زهور جميل ملاعب في معرضه الأخير

التعويل على جماليات الطبيعة في مواجهة عنف البشر وكوارث الطبيعة .

“زهرتي عنوان عملي الراهن. واقع الواقع اختصر بها أحلامي. أسعفها باتقان، ألاحق تفسير أسرارها ، أحاول أن أحتضن سر جمالها. أجتهد بالإصرار كي أصل بها الى مرتبة الخلود. من الزهور أتعلم صفاء اللون و ألتمس ألوهية الوجود.” هكذا يقول الفنان اللبناني جميل ملاعب عن معرضه “زهور جميل ملاعب”، القائم حالياً في غاليري جنين ربيز الواقع في منطقة الروشة في بيروت.

يضم هذا المعرض مجموعة من اللوحات الزيتية المتوسطة و صغيرة الحجم، استغرق ملاعب ثلاث سنوات لإنجازها .وقد صوّر الفنان الأزهار التي رافقته منذ طفولته حتى الآن ، مُعتبراً أن الزهور أجمل ما في الطبيعة ، لما تُضفيه من معان عديدة ، ترتبط بالفرح والحيوية وتمنح الأمل في الحياة.

يُعتبر  هذا المعرض ، بمثابة عرض فريد من نوعه ، في مسيرة ملاعب الزاخرة بالمعارض المحلية والعالمية ، فقد رسم ملاعب المدن بثقافتها وأناسها، لون الصالات بأطياف رجال ونساء من مختلف الأعمار والبيئات ، فطبيعة أعماله بشكل عام  تميل إلى الايجابية ، والتمسك بالتقاليد والتراث ، دون إغفال الرؤية  الحداثية للفن ، كذلك تظهر ثقافة الفنان الشاملة، والتي يبدو أثرها جلياً على امتداد معارضه التي ترى إلى العالم ، عبر أكثر من شكل ومضمون .

رسم ملاعب الطبيعة بكافة أطيافها، وكأنه جزء منها ، وكأن ريشته انعكاس للبر والبحر ، وكل ما يزخر به العالم من أحلام وخيالات ، ولم يترك مشهداً يمر في باله مرور الكرام ، فقد دوّن الذاكرة الجمعية ، على شكل جداريات أو لوحات مختلفة الأحجام والمواضيع ، لتبقى إرثاً ثقافياً للأجيال اللاحقة.

يُتابع ملاعب في البيان الصحفي المرافق لمعرضه “زهور ملاعب” حديثه الجذاب عن زهوره الخاصة ، فيقول ؛ “زهرة أم هدية الأرض في فضاء الطبيعة البكر . هدية الربيع للفصل الجديد . أقحوانة الحديقة ، صديقة البيت العتيق، وعلامة الذهاب إلى حقل الدار . لون وشكل ورائحة وإيقاع نور وفرحة الأرض ، واحتفال بالحياة . زهور ألملمها لأضمّها إلى عملي ، أحفظها في كتاب الزمن شكلاً ولوناً . أدوّنها في قماشة، أحلم أن أحتفل بها . أحاول أن أنتمي إليها توقيعاً خالداً ، أسعفها بإخراج ورؤية أخرى ، وبلغة لا تُشبه الحروف ، زهرتي ، وردتي ، أنشودة التراب”.

يختصر الفنان في هذا الوصف الشّاعريّ والرومانسي إلى حدّ كبير ، علاقته بالوردة كروح حقيقية ، مطبوعة داخله ، سواء بعبيرها أو ألوانها الأخاذة ، لقد تخيّل ملاعب الورود وكأنها كائنات ذات كيان شبيه  بقوس قزح . ونقلها من الحقول  المنعكسة في مرآة نفسه ، إلى القماشة البيضاء ، فأضفى على الصالة موسيقى خاصة ، وألواناً ربيعية ، تُشفي الناظر إليها من أتعابه المزمنة.

لكن الفرق الوحيد بين زهور ملاعب ، وزهور الحياة ، بأن الأولى لا تذبل أو تضمحل مع الزمن  ، أمّا الثّانية فعمرها محدود ، وخاضع لدورة الطبيعة ، وقسوة الشمس وهبوب الرياح .

معرض ” زهور ملاعب” ، أشبه بأوركسترا من الورود ، التي تسعى للخلود ، ضمن إطار يتجاوز المكان والزمان واللّغة . تراها أحياناً ترقص بوجه الموت وعقارب الساعة، وتارة تفضل الصمت ، مُكتفية بألوانها وبتلاتها اللعوب ، التي تترك وخزاً في القلب والمشاعر ، كيف لا وهي هدية العشاق في الرابع عشر من شباط ، على امتداد العالم ، وتعبيرا أبدياً عن الحب ، في معناه الأسمى والأنبل .

وهذا ما عبّر عنه شمس التبريزيّ بقوله : “أيّها المسافر اشتر الورد ، لعلك تُقابل في الطريق من يستحقه” ، فالورود كانت ولا تزال هدية ، تجلب الفرح لمن ينظر إليها ، وتشد أواصر الثقة بين الناس . ومن جهة أخرى ، تُجدد الأمل في الروح والجسد ، وهذا ما عبّر عنه فيكتور هيجو بقوله : ” في قلبي زهرة ، لا يمكن لأحد أن يقطفها”.

وفي معرض ملاعب زهور مزهوة بجمالها وألوانها، تفرح بمشاهدتها ومراقصتها ، لكنك قطعا لا تقدر على قطفها أو تلمسها ، تستطيع خوض حوار صامت  وشفاف ، وحفظها بذاكرتك البصرية ، دون المساس بأناقتها الملموسة ، مع العلم أن رائحتها تعبق في المكان كالبخور في مكان مقدس ، بعيدا عن بربرية الواقع .

أخيراً، إن معرض جميل ملاعب الذي بدأ في الثامن عشر من كانون الثاني ،هو دعوة للفرح والابداع ، في ظل الظروف القاهرة التي يمر بها العالم . وهي زهور لا يطالها الخراب ، ولا تنال منها الزلازل الكارثية ، التي تحيق بنا من كل  جانب  .

وفي حوار مع ملاعب على خلفية معرضه ” زهور ملاعب”،وفي ردوده على بعض ” أسئلة الحصاد” ، قال الفنان اللبناني أنه بين أن تنعكس الأزهار من الخارج على داخل الفنان، كما في المدرسة  الانطباعية، وبين أن تنبثق من الداخل الى الخارج ، كما في المدرسة الانطباعية ، يحاول ان يقيم توازنا بين المدرستين ، بحيث يكون هناك تفاعل ديناميّ وخلاق بينهما ، ولهذا السبب فإن لوحاته قابلة للتذوق من قبل الجميع بمستوياتهم المختلفة ، فالبعض يعتبرها لوحات صالونية تزيينية، والبعض يرى فيها ما عو أعمق من ذلك، ويقرأ من خلالها حالة انبثاق الكائنات وتفتحها .

هذا السؤال تضمن إجابته من داخله، يقول ملاعب ، ولا يُبقي لي الكثير لأقوله ، ومع ذلك فقد يكون خلو اللوحات من البشر ، هو انعكاس لا واع للاشاحة بالوجه عن جنوح البشر المتزايد إلى العنف الدمويّ والتنابذ الدينيّ والاثنيّ ، بحيث تحولت الأرض إلى مقبرة جماعية واسعة .وبما أن الإنسان في حالة هبوط دائم ، فإن الزهور على أنواعها ، تُمثل حالة الصعود والإشراق والتفاؤل التي يحتاج إليها هذا الكوكب التعيس .

أمّا بالنسبة لسؤالك عن خلو المعرض من مناخات الحزن والانكسار التي تسود الوطن ومحيطيه القريب والبعيد فأستطيع أن أقول ، بأن الدور الجوهريّ للفن ، يتمثل في منح البشر المكلومين، ما يحتاجونه من العزاء والنسيان والتعويل على جماليات الفن والأدب، وهو ما يُفسر لجوء العديد من مستشفيات الأمراض العصبية والنفسية، إلى تخصيص أقسام خاصة للعلاج بالفن

وأفضل ما أختتم به هذه المقالة ، ما كتبه الشاعر والناقد أدونيس  حول تجربة جميل ملاعب : ” مع ماء المخيلة ، الفن هنا في المعلوم ، إنما هو إشارة سحر في المخيلة ، وعَتبةٌ  للمجهول.

هكذا يتحول فيه الواقع إلى خيال ، وتصيرُ الألفة غربة . ويصيرُ الفنان ، في كتابة الواقع لوناً وضوءاً ، بعيداً عن المدّرسية والتمدّرس ، يُصبحُ فنّه حركة دائمة من التتلمذ على الحاسّة : تلك التي تُبصر ، وتلك التي تَستبصر .

الحدس والّلمس هنا موجة واحدة.

مهما رأينا جميل ملاعب ، يوغل في استقصاء الحياة اليومية ، بتفاصيلها ودقائقها ، كما لو أنّه يكتب ملحمة الحوار ، منذ بداياته الأولى ، بين اليد والمادة ، خصوصاً في جوانبها الفولكلورية ، وفي ما يتصل بالقرية ، نقيضاً للمدينة ، على الأخصّ ، مهما رأيناهُ يوغل في هذا الاستقصاء ، فإنّ الواقع عنده ، يبدو كمثل عتبة للدّخول إلى عوالم المخيّلة ، والحدوس والرؤى ، إضافةً إلى آفاق التّاريخ والماضي والأساطير والذكريات ، والتقاليد التي تُواكب هذه العوالم “.