الحضارة البشرية، باقية أبداً ما بين النهرين

 الدكتور نسيم الخوري

لم تعد تلتقط عيون البشرية المعاصرة الصور لتؤبدها فوق الجدران لتدفع بها نحو العاطفة والشعورلأنّ الذاكراة سرعان ما ترقد وتتشوّش وتذهب مأخوذةً بحقولٍ بصرية جديدة ودائمة وجاذبة قاتلة لرتابة الزمان. وبالرغم من سلطات الصورة الثقافية وتدفقها الهائل، فإنّ المشاهد تنقل غبار الأحداث التي تولد ميتة فلا تترك آثاراً طويلاً. محكومون إذن، بالتقاط  نتفاً من الواقع حين صارت الصور منسيّة وخالية من أيّ مضمون، ولا فائدة من إذكاء النزاعات بالمشاهد الدموية، بقدر تغطيتها للإطمئنان الى ما بعد الحروب التي تتكفّل بها ملايين العدسات ومواقع التواصل المحتشدة بأقمار الفضاء الإصطناعية لأرشيف الدول وتطوير صناعات الأسلحة وتجاراتها وتوسيع أسواقها.

لماذا البحث في الصور؟

لأنّ صورالعراق تأسرني منذ ال2003 وتُدمي الحضارات، باعتبارها توخّت حرق التاريخ القديم المولود من رحم العراق ينبوعاً لا نهاية لها من العبر والدروس لم يخرج من هناك وفشلت في تذويبه حروب الدنيا. صحيح “أنّ الربط بين بغداد والطريق نحو القدس” صار هائل التكلفة، وصحيح أنّ متابعة المشاهد هناك أو في لبنان وسوريا وفلسطين وحتى مشاهد الحرب الروسية الأوكرانية وغيرها من البلدان المسكونة بعدم الإستقرار يخطفها النسيان، لكنّ الأصح أنّ جذور التاريخ منقوشة بسمات عراقية يستحيل محوها لا بالدول العظمى ولا بخيوط القطن الناعمة لكونها رحم الحضارات الأوّل ؟

ماذا تعني للمشاهدين مثلاً، مفاوضات فيينا النووية سوى تقنين النفط والغاز الروسي ورجفة الغرب المسكون ب”فوبيا” الصقيع وسويسرا واقفة في أوّل الصف؟

بل ماذا تعني للعراقي إن رأى أو سمع غداً بأنّ إلمانيا ستصبح دولة عظمى جديدة  في مجلس الأمن الدولي تقعد إلى جانب فرنسا والدول العظمى؟

لا شيء، لكنّ البشرية بحضاراتها المعاصرة وذاكراتها السريعة الذوبان، أراها تنسحب من الكتابة إلى الصورة أعني إلى مصر القديمة حيث ولدت الكتابة من رحم الهيروغليفية وإلى الكتابة المسمارية التي خرجت من رحم العراق. نسيت شعوب العولمة والذكاء الإصطناعي هذين الينبوعين بين مصر والعراق لأن الأزمنة الراهنة تسحبنا اليوم نحو صناعة الصور والثقافات السريعة الذوبان.

وهنا نماذج ثلاثة:

1- صورة نسف برجي مركز التجارة العالمي في واشنطن في ال2001 وهي التي ارتداها القرن الواحد والعشرين، لكن الإدارة الأمريكية،حجبت عن العين العالمية إظهار نقطة دمٍ واحدة .اكتفت، بالرغم من إدّعاءات الديمقراطية وحريّة النشر، زوّدت وسائل الإعلام العالمية بنسف مئة طابقٍ وطابق أو نصف مليون طن من الجدران المتناثرة إلى صور طائرتين مدنيتين تمّ خطفهما واستخدامهما في التفجير كطعمٍ للتدمير المستباح والتي كان لا يمكن تلافيهما أو حجبهما عن أنظار العالم، مهما كانت تداعياته.

