سنية صالح، الشاعرة التي تركت نفسَها لزحام العالم!

امرأةٌ تملك البكاء وحده، أسيرة أبدًا،  لم ينتظرها الزمن  لتأخذ ثأرها من العالم، أحبت الماغوط وأحبّها، جمعهما الشعر والحب، ولكن ظلّه افترس ظلّها، في قصائدها احتضار امرأة، وأحزان عصافير، وخريف الحرية، وامرأة من الطباشير، هياج النار، وعاصفة تأخذ القلب، والكثير من العناوين المفتاحيّة لأحزان حياتها.

الشاعرة سنية صالح، وُلدت في سوريا، (1935- 1985)، عاشت طفولة صعبة، كتمت الكلام في جوفها، وهي ابنة ثلاث سنوات بعدما فقدت والدتها السمع، ولاحقًا موتها الذي ترك في روحها ندبة، ومن على مقاعد الدراسة راحت

سنية صالح وابنتيها شام وسلافة

تبثّ الورق كواتمها، وجدت في الشعر ملاذها الآمن، وأرادت منه أن يكون ثأرها من العالم.

الذات الشاعرة: أحتفظ لنفسي بحريّة الحلم والثرثرة..

        درست  الأدب الإنكليزي في بيروت، نالت جائزة النهار الأدبية لأفضل قصيدة عام 1961، بعنوان “جسد السماء”، “فاجأت الجميع لأنها كانت صامتة، ودخلت دائرة الشعر بلا مقدمات ومن دون أي ادّعاء.”  وفي سؤال -وجهته الصحافة لها عقب فوزها بالجائزة- عن طموحها الشعري؛ أجابت بأنه ليس لديها طموح من أيّ نوع كان، فقط أسترخي وأترك زحام العالم يتدافعني كشيء صغير جدًا لا وجود له… إنما أحتفظ لنفسي بحريّة الحلم والثرثرة..” . كان الشعر لديها عملية عبور النار اشتعال الجسد والعقل والمخيلة بحمى الكشف. في مقطع من “جسد السماء”، تقول: “لا صوت لي ولا  أغاني/ خلعت صوتي على وطن الرياح والشجر” ، “ابتعدي ايتها الأصداء/ ذهب النهار لا يدفئ أحلام الغريب/ فليكن الليل آخر المطاف.”

في الوقت الذي كان التنظير للحداثة الشعرية محتدمًا، لم تتخذ بين المتناظرين صفّا، فظلّت عشبة بريّة لها فرادتها، التي لم يلتفت لاستثنائها النُقاد.

 في سوريا التحقت بوظيفة مكتبية “لا علاقة لها بشيْ من حياتها وأحلامها..”  وحتى وقت بعيد “لم تشف من الشعور بأنها في غير مكانها”.

تقول الناقدة خالدة سعيد، وهي أختها، في تقديمها لكتاب: “سنية صالح: الأعمال الشعريّة الكاملة”: “في شعرها عالم معطوب ورؤيا جامحة.” “لا تجد في شعرها الجملة والالتماعة أو المفاجأة. الكلمة هنا برية قادمة من عالم الصراخ والجروح، من عالم المباضع والثورات ومتاهات التشرد”.

وتُضيف في مكمنٍ آخر:” تعمّر المشهد بالمفارقة كأنها تعدّ لفيلم سريالي: أساس من الطفولة والملائكة والدمى والشعر والحب، محكوم بقانون الجلادين”. لم يكن صمتها عن بلادة، بل وكما وصّفت سعيد: “صمت من رأى ولم يجد لما رأى تعبيرا”.

كتبت صالح بمخيلتها، كانت تُسلم للأحلام ريشتها، وتترك القصيدة كما تهذيها، ولا تُخضعها لقواعد التهذيب  والصنعة الفنيّة، تقول: “عندما تحضر الحمى الشعرية، خفف من حدة يقظتي، أستسلم، ألغي مقاومتي لأعماقي إلى أقصى حد، يلي ذلك عملية تدفق داخلية ترافقها استسلام في الإرادة والحواس، ثم أدوّن ما أحصل عليه في مرحلة الهذيان  “

سنية صالح

كان الألم جزءا من تكوين القصيد لديها، وهو كما تقول سعيد: ” انكسار الحلم. إنه عطب يحمله العالم في وعينا  ويحمله جسدنا كخطر كامن ودمار مضمر.”

