشعوب غير العربية التي طاولها الفتح.

أما الشعرية فهي جوهر الشعر وروحه، لذلك لا تقتصر على ثوب اللغة وانما تضيق به في معظم الاحيان، فنراها حاضرة في نصوص نثرية شفافة تدخل من وجدان المبدع الى وجدان المتلقي بسهولة وسلاسة، فتمس بذلك شغاف القلب وتستقر في ثنايا الروح العميقة تاركة تأثيراً مقيماً وليس عابراً. ونرى الشعرية أكثر ما نراها في نصوص المتصوفين وكذلك لدى شعراء في التاريخ العربي استطاعوا التفريق بين ايقاعات الحياة اليومية وشؤونها العادية المتكررة وبين الايقاع العميق لوجدان الانسان، خصوصاً أمام الحب ومظاهر الكون ولدى التأمل في معنى الانسان ووجوده على الأرض.

وعن الشعر العربي الموزون المقفى فقد استمر حوالي ثلاثة عشر قرناً بصيغته المعهودة، مع تغيير طفيف في العصر العباسي حين كسر الشعراء العمود الذي تبدأ فيه القصائد بالبكاء على الأطلال أياً كان موضوعها، وكذلك باعادة توزيع الاوزان في صيغة المجزوء والمتعدد القوافي أحياناً.

صيغة الشعر الموسيقية هذه بقيت متماسكة تلك القرون المديدة لأنه لم يطرأ على التعبير الشعري تطور جذري يعادل تطورات مماثلة في الاجتماع الانساني تبحث عن معادلها في التعبير.

وما ان بدأ الربع الثاني من القرن العشرين حتى تزلزل ايقاع الشعر نتيجة صدمة الحداثة الثقافية واندراج الشعر كتعبير لغوي في حيز أقل بكثير من مساحة اندراجه المعهودة في التاريخ العربي، وذلك نتيجة توزع الشعرية كما اسلفنا على مظاهر الحضارة الحديثة، ونذكر هنا، مثلاً لا حصراً، العرض والاستعراض بايقاع الجسد الراقص وبالأضواء والقماش أو الورق الملون، وبالأضواء المتحركة والمجسمة. وهناك أيضاً الأزياء ومتغيرات المظهر البشري الذكوري والانثوي، وكذلك الهندسة بتطوراتها الثورية من التكوينات الكبيرة الى تلك الصغيرة والمتناهية الصغر، فضلاً عن كثير من التغيرات المتسارعة في حياة الانسان خلال القرن العشرين.

اقل من مئة سنة على القصيدة العربية الحديثة بفرعيها، “قصيدة النثر” و”الشعر الحر” القائم على التفعيلة كوحدة للقصيدة، بينما الشعر الكلاسيكي يعتبر ان بيت الشعر كاملاً هو الوحدة. وحدث صراع بين نقاد وشعراء من طرفي القصيدة الحديثة، تمثل أكثر ما تمثل في مجلة “الآداب” (بدأ صدورها عام ١٩٥٤ ورأس تحريرها الروائي سهيل ادريس) ومجلة “شعر” (تناوب على رئاسة تحريرها يوسف الخال وأدونيس). وقد تعدى السجال بين المجلتين الطابع الأدبي والفكري ليدخل، من طرف مجلة “الآداب” على الأقلّ، مجال السياسة إذ اتهم ادريس القيمين على مجلة “شعر” بأنهم خصوم للقومية العربية التي يعتبر نفسه ممثلاً لها، وبأنهم يعتنقون القومية السورية مبدأ لهم، استناداً الى كون بعض أركان مجلة “شعر” ينتمون أو كانوا ينتمون الى الحزب السوري القومي الاجتماعي.

دافعت “الآداب” عن قصيدة “الشعر الحر” واعتبرت قصيدة النثر التي كتبها ونظّر لها بعض أركان “شعر” بمثابة تهديد للثقافة العربية وللقومية العربية أيضاً. لكن المتصفح للمجلتين يلاحظ أن “شعر” نشرت قصائد تعتمد الايقاع الكلاسيكي وأخرى ايقاع التفعيلة (الشعر الحر) وقصيدة النثر. في حين منعت “الآداب” نشر قصائد نثر على صفحاتها، طوال فترة الصراع بين المجلتين على الأقل.

العدد 133 / تشرين الاول 2022