جدليّة الرقمنة بين البناء الهيكلي للكلمة ومؤشر التشتت

الدكتور عبدالرحمن بن حسن المحسني يوثّق تجربته الرقمية الأدبية والشعرية

التجربة العلمية أثبتت على مدار الأعوام أهميتها في الاستمرار والتأقلم مع عوامل الزمن على اختلافها. والزمن الحالي تنضوي فيه مئات لا بل آلاف التغيرات اليومية والاكتشافات العصرية التي تسهّل الحياة التي تتسارع وتيرتها يوماً بعد يوماً، فكما دخلت التكنولوجيا العالم الملموس اجتاح العالم الافتراضي كافة المجالات الإنسانية حتى تحوّل من مادة كمالية إلى مادة أساسية…

وككل مجال دخلت فيه الرقمنة المربوطة بالأجهزة وروابط البحث تمكّنت هذه الرقمنة من التسلّل إلى عالم الأدب والكلمة، وظهر المفهوم الجديد الذي يُعرف بالأدب الرقمي.

تعدّدت وكثرت التجارب في تحديد وسياق الأدب الرقمي حتى اليوم، اذ يسعى مؤيدوه إلى تمكينه على أنه أدب قائم بحدّ ذاته اجتاز فترة التجربة! لكن رغم المحاولات ما زال يتلقى شظايا التشكيك في جهوزيته، وإمكانياته من حيث الاقتناء والحفظ، وحقوق النشر والملكية الفكرية، وضياع الكلمة على الرغم أنه يتيح يومياً إمكانية السهولة، البساطة، والحق في الاطلاع دون حواجز أو ضوابط… بين تأييد ومعارضة للأدب الرقمي يبقى السؤال الأهم ماذا سينتج هذا الأدب، وماذا سيضيف للتجربة الإنسانية من خلال رسالته؟ للإجابة على هذه الأسئلة وغيرها كان لـ”الحصاد” حديث خاص مع عضو هيئة التدريس في جامعة الملك خالد ونائب رئيس اتحاد كتّاب الإنترنت العرب الدكتور عبدالرحمن بن حسن المحسني ننقله اليكم في ما يلي.

  • “الحصاد”: ما هي الحالة التي يعيشها اليوم كل من الأدب والنقد، لكونك أديباً وناقداً؟
  • ‏عبدالرحمن المحسني: هي حالة تحوّل أدبي ونقدي باتجاه محوري نحو الرقمية نصاً وإبداعًا، وربما كانت جذورها الأولى مع دعوات نظريات التفكيك ورؤية جاك دريدا في انفتاح النص، ومع نظريات التلقي عند آيزر وياوس التي فتحت خيارات القارئ المتفاعل وقيمة التلقي. منذ منتصف القرن العشرين بدأت الرقمية تتأسس وتأكدت صورتها بوضوح مطلع الألفية الجديدة، وتفجّرت قيمتها وقيمها وأهميتها المؤسسة بعد كورونا. آمنت بها قلة وكفرت بها كثرة، ولكن الزمن انتصر للرقمية فرأينا العالم كله الآن يتحرك باتجاهها وبدأت دول العالم تتسابق على تطوير قدراتها الرقمية. وحينما يكون التحول الرقمي يقوده الاقتصاد والسياسة والمجتمع فلا مناص من قبول التعليم والمثقف له رغم بطئه في التفاعل مع المتغيرات، وغيابه عن التنوير الذي كان يقوده. بدأنا نعيش مع الأدب والنقد تحوّلاً كبيراً وجاءت كورونا كي توقظه من سباته، وليصبح التحول الرقمي فعلاً واقعاً على المستوى الاقتصادي والسياسي وعلى مستوى المجتمعات.
  • “الحصاد”: نتجه نحو الأدب الرقمي على أنه أدب العصر والزمان. ما أهداف هذا الأدب؟
  • ‏ ‏عبدالرحمن المحسني: سابقاً والآن وسيبقى الأدب معبراً عن الحالة الإنسانية في فرحها وهمومها وأحزانها وشتاتها واستقرارها، سيبقى متنفسًا يعبّر الأديب به عن حالته المختلفة والمدهشة. لا يختلف ولا تختلف دوافع الأديب على مرّ العصور ولكن الأدوات والمحصلة الثقافية تختلف من عصر إلى عصر. ما نعيشه من تقنيات رقمية وما يصاحب حياتنا التقنية من تحوّلات ورفاه، وما تعيشه الحياة المعاصرة من تطوّرات يجب أن نعي أنه يلقي بظلاله على المكوّنات الذهنية الكاتبة للنص قبل تأثير التقنيات الحاملة عليه. في نظري إن التقنية تُعدّ بيئة للأدب كما أنه إلى عصر ما قبل الإسلام تمثل الصحراء البيئة، وكما أن لكل عصر بيئة مختلفة تؤثر على النص.
  • “الحصاد”: أين الدور الرقابي والنقدي الذي يحمي الكلمة من الضياع في ظل تنوّع الأدوات الرقمية؟
  • ‏عبدالرحمن المحسني: الموضوع هنا يحتاج إلى قانون، وأعتقد أن بعض الدول قد سنّت قوانين الحماية
    بصريات نقدية