ترجمت إبداعها في أربعة دواوين شعريّة: “الزمان الضيق”، “حبر الإعدام”، “قصائد”، وديوانها ” ذكر الورد” الذي وهي تصارع المرض “كانت تكتب في كل الحالات، حتى مع العلاج الكيميائي..”، ومجموعة قصصيّة  بعنوان ” الغبار”.

عنها قال الماغوط “هي حبي الوحيد… إنّها كونٌ وكل النساء من بعدها نجوم تمرّ وتنطفئ”. عاشت في الظل شاعرة متفردة الإيقاع خافتة الصوت، أنجبت سلافة وشام، وفي الخمسين انطفأ نورها على فراش المرض، وكان لموتها أثر جارح في قلب محبيها.

“والخريف في قلبي أشدّ اصفرارًا/ وبؤسا/ من خريف الأشجار/ ورياح قلبي أشدّ هيجانًا/ من رياح الأشجار”.

الحب والشعر: “الزمان ضيّق وأضيَق منه جسَد المحبّين”

 ” أنا المرأة التي ارتبكت / عندما فاجأها الحب.” التقيا في الستينيات في منزل الشاعر أدونيس حيث كانت تقيم عند أختها الناقدة خالدة سعيد، كان لقاؤهما في وضع سياسي صعب، حيث كان ملاحقًا من قبل حزب البعث السوري، كتب لها رسائل حبّ مدهشة وهي التي كانت الكلمة دهشتها. وتزوجا وهي طالبة في كلية الآداب في دمشق.

يقول الشاعر شوقي بزيع، في مقال له على لسان عيسى الماغوط الذي تناول سيرة حياة أخيه: أن الماغوط رفض الواقع الصعب والمهين الذي عاشه منذ الصغر، واندفع للثأر لكرامته المجروحة عبر الشعر النثري، وعبر مزاجه المتقلب الذي كانت الشاعرة سنية أبرز ضحاياه. تقول الشاعرة:  ” بين أحزانك فقدت دموعي/ بين أمجادك خلفت أنقاضي/ وها أنا أنزف.. أنزف/ من أعمق الجراح/ وحياتي تسيل كالمياه الشاردة/ والريح ما هدأت أبدا ما هدأت “.

لم تستطع أن تلمع في ظلّه، ربما لسبب طبيعة حياة الماغوط الغير مستقرة، وقد تحدثت في مقال بعنوان “طفولة بريئة وإرهاب مسن” نُشر في مجلة مواقف العدد 21، مايو 1972، عن علاقتها به وعن الماغوط الشاعر الملاحق والمتخفي عن الأنظار، وعن زياراتها له في مخبئه: ” بدت الأيام الأولى كاللعبة البطولية لنا نحن الاثنين. ولكن لما شحب لونه ومال إلى الإصفرار المرضي وبدأ مزاجه يحتد بدت لي خطورة اللعبة.” وتضيف: “كنت أنقل له الطعام والصحف والزهور خفية، كنا نعتز بانتمائنا للحب والشعر كعالم بديل متعال على ما يحيط بنا”.  كانت خيبتها تتراكم  عندما تعود لتجد الكتب ممزقة ومبعثرة فوق الأرض وعليها بقع القهوة . كانت سنية هي صلته بالعالم الخارجي تتخفى وتموه الطرق حتى تأتيه – نقلًا عن مقدمة الناقدة خالدة سعيد- “طلبت سنية من الحب أن يكون كما الشعر ثأرها من العالم  وحصانها السحري للنجاة، وكانت للماغوط بدوره ومحنته وثاراته من العالم”

“طوال حياتي أغذّ السير/ وما تجاوزت حدود قبري.” 

في حوار أجراه الماغوط مع  الشاعرة تحت عنوان “حين تكون الضحية أكثر إشعاعا من النجوم” نُشر في مجلة مواقف العدد 11، 1970. صرّحت في أحد أجوبتها:” بقدر ما عظم ألمي جاد شعري. لقد كان ثمنا لما عانيت” وعندما يسألها باستفزاز واضح لشعريتها، عن العمال المقطبين والفقراء والمشردين الذين لا يقربهم نتاجها الشعري، تردّ بنبرة محتدّة كما يبدو من استفهامها: ” ولماذا أنت  تمدّ ذلك الليل البشري بيني وبين الأشياء المضيئة.؟ لو كان العالم الآن مجرد وجوه عمال مقطبة ومشردين.. لرفضت أن أعيشه. عندما يكون سوط الجلاد طويلا كالظلام، تكون الضحية أكثر إشعاعا من النجوم… العالم يملك الكثير الذي يستدعي الحب..”

لم تلغ تلك الصغائر رؤيتها له فارسًا، في مقطع من قصيدة الصديقان، تقول: ” سحابة لست كالسحب/ وفارس ليس كالفرسان/ هطل مع الأمطار/ سار وحيدا/ قويا وبريئا/ تتبعه ملايين الطعنات/ وهي تلمع تحت نور الشمس.”  وبالتالي كان حبّها في قلبه قويًّا، فرثاها: “أيتها الزهرة المطرودة من غابتها/ حبك لا ينسى أبدًا”،  ” ثلاثين سنة وأنت تحمليني على ظهرك كالجندي الجريح”.

أمومةٌ مأزومةٌ..

كان اليُتم جرحها الذي شرخه العالم في روحها: “سلام على الأطفال اليتامى/ يخبئون أحزانهم بين العشب ويموتون”، عاشت قلق الانفصال عن الأُم بكُل مأساويته، وكأنها آخر طفلة في العالم. “حمامة قديمة يقال لها أمي/ أنا ذعرها الأبدي/أنا دموعها التي لن تجف”. لذا نلمس في شعرها حساسية عالية، وتفتقد الجملة الشعرية  عندها لمعة البديع وتذويق البلاغة.

في كتابها “كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها”، تتناول الكاتبة إيمان مرسال، في حيز من كتابها وتحت عنوان رعب الفطام، مقاطع شعرية للشاعرة سنية صالح، تحدثت فيها عن علاقة صالح بابنتيها شام وسلافة: ” أغرقي رأسك فيّ/ اخترقيني/ حتى تكاد عظامنا تغيب داخل بعضها البعض/ ولنكن متجاورتين/ متشابكتين كثنائية القلب”. تقول مرسال أن صالح تُخفي في طيّاة الشعور خوفًا من الانفصال.

 وتُضيف، كاشفة عن خوف صالح من العالم الخارجي وخوفها على ابنتها من أحزانه وحروبه:  “إنه رعب من العالم  الخارجي الشرير، كأنّ الأمومة رحم يحمي من أهوال العالم التي اختبرتها بنفسها وستختبرها الابنة حتما بمجرد الانفصال”. ثم تذهب لتتحدث عن رعب صالح القديم من الانفصال عن أمّها: ” انتحبي بشدة يا أمي/ وبأعلى ما تستطيعين/ لا فضاء إلّا حناجرنا/ فأين الهواء العظيم ليحمل الصوت المتألم؟/ ثم عودي إلي يا طفولتي البكر والغريرة…”  وكأن بها “أرادت أن تحتمي بهويتها كأمّ أطول وقت ممكن ما دامت قد فقدت هويتها كإبنة بموت أمها”: “يا حبيبتي، موتك هزيمتي الكبرى/ وعويل بشر لا نهائي.”

في مقابلة مع ابنتها سلافة الماغوط، تسأل المذيعة الإبنة عن شعر والدتها، فتُجيب سلافة أنّها غير معنية بشعر والدتها وتُبدي عدم إعجابها به، بأسلوب قد يبدو عفويًا وغير مسؤول، وقد يبدو أنه يخفي في طياته غضبًا مكتومًا من أمّ رحلت قبل موعد الفطام -بمعناه المجازي-. وهي التي قالت في أحد المقاطع الشعرية:” سلافة تهز شجرة الغيوم/ فتسقط الدموع كلّها”.

في حوزة الإبنتيْن مذكرات الشاعرة والتي قد تُظهر الكثير مما خفيَ عنها، لعلّ وعسى يكون ذلك قريبًا.