حرب أوكرانيا: أوروبا بين الوحدة والانقسام

صراع بين التسوية والمواجهة وتناقض في المصالح والأجندات

محمد قواص

لم يكن يسيرا على الدول الأوروبية أن تقوم باستدارة سهلة في علاقاتها مع روسيا. يتعلق الأمر بعلاقات جيوستراتيجية بسبب التواصل الجغرافي من جهة وبسبب ما تركه التاريخ من جذور في تماسّ شعوب المنطقة على نحو لا ينسحب على تواصل روسيا مع دول أخرى في العالم. وإذا ما عاش الأوروبيون ينعمون في القرن الماضي بالطاقة المستوردة من الحقول الروسية حتى في عزّ الحرب الباردة، فإن مسألة القطيعة تطلّبت مخاضا عسيرا لم يكن من السهل عقائديا وسياسيا وأمنية واقتصادية الإقرار بضروراتها.

ولئن انقسمت أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية إلى شرق، موال للاتحاد السوفياتي متعلّق بالثقافة واللغة الروسيتين، وغرب أطلسي معاد لموسكو خلال الحرب الباردة، فإن الأمر للمفارقة اختلف هذه الأيام بسبب الحرب الروسية في أوكرانيا. فدول أوروبا الشرقية المنتمية حديثا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال

أوروبا تعتبر أن الحرب ضد أوكرانيا هي حرب ضد أوروبا

الأطلسي تبدو أكثر صقورية وتطرّفا في معاداة روسيا من دول أوروبية غربية، مثل فرنسا وألمانيا وإيطاليا، عبّرت عن مرونة ونادت باستمرار الحوار مع روسيا ودوام الوصل مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

وحدة الاتحاد الأوروبي

تعرّض الاتحاد الأوروبي لضغوط متصاعدة بسبب الحرب في أوكرانيا، تّظهر انقسامات داخل بلدان الاتحاد، حول سبل إدارة تكاليف الأزمة وطرق توفير موارد الطاقة بديلا عن تلك التي كانت توفّرها روسيا. وقد روّجت الأزمة لمعارضة المقاربة الأوروبية للأزمة الأوكرانية من قبل التيارات الشعبوية وأحزاب اليمين المتطرف كما من قبل قوى اليسار الراديكالي. وانقسم الأوروبيون بشأن الخيار العسكري المطلق دعماً لكييف أو استكشاف طرق خلاقة للتفاوض وعقد التسوية. وكان صعبا على أي مراقب رصد طبيعة هذه الانقسامات في السياسة والأمن والاقتصاد ومدى تطورها من خلال تطور الرؤى الأميركية لتلك الحرب.

فقد فرضت الحرب في أوكرانيا إمتحانا صعبا لم يكن متوقعا أمام بلدان الاتحاد الأوروبي بشأن إمكانية أن يشكل التكتل الأوروبي قوة موحّدة تجمع أجندات 27 عضوا. وكشف الحدث مدى تعدد وتنوع الخيارات الجيوسياسية التي تتعايش داخل الاتحاد سواء في السياسات الداخلية أو تلك المرتبطة بالعلاقات الخارجية شرقا وغربا.

وتمثّل هذه الحرب تجربة قاسية كان من شأنها أن تهدد استقرار الاتحاد بعد مفاجأة خروج المملكة المتحدة من التكتل الأوروبي إثر استفتاء عام 2016. استدركت الدول الأعضاء آنذاك خطورة تفكك الاتحاد وإمكانية أن تصيب عدوى الـ “بريكست” بلدانا أخرى، فعبّر الاتحاد عن موقف واحد متشدد في المفاوضات التي جرت بين بروكسل ولندن للتوصل إلى اتفاق في 24 كانون الأول (ديسمبر) 2020 لتنظيم العلاقة التجارية المستقبلية بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي. غير أن الاستحقاق الأوكراني اخترق هذا الانسجام وبات مادة سجال داخل بلدان الاتحاد وعاملا من عوامل التغيير في الطبقات الحاكمة.