    الفكرية، هذه القوانين يجب أن تختلف باختلاف أدوات العصر، وأحسب أن النشر على مواقع التواصل الاجتماعي يمثّل نشراً علمياً يحفظ للكاتب حقه، وأن اكتشاف السرقات النصيّة على مواقع التواصل الاجتماعي أيسر بكثير من السرقات التي كنا نحن نشهدها، سواء أكانت على مستوى البحوث النقدية المتصلة بالأدب أم على مستوى الأداء النصي.

  • “الحصاد”: كيف هو وضع الشعر والأدب على “تويتر” لكونه المنصة الأهم اليوم؟
  • عبدالرحمن المحسني: ‏اشتغلت في عدد من البحوث العلمية على النص الشعري والسردي على “تويتر” ونشرت في مجلات علمية محكمة، وأشرفت على رسالة علمية تناولت تحولات الشعر السعودي على “Twitter” من خلال خمسة نماذج شعرية، وموضوع الأدب والشعر على “تويتر” أكبر من جهود فردية ويحتاج بالفعل إلى جهود مؤسسيّة لا تخصّ الموقع فحسب، بل تتناول المدونات الشعرية والسردية الكبرى على مواقع التواصل الاجتماعي كلها. وقد بدأت الجامعات في اعتماد عدد من الرسائل النقدية التي تواجه الظواهر الفنية على مواقع التواصل، وبدأنا في موقع “راقمون” – الذي أشرف عليه ومجموعة من المهتمين بالرقميات – في نشر عدة سلاسل ومنها سلسلة مهمة عن الرسائل العلمية على مواقع التواصل الاجتماعي ..
  • “الحصاد”: ما الفرق بين الكتابة التقليدية والكتابة الرقمية، من ناحية الدور الوظيفي، الانتشار، الملكية الفكرية؟
  • ‏عبدالرحمن المحسني: أعتقد أن الكتابة الإبداعية الرقمية تؤدي الأدوار الوظيفية ذاتها للمجتمع كما التقليدية، ولا تختلف في ضروريات الحقوق، سواء أكانت تقليدية أم رقمية، وسواء أكان النص تقليدياً أم رقمياً. فالخصائص الجمالية الأدبية للكلمة، لا يمكن التنازل عنها وإن كانت الجمالية في التقنيات الحديثة تتسع وتتنوّع إلى جماليات تدعمها التقنيات المختلفة، وعلى سبيل المثال النص الأدبي. والنص تدعمه اليوم وسائط الملتيميديا، صورة أو رابطاً أو إضاءة أو حركة أو مقطع فيديو ولا يمكن أن نذكر تأثيرها في حالة التركيز والتلقي في هذه الوسائط.
  • “الحصاد”: كيف يكون للإبداع مكان في ظل الرقمنة والحواسيب؟
  • عبدالرحمن المحسني: لا يتأثر الإبداع الحقيقيّ بتغير الوسائط، فالوسائط داعمة للتجربة الجيدة، وعبء على التجربة الضعيفة. ‏وبالنظر إلى تعالق النص والوسيط نرى أنه بدأ ظهور الحواسيب الرقمية من منتصف القرن العشرين تقريبًا وتطوّر مطلع الألفية الجديدة، حيث تطوّرت الأدوات التقنية وتأكدت علاقة النص بمواقع التواصل الاجتماعي، ومنذ منتصف القرن العشرين تقريبا والنص الشعريّ يتناءى عن الكتب الورقيّة ويقترب من الشبكات والحواسيب، وحتى النص التراثي بدأ القراء يحيدون بالقراءة عن الكتب الصفراء.
  • “الحصاد”: يتميز الأدب الرقمي بجعل القارئ مشاركاً في النص من خلال قدرته على امتلاكه. كيف يضمن ذلك حقوق المصدر الأساسي؟
  • عبدالرحمن المحسني: ‏أتصوّر أن لكل عصر نصّه الذي يشبهه ويمثله، ونحن في عصر رقمي جديد له خصائصه. كان النقاد يتحدّثون عن عنصرين (السياق/ النص)، ثم التفتت نظرية التلقي على يد آيزر وياوس إلى العنصر المفقود (المتلقي)، فكانت فتحاً نقدياً مهماً، والآن يتحدث النقاد عن التفاعلية ومشاركة المتلقي في صناعة النص.. ومن المؤكد أن القوانين النقدية والمجتمعية هي التي ستفصل في حدود النص، بداية النص وارتباط الوسيط أو امتلاك القارئ المشارك لامتداد النص..
  • “الحصاد”: السهولة في الاقتناء والعودة إلى الملفات الرقمية أسهل من الكتب الورقيّة، لكنه في الوقت عينه، ما زال روّاده يعتبرونه فسحة للتعبير لا أكثر. متى سيطرح جدياً في عالمنا العربي؟
  • عبدالرحمن المحسني: الذي يتابع ما يدور في العالم على مستوى الاقتصاد، على مستوى السياسة وعلى مستوى المجتمع سيقتنع بأن لا عودة إلى عصر الورق أو ما قبل الرقمية، لأن الرقمية، باختصار، تقدم خيارات علمية وأدبية أفضل وأيسر. فالتقنية تمثل منعطفاً جديداً والعالم كله يتحرّك رقمياً على كل المستويات. الأمر لا يتعلق بالمعرفة أو النص، بل هو تحرّك الكون كله باتجاه الرقمية، ومن أسف أن المؤسسات التعليمية والثقافية تتأخر، والتطور التقني والرقمي لا ينتظر إذناً من أحد لكي يكون حاضراً. العالم يتقدّم بسرعة هائلة ولا أتصور أن عالماً يتقدم بكليته إلى الأمام سيعود خطوة واحدة إلى الخلف، وهذا يعزّز التحدّي البحثي والعلمي والثقافي.
  • “الحصاد”: ما هي التحديات التي تواجه هذا الأدب اليوم؟
  • عبدالرحمن المحسني: ‏في نظري أن أهم التحديات التي تواجه العالم الآن هو تحدي القضاء على الأمية
    قصتي مع النشر الرقمي الأدبي

    الرقمية. ومن بعد يأتي الوعي بالتنافسية الشعرية المقبلة؛ فالتقنية فتحت النص على تنافسية الآلة، وتوظيف التقنية يخلق تنافسية مع تطوّر النص وتنافسيّة الشاعر الروبوت القادم. المهم في ظل هذا التطور المتسارع أن نلتفت إلى البيئات الفقيرة والمتأخرة رقميًا ومحاولة دعمها لتلحق بركب الحضارة الرقمية.

  • “الحصاد”: كيف تُقنع أهل القلم بأهميّة التحول للكلمة الرقمية؟ ما هي دوافعك؟
  • عبدالرحمن المحسني: لا أعتقد أننا الآن نحتاج أن نقنعه، فالتقنية التي تحيط بنا تجاوزت مسألة الإقناع أو جدلية الوجود، ومن لم يركب في سفينة المعاصرة والرقمية فسيبقى مكانه وسيتجاوزه الزمن إلى غير رجعة إليه. ودوافعي هي دوافع العصر والتفاعل مع معطياته ومستجداته.. قلقي الكبير الذي يصاحبني هو مصير النص في ظل التقنية. كتابي “خطاب sms” دراسة في تشكلات البنية الصادر ٢٠٠٨ وهو يرى ما لم يره عدد من النقاد من توجه الأدباء إلى التفاعلية وتفعيل مواقع للتواصل الاجتماعي ودورها في صناعة النص ورسم استراتيجياته.. واليوم تبدو القناعة أكبر وتوجّه الجامعات والمؤسسات إلى الرقمية ما يجعل حاجتنا أكبر إلى بناء استراتيجيات مدعومة من المؤسسات الكبرى وبحوث طلبة الدراسات العليا للالتفات لمدونات النص على مواقع التواصل الاجتماعي حفظاً ونقداً ومقاربة. والأمر لا يحتاج إلى العلم والنقد فحسب، وإنما يتحرك عن طريق تكوين البنيات التحتية الرقمية المتجددة والمتسقة مع التسارع الرقمي، وبناء المؤسسات العلمية والثقافية لمشاريعها الأدبية والعلمية العليا.