رُهاب العودة إلى المدّرسة واكتئاب الخريف

يقضي معظم البشر،إجازات صيفية،مُزدحمة بالمشاريع.البعض منهم يَختار السّفر، والبعض الآخريُفضل الاستجمام على الشاطئ،أو في الجبال،أمّا النّاس في البيئات الفقيرة والمُعدمة،فإنّهم يُحبذون العمل مع أبنائهم في الزراعة أو الصّيد ،لكسب قوتهم اليوميّ .

في معرض الحديث عن فصل الصّيف بيومه الطّويل،والّذي يكاد لا ينتهي، حيث تَكثر فيه مشاريع الكسل والاسترخاء،والنوم حتّى ساعة مُتأخرة من النهار،بعد سهرات طويلة،ممّا يؤدي إلى خلل في السّاعة البيولوجية،وإلى مزيد من الاستسلام للراحة والسكينة بعيداً عن ضغوطات العمل،والالتزام بقوانين المدارس الصارمة.

رنيم ضاهر

من هنا نجد أن عودة الخريف،ليست بالأمر السهل،كونه يُلغي مُعادلة الرّاحة، إلى أخرى مليئة بالتوتروالقلق،حيث تُصبح عجلة الوقت أقل بُطئاً من الصّيف، وتُصبح الاستحقاقات على الأبواب،كتامين التزامات المدرسة وكذلك الملابس الشّتوية،وغيرها من الضروريات،ما ينعكس توتراً على سلوك الآباء والأبناء،على حدّ سواء.

لذلك فإنّ بداية العام الدّراسيّ،وفي ظلّ الضائقة الاقتصادية،التي تُعاني منها الكثير من الدول العربية،كلبنان وسوريا واليمن وغيرها،بسبب ظروف الحرب بكافة أشكالها،فإن غالبية سكان هذه المناطق ،غير قادرين على تأمين حاجات أولادهم الأساسية،خاصةً في ظلّ إهمال الدول لمسؤولياتها وبسبب غياب الشفافيةوتدميرالقوى المُتصارعة لأبنية المدّارس والجامعات.مع العلم،أنّ الدول المانحة،التّابعة للامم المتحدة تُحاول قدر الإمكان تمويل اللاجئين السوريين،ومساعدتهم من خلال فتح المدارس الرّسمية اللبنانية في فترةما بعد الظهر منعاً للتسرب الدّراسي قدر الامكان،والحدّ من ظاهرة عمالة الأطفال الموجودة على نطاق واسع في الدول التي ذكرناها.

كل هذه الأسباب مُجتمعة،إضافة إلى تغيّر المزاج الذي يُصاحب الانسان مع تغيّر المواسم والفصول،تؤدي إلى نوع من الكآبة المصاحبة لفصل الخريف تحديداً،خاصة أنّه فصل الاستحقاقات التي تتطلب ميزانية خاصة لتلبية احتياجات الأطفال،لا سيّما في العائلات الكبيرة،ممّا يَضع الأهل أمام ضغوطات كثيرة وأشكال من القلق والتوتر،تظهر على سلوكهم وقسمات وجوههم ومن خلال شرودهم المستمر.

أمّا من جهة ثانية،فإن ظهور الفايروسات والأمراض،وخاصة فايروس كورونا وما رافقه من إغلاق للدول والتّعلم عن بعد وما خلّفه من مشاكل دراسية ونفسية عند الطلاب، وخاصة لدى الأطفال من ذوي الصعوبات التّعلمية.

فقد انعكست المعاناة على الطلاب والأساتذة ،نتيجة تدّني المستوى العلميّ،بالإضافة إلى ظاهرة الخوف من الآخر،والمبالغة في استخدام المُعقمات ووضع الكمامة،وإغلاق الصّف الذي تَظهر فيه أكثر من أربع حالات، ممّا أثر سلباً على المُتعلمين المحاصرين بالتّوتر النّفسيّ،سواء أكان سببه البيت أو المدرسة.

هكذا نجد أن العودة إلى المدرسة أو الجامعة ليست بالأمر السّهل ،فبالإضافة إلى الخوف من الأمراض والفيروسات،تظهر لدى الكثيرمن المتعلمين مشكلات نفسية أخرى،تَرتبط بالخوف من الفشل الدّراسيّ،أو تعرضهم للتنمرمن قبل أقرانهم أومن قبل بعض المعلمين.كذلك يخشى البعض منهم من تدّني مستواه التّعليمي ممّا يُعزز لديه الشّعور بالقلق وقلة النوم والشّرود.وقد يصل أحياناَ هذا الخوف إلى المرض الجسديّ والامتناع عن تناول الطعام أو إلى الاكثارمن الأطعمة غير الصحيّة،ممّا يؤدي إلى اضطرابات هرمونية،خاصة مع ازدياد نسبةالأطفال المُصابين بالسمنة، أومرض السّكري.