عوامل الوحدة

الأول: الحرص على وحدة ومتانة الاتحاد الأوروبي في مقاربة الحدث والسهر على إخراج موقف موحد مهما استغرق أمر النقاش والسجال وتجنب أي تضارب في الرؤى من شأنه إضعاف الموقف الأوربي، وهو تمرين استدعى في كل مرة أياما طويلة من النقاش والتفاوض لإيجاد الأرضيات المشتركة.

الثاني: استنتاج علاقة ما بين الحرب في أوكرانيا والمخاطر الأمنية الاستراتيجية على بلدان الاتحاد، لا سيما تلك التي

جوزيب بوريل: أوروبا حققت في أسابيع ما لم تحققه خلال عقد

تقع على حدود أوكرانيا مباشرة. وفق ذلك تمّ بناء الموقف المتضامن مع كييف على أساس أن الحرب ضد أوكرانيا تمثّل أيضا تهديدا مباشرة لأمن وسلامة بقية دول الاتحاد الأوروبي، وهو جانب سهل تسويقه في الأسابيع الأولى الحرب وبات تسويقه أقل جذبا في الأسابيع الماضية.

الثالث: السعي لانتهاج موقف يأخذ بالاعتبار علاقات المنطقة جغرافيا مع روسيا بغضّ النظر عن موقف الولايات المتحدة من البلدين. لكن هذا السعي لم يُظهر تناقضا حادا مع الموقف الأميركي بسبب جهود رأب الصدع التي بذلها الرئيس الأميركي جو بايدن مع الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي في حزيران (يونيو) 2021، بعد الفتور في العلاقات في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، وبسبب القناعة المشتركة الأوروبية الأطلسية الأميركية بأن الخلاف مع روسيا بات عسكريا وأن خطر الحرب في أوكرانيا يطال المنظومة الأوروبية الغربية برمتها.

الرابع: يتعلق بخريطة العقوبات التي تُفرض على روسيا والسياسيات المتّخذة للتعامل مع أزمة الطاقة، سواء بالتخلّص من واردات الطاقة الواردة من روسيا أو البحث عن البدائل الموضوعية في السوق العالمي. وعلى الرغم من إدراك الأوروبيين لقدرة روسيا على مواجهة عقوبات الطاقة من خلال فتح أسواق جديدة والتعامل بمرونة مع سياسة الأسعار، إلا أن القرار الأوروبي الصعب بالتخلص تدريجيا من الارتهان للطاقة الروسية اعتبر تحولا تاريخيا، وذلك بالنظر إلى علاقات اقتصادية قديمة بين دول الاتحاد والسوق الروسي من جهة، وبالنظر إلى انكشاف أوروبا لموارد الطاقة الروسية بنسب تصل في بعض الدول إلى حد التبعية الطاقوية الكاملة، وهو ارتهان يعود إلى حقبة الاتحاد السوفياتي ولم يهدد أمن أوروبا من الطاقة في عزّ الحرب الباردة.

ووفق تلك العوامل التي تحمل تناقضات بنيوية بين الدول الأعضاء، نجح الاتحاد الأوروبي في إظهار تماسك جيوستراتيجي، من حيث التعاون الجماعي في التصدي لتداعيات الحرب الاقتصادية، وتقديم الدعم المالي والسياسي والعسكري لأوكرانيا، وفرض حزمات متلاحقة من العقوبات على روسيا، وفتح الحدود أمام اللاجئين الأوكرانيين، والموافقة على اقتراح الحلف الأطلسي بزيادة ميزانيات الدفاع بنسبة 2 بالمئة من الناتج المحلي الاجمالي.