2- صور تدميرالعراق التي بدت وكأنها لم تقع هناك ،عبر استراتيجيات حجب الحقائق وتغطية الصور الفظيعة وتنقيتها وتنظيفها من الدماء قبل بثها. كانت العدسات تلتقط بعيون مقفلة، وما خروجها عن المسموح به في التقاط الصور أو بثّها بما يثبط من عزائم الأمريكيين أو يدفع حدّة التظاهر ورفض الحرب في عواصم العالم، إلاّ مسألة بقيت تحت الرقابة المشددة. ولأنّ الصور القوية تولد ميتةً في ثقافة الغرب إذ تقع ضحية اعتباراتٍ كثيرة تحول دون نشرها قبل ثلاثة أيامٍ من حصولها لتصل متأخرة غالباً، فلهذا كانت تُهمل أو تخسر قيمتها الخبرية والتأثيرية.

3- أين نضع صور غزّة اليوم؟ لا جواب وافٍ. 6 حروب بالصواريخ والقصف بالطيران متتالية ومتشابهة بينها وبين إسرائيل نشبت بين2008  و2022، تشدّ العيون لكنها سرعان ما تذوي إلى نسيان. لست باحثاً هنا في أسباب هذا النسيان، مع أنّ الموضوع يمكن حسمه بأمرين: صليات الصواريخ الذي كسر القواعد المألوفة في الأذهان أوّلاً، وتشابه المعارك برتابتها ونتائجها القاسية ثانياً من دون المجازفة بنشر الخسائر الهائلة التي رصدها طلاّبي في المعهد العالي للدكتوراه. وقعت بصراحة في النسيان العام الذي يحصل مع انتهاء الصور بحثاً عن صور أخرى. تبقى رمزية هذا الصراع الذي أسمّيه “الحروب المفروضة” التي تصب في الوجدان الديني العام أي برمزي القدس والمسجد الأقصى. وتظهر الأسماء الرمزية التعويضية التي تدمغ الذاكرات المحدودة ، مثل عملية “الفجر الصادق” ( 5/آب 2022) أطلقتها إسرائيل تسمية تؤكّد تركيزها على حركة الجهاد الإسلامي التي تتّخذ اللون الأسود شعاراً لها، بينما أسمتها الجهاد “وحدة الساحات”. وكانت عملية “الرصاص المصبوب”(27/12/2008 إلى18/1/2009 ) الإسرائيلية مقابل “معركة الفرقان”، ثمّ “عامود السحاب” مقابل “حجارة السجيل” في 14 تشرين الثاني /نوفمبر 2012. وأطلقت إسرائيل في 7 تموز/ يوليو 2014 عملية “الجرف الصامد”، مقابل “العصف المأكول”. ومنذ بداية تشرين الأوّل/ أكتوبر 2015 وحتى اليوم تشهد الضفة الغربية وقطاع غزّة إنتفاضة القدس أو “انتفاضة السكاكين” بتبادل الطعن بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وحصلت “صيحة الفجر”( 12 تشرين الثاني/نوفمبر 2019) بعد اغتيال مسؤول فلسطيني بصاروخ ثمّ وقعت حرب على غزّة في 10 أيّار/ مايو 2021 أسمتها إسرائيل “حارس الأسوار” بينما أسماها الفلسطينيون “سيف القدس”.

هكذا تبرز المسافات بين الشعوب والثقافات في إبراز الصور الغرائزية لكوارثنا وقتلانا وكأننا ننجذب نحو الأفلام والمسلسلات التي تفبركها مخيلات المخرجين السينمائيين الذين يُفرغون صورنا الحقيقية التي تتجاوز العنف السينمائي.

ويحضر أخيراً السؤآل: هل الصورة لعبة مواقع اتصالية كما هي اليوم أو هواية وصدفة أو مهنة خطيرة لها أصولها وقوانينها وثقافتها المعاصرة ؟

بإجابة باردة، إنها محكومة من العقل الدولي الشرس بتخفيف صور الكوارث والحروب، ليس احتراماً للقوانين الدولية بين المسموح والمحظور بثّه ، بل مراعاة لاستراتيجيات نقل الصور التي  تتجاوز غالباً الاستراتيجيات العسكرية في كسب الرأي العام عن طريق صناعة الصور وتنخيلها بدلاً من سجن المشاهدين في التحفيز التحريض والتبرير والتكرار والتحقير، أو عبر تجنيد الصور لغسل الأبصار والأدمغة وخلق الشائعات والتضليل وقلب الحقائق وتسويق الأوهام وغيرها من فنون الإعلام الجديدة أو علومه التي تتقدّم كسلطات أولى لا ثالثة في أعظم الدول الديمقراطية.

العدد 133 / تشرين الاول 2022