إذن يُعتبر الشّعور بالقلق أمراً طبيعياً يتزامن مع تغيّر الفصول وتبدّل طبيعة الوقت،لكنّه قد يؤدي إلى مشكلة كبيرة في حال ترافق مع الأفكار السّلبية والمُحبطة،كعدم قدرة المُصابين به على النوم المنتظم أو التّعلق المُفرط بالأب والأم، وقد يتم التّعبير عنه بأشكال عديدة كالبكاء المستمروعدم القبول بالدّخول إلى المدرسة،أو من خلال الشّعور بالآلام الجسديّة وقلة التركيز،وإنهاء العمل المطلوب أو المشاركة في النشاطات الصّفيّة وغير الصّفية،إضافةً إلى العجز عن تكوين صداقات في عالم المدرسة.

لذلك يَعتبر الخبراء النفسيون بأنّ صحة الأطفال النفسيّة، تتأثر في بداية العام الدّراسيّ نتيجة للخوف من المجهول،وخاصة عند الطلاب المجتهدين الذين يسعون طوال الوقت لتحصيل علامات عالية.أوخوف المتعلم من الادارة أو معلم الصّف،أو بسبب وجود أقران له لا يُحبذ التّواجد معهم نتيجة مشاجرات حصلت معهم في العام السابق،لذلك فهو يتخيّل سنته الدّراسية،صعبة ومُنهكة على المستوى النفسي.

وبالانتقال إلى الأطفال في سنتهم الدّراسيّة الأولى،فهم أكثر عُرضة لقلق الفراق عن أسرتهم،حيث يرفض الطّفل الذهاب إلى المدرسة،وتُرافق رغبته بالبقاء في حضن والديه نوبات شديدة من البكاء والذعر،وقد تتنقل هذه العدوى إلى أصدقائه،ممّا يُحوّل الصفوف إلى “تعاونيات” لاستهلاك البكاء والحزن الفائض.

من هنا تَظهر عدة تساؤلات حول بداية العام الدّراسيّ والمشاكل التي تُرافقه،فتجعل الأهل والمدرسة والأطفال أمام مأزق نفسيّ بعد فترة الإجازة الصيفية التي تُعتبر فترة استجمام وراحة.فما هي النصائح التي تٌوجهها الأخصائية في الطّب النفسيّ دارين توما لقراء مجلة الحصاد،حول بداية عام دراسيّ ناجح وخالٍ من المشاكل والصعوبات.

في سياق الحديث عن بداية عام دراسيّ ناجح،وكي نتفادى الصّعوبات المُترتبة عن العودة إلى المدّارس،سواء بالنسبة للأهل أو المتعلم،هناك عدد من الخٌطوات التي يجب اتّباعها من قبل الكبار والصّغار معاً.تبدأ الخطوة الأولى بحسب توما بتغيير أسلوب الحياة المُتّبع خلال فصل الصّيف،فعلى العائلة مُجتمعة السّعي للنوم باكراً،وكذلك الاستيقاظ في وقت مُبكر دون القبول بأي استثناء،وذلك على امتداد السّنة الدّراسيّة وما يُرافقها من أعطال.

وتَعتبر دارين توما بأنّ الفترة التحضيرية تحتاج إلى تدخل الأهل مباشرة، وإلى ضرورة وضع برنامج يبدأ بالتخفيف من الألعاب الالكترونية في البيت،والالتزام بأوقات محددة للدّرس،وذلك بغية إنهاء الواجبات المدّرسيّة في أوقاتها ومن ثم الاستعداد للنوم.وتتحدث توما عن ضرورة إخبار القصص للأطفال الصّغاروتغذية مخيلاتهم بالأحلام السّعيدة.

كذلك تُشدّد دارين على مُشاركة الأهل لاطفالهم في شراء اللوازم المدرسيّة،وفي اختيار حاجاتهم الجدّيدة،بكل عبارات الحماس والتجشيع،والتّكلم بايجابية عن العودة إلى المدرسة لمعالجة مخاوف الأطفال،وتفادي استعمال عبارات مُعيّنة على غرار:”ستكون سنة صعبة،أو عليكَ ألّا ترسب”،واستبدالهم بجمل تُعزز الطاقة الإيجابية لدى الأبناء،مثال:”هيّا يا بطلي،ستكون سنّة دراسيّة رائعة،هناك نشاطات كثيرة هذه السّنة،وأصدقاء رائعون”.

من جهتها تُركز توما على فكرة تعزيز الاستقلالية عند الأطفال،وذلك بحسب قدراتهم على مواجهة العالم الجديد بمفردهم.لذلك فهي تعتبر أنّه من الضّروريّ تعويدهم على القيام بواجباتهم،والابتعاد عن الاتّكالية. كذلك تقع على عاتق الأهل مهمة التّواصل الإيجابي مع أولادهم،عبر إجراء حوارات فعّالة ودورية بين الطرفين ،وضرورة الاستماع إلى هواجسهم،والمشاكل التي يُواجهونها في بيئتهم المدّرسية،وضرورة التدّخل في الأوقات المناسبة وتحديداً،في حال تَعرض أطفالهم للتنمرأو لمشكلات أخرى كالتحرش الجسدي أو اللفظيّ.

إن مسؤولية الأهل بالنسبة لتوما،لا تنحصر فقط بالمراقبة عن بعد،بل تكمن  أيضاً بتنظيم يوميات الطّفل منذ الصباح الباكر،وذلك من خلال مواكبته وتعليمه أسس النظافة الشخصية،وتناول الطعام الصحيّ،إضافة إلى مسألة تجهيز الحقيبة المدرسيّة،وعدم نسيان الأغرض المطلوبة في جميع الحصص الدّراسيّة.

وتُشير توما أيضاً إلى أهمية تنظيم نهار المتعلم بعد الظهروترى ضرورة الإشراف على إنهاء الواجبات المدرسية المطلوبة،وعدم إهمال فكرة قراءة القصة في المنزل،لما تُقدمه للطفل من متعة ونصائح.تَنعكس إيجابياً على مسيرته في المدرسة ومجتمع الأصدقاء والعائلة.

تّشدّد توما على ضرورة مشاركة الأطفال مشاعرهم ،والانتباه إلى المُتغيّرات الطارئة على سلوكهم كميل الطفل المفاجئ إلى الانطوائية أوالعصبية الزائدة،كما إنّه من الضروري أيضاً ملاحظة ما يُسمى باضطراب القلق كون الخوف هو حالة مرحلية فقط، لكن في حال استمر الخوف من المدرسة لأكثر من أسبوعين يُصبح من المهم البحث عن الأسباب الكامنة خلفه.حيث يتوجب على الأهل خوض حوار متواصل مع المدرسة،إدارةً ومعلمين، بغية لوقوف على خلفيات القلق الزائد عند بعض التلامذة أو الطلاب  .

أما إذا  بقيت الأمور على حالها، فتؤكد دارين على ضرورة استشارة أخصائي نفسيّ لمعرفة الأسباب العميقة للمشكلة، وصولاً الى معالجتها بالطرق العلمية. مع العلم أن الظروف العائلية،كانفصال الوالدين أو زواج الأب من امرأة ثانية بعد موت الأم ، والمشاكل بين الأهل ، قد تكون من الأسباب المباشرة لتنامي حالة القلق عند الطفل وصولاً الى انزوائه. فالثقة وفق توما، يستمدها الطفل من عائلته، فيما أن التوصل إلى الحلول واستعمال المنطق والتحليل لاجتياز العوائق، هو أمر  يكتسبه الطفل عن طريق العادة، كما عن طريق  الحب والتواصل والثقة المتبادلة بين أفراد الأسرة . أما الشعور بالغربة والضياع والخوف من الآخرين،فينتج عن تفكك العائلة وعجزها عن إيجاد الحلول لأزمات أفرادها .

أمّا المربية التقويمية ميرا المصري،فتَعتبر أن إغلاق المدارس في فترة كورونا، وممارسة التّعليم عن بعد،قد ضاعفا من نسبة القلق عند بداية العام الدراسي، سواء لدى الأهل أو لدى الأبناء في فترة الدراسة . ذلك أن تراجع المستوى الأكاديمي الناجم عن هذا النوع من التعليم،قد زاد نسبة خوف الأهل على أولادهم ، وبخاصة في المدارس الخاصة ، التي تتلقى مساعدات مالية وافرة دون أن تقدم لتلامذتها خدمات موازية . فالتلامذة يبذلون في بيوتهم جهوداً مضنية للتعويض عمّا فاتهم في غرف الصف ، أويُضطرون للجوء إلى معلمين مختصين لتلافي الرسوب في صفوفهم ، ممّا يضاعف أعباء ذويهم المادية ، وخاصةً في ظل تآكل قيمة الرواتب في الدول الفقيرة ، كسوريا ولبنان واليمن وغيرها

كما ترى ميرا المصري بأن التوتر يأخذ  شكلاً تصاعدياً لدى أهالي التّلامذة من ذوي الصعوبات التّعلميّة ، أو المُتعلمين الأضعف من أقرانهم في الصّفوف المختلفة .وسبب هذا التوتر يعود إلى معرفة هؤلاء المتعلمين مُسبقاً بمشاكلهم ، ووعيهم بصعوبة ما يَنتظرهم، في ظل التجارب الصعبة للسنوات السّابقة .

وتُضيف ميرا أن الأمراض الوهمية تكثر في عالم المُتعلمين الأضعف في صفوفهم، إذ أن المُتعلم يحاول طوال الوقت التهرب من السلطة المدرسية ،عبر القيام ببعض الحيل , كادّعاء المرض أو وفاة قريب له . وما يزيد الأمور تفاقماً هو تمييز المعلم بين تلاميذه ، وإعطاء الأهمية للمجتهدين والنابهين وحدهم على حساب الباقين ،ممّا يدفع الأخيرين الى الشعور بالوحدة والضياع . وقد يُصبحون مشاريع مشاغبين وفوضويين وهاربين من الصّفوف ، وبخاصة في حال تعرضهم للهزء والتنمر وسخرية الآخرين .

من هنا المنطلق , تَعتبر ميرا المصري بأن الحل يكمن في اللجوء إلى الأخصائيين النفسيين المُتواجدين داخل المدرسة أو خارجها كما تدعو الى ضرورة الاكثار من الدورات التّعليمية التي تمهد في الغالب لعام دراسيّ ناجح ، أما مساعدة  الأطفال المُصابين بالخوف، فتتم عبر اللجوء إلى الألعاب الترفيهية ،والعمل كمجوعات، لتبديد الهوة بين المتعلمين، والسماح لهم بالتّعبير عن مشاعرهم، إضافة الى العلاج بالفنون، سواء من خلال الرّسم ،أو الموسيقى ،أو التمثيل أو الشعر وغير ذلك .كما  يجب تفعيل دور المرشد التّربويّ في المدارس، بوصفه المعني بمناقشة مواضيع إجتماعية وتربوية مختلفة، لتوعية المتعلمين وتعريفهم الى حقوقهم وواجباتهم، وكيفية الدّفاع عن أنفسهم، وفقاً لميثاق حقوق الطّفل .

وتعتبر ميرا أنّ بعض الاهل يُعانون من الوسواس القهريّ، وهم لا يَستطيعون بالتالي السيطرة على  ما ينتابهم من مخاوف إزاء نتائج أولادهم ، وبخاصة بعد سنتين من الإقفال القسريّ ، وابتعاد الأولاد عن بيئة المدرسة , الأمر الذي انعكس توتراً مستمراً في سلوك الأطفال فباتوا يعتبرون الذهاب إلى المدرسة نوعاً من القصاص،وحل الفروض في المنزل ،عقاباً لا نهاية له.

وتختم المصري بالقول إن على المعلمين كما الأهل،مراعاة قُدرات الطفل ، والتعاطي معه بإيجابية، بعيداً عن التشنج والعصبية الزائدة،فهو لا يملك عصاً سحرية ليُصبح الأول في صفه أو لينتقل الى خانة التفوق . والأهل على نحو خاص مدعوون الى تقبّل أطفالهم، والى مساعدتهم من خلال تعزيز ميولهم وتحفيز قدراتهم الخاصة ،دون اللجوء للأساليب الضاغطة، والمحبطة للطرفين على السواء.

إن بداية الخريف،لا تخلو من المشاكل التي قد تُعكر صفوالأهل والطفل،لكنها في نفس الوقت، تعتبرمرحلة وقتية،قذ يتم تجاوزها بسلام،وهدوء،في حال التعاون لحل المشكلات،وذلك من خلال التّواصل،والحوار البّناء،داخل العائلة ومن خلال الإيجابية،سواء بالتّفكير أو السلوك.