تحوّلات أوروبا

أظهر الاتحاد الأوروبي في المراحل الأولى من الحرب زخما وحدويا وحزما مشتركا في التعامل مع حدث الحرب. في غضون أسابيع قليلة أقرت بروكسل أوسع عقوبات ممكنة ضد روسيا. وسارعت الحكومات الأوروبية إلى اتخاذ إجراءات دفاعية، كان أبرزها قيام ألمانيا بإضافة 100 مليار يورو إلى ميزانيتها العسكرية، ما شكّل انقلابا في عقيدة ألمانيا الدفاعية منذ الحرب العالمية الثانية. وسهل الاتحاد الأوروبي نقل الأسلحة إلى أطراف ثالثة لأول مرة منذ 65 عاما. كما وافق الاتحاد على توفير الحماية المؤقتة لملايين اللاجئين الأوكرانيين، بما في ذلك إمكانية تنقلهم وتوظيفهم في جميع أنحاء أراضي الاتحاد الأوروبي. كما أن مجلس أوروبا دعم في 23 حزيران (يونيو) 2022  منح وضع

الرئيس الفرنسي والمستشار الألماني: التمسك بالحوار مع بوتين

الترشح لأوكرانيا ومولدوفا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وعلى هذا بدا الأتحاد الأوروبي في أوائل ربيع 2022 أكثر اتحادًا من أي وقت مضى ومستعد لمواجهة التحدي المتمثل في الغزو الروسي لأوكرانيا.

ولم يكن يسيرا توقّع هذا المستوى من التآلف بين 27 دولة تختلف، في العقائد بين أوروبا غربية وشرقية، وفي مستوياتها الاقتصادية بين شمال وجنوب، وفي مسارات علاقاتها التاريخية مع روسيا. غير أن شعورا جماعيا قد اجتاح دول الاتحاد في الأسابيع الأولى للحرب بالخطر الذي تشكله طموحات روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين على أمن المنطقة، لا سيما أن الخطاب الذي ألقاه الزعيم الروسي في 21 شباط (فبرابر) 2022، أي قبل يومين من بدء الحرب ضد أوكرانيا كان يلمح إلى إعادة الاعتبار إلى روسيا السوفياتية والقيصرية، وهو أمر يقوم على نظريات كانت تروج في روسيا خلال السنوات الأخيرة.

وعلى الرغم من تعدد الرؤى التي ترقى إلى حدود الانقسام لاحقا في مقاربة ملفات تفصيلية، إلا أن الحرب في أوكرانيا أيقظت حاجة أوروبية إلى تعظيم مكانتها الجيوستراتيجية، والسعي لأمن مستقل لم ينجح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في التسويق له قبل ذلك. حتى أن جوزيب بوريل، الممثل الأعلى للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية في الاتحاد اعتبر أنه “في الأسبوع الذي أعقب الغزو الروسي، شهدنا ولادة متأخرة لأوروبا الجيوسياسية. لسنوات، ظل الأوروبيون يناقشون كيف يمكن جعل الاتحاد الأوروبي أكثر قوة ووعيًا بالأمن، مع وحدة الهدف والقدرات لمتابعة أهدافنا السياسية على المسرح العالمي. يمكن القول الآن أننا سلكنا هذا المسار في الأسبوع الماضي أكثر مما فعلناه في العقد الماضي”.

ومع ذلك، فإن التفاؤل بولادة أوروبا قوية مستقلة يبقى مبالغة، أو على الأقل لا توحي الوقائع بهذا الاحتمال. فعلى الرغم من موقف الاتحاد المتشدد ضد روسيا ودعمه المطلق لأوكرانيا، إلا أن أوروبا حرصت على عدم الدخول مباشرة في الصراع وعدم إرسال أنواع من الأسلحة يمكن أن تعتبر تدخلا عسكريا أوروبيا أو أطلسيا في المعركة. بالمقابل أظهرت دول الاتحاد خلافات في التعامل مع الطاقة الواردة من روسيا، سواء في استمرار بعض الدول في الاعتماد على الموارد الروسية أو غياب التنسيق الجماعي في سياقات التخلص من الاعتماد على واردات الطاقة من روسيا. وكان لافتا أن شركات أوروبية ما زالت تعمل في روسيا على الرغم من موجات العقوبات التي صدرت عن بروكسل ضد روسيا. ويضاف إلى ذلك أيضا اندلاع سجال داخل بلدان المنطقة حول جدوى استمرار دعم أوكرانيا ودرس سبل رعاية أوروبا لتسوية سياسية مع روسيا تنهي هذه الحرب.

التعدد والتصدّع

بالامكان مراقبة تصدّع نسبي لوحدة الموقف الأوروبي بعد 12شهرا على اندلاع الحرب في أوكرانيا. لكن ذلك التصدّع يبقى نسبيا ويعود إلى تأثر الدول الأعضاء بالرأي العام الداخلي ونتائجه الانتخابية، وتحوّل الموقف من الحرب إلى مادة مزايدات شعبوية تستخدمها الأحزاب والتيارات السياسية، لا سيما تلك اليمينة المتطرفة واليسارية الراديكالية. لكن أمر الانقسام في مواقف دول الاتحاد يعود أيضا إلى كلفة هذه الحرب التي تضغط بشكل حاد على مستويات التضخم وأسعار الوقود وظواهر الركود، ما أنعش أسئلة حول صحة نظرية أن الحرب في أوكرانيا هي حرب كل الأوروبيين، وعظّم الشكوك حول أجندة الولايات المتحدة واستفادتها منها من جهة وأجندة أوكرانيا برئاسة فلوديمير زيلنسكي من جهة أخرى، وقلل الإيمان بقدرة أوروبا على الحفاظ على استقلاليتها.

وأظهرت العواصم الأوروبية مجموعة من الأعراض التي كشفت عن بداية تباين مفصلي في إدارة الصراع حول أوكرانيا وتخوف من عدم استمرار توفّر وحدة الاتحاد بشأن ملفات أخرى. وتوفّر الواجهات التالية عيّنات من لهذا الانقسام ومنافذ تطوره:

عبّرت ألمانيا عن واجهات تردد في إرسال شحنات الأسلحة إلى أوكرانيا.-

-الأزمة الأوكرانية تقف وراء سقوط حكومة ماريو دراغي في إيطاليا في يوليو 2022 وانتصار حزب “إخوة إيطاليا” الشعبوي بقيادة جورجيا ميلوني في أيلول (سبتمبر)، وازداد حراك التيارات الشعبوية الأوروبية في معارضة الدعم الأوروبي لأوكرانيا والدعوة إلى مقاربة أخرى في العلاقة مع روسيا.

-أدى الضغط الاقتصادي المتزايد إلى عواقب سياسية مقلقة في بلدان مثل إيطاليا وفرنسا، واستغلت الأحزاب الشعبوية والقومية اليمينية تكاليف الحرب للتأثير على الرأي العام. وتجتمع هذه التيارات على فكرة مفادها أن معاقبة روسيا غير فعالة، وأن فرضها من قبل الحكومات والمؤسسات الأوروبية يساهم في إشعال نار التضخم وإفلاس الصناعات

اتفاق أوروبي على تزويد أوكرانيا بالدبابات

وتدمير الوظائف في أوروبا.

-للمفارقة فإن  قوى اليمين والمتطرف واليسار الراديكالي تجتمعان من دون أي اتفاق على إدانة السياسات المحلية والأوروبية التي تساهم، وفق رؤاها، في تغذية استمرار الأزمة الأوكرانية وهو رأي لطالما صدر عن موسكو في تقييمها للموقف الغربي عامة.

-مكّن الموقف من الحرب في أوكرانيا من تقديم حزبا اليمين المتطرف واليسار الراديكالي أداءً قوياً في الانتخابات الرئاسية الفرنسية في نيسان (أبريل) 2022، وهو أداء أعيد تأكيده في ما حققه الحزبان من نتائج في الانتخابات التشريعية في حزيران (يونيو) 2022 .

-بدا أن مواقف هنغاريا الودود مع روسيا مثلا تتناقض مع الموقف الصقوري لبولندا التي تفتح فجأة ملف تعويضات الحرب العالمية الثانية مع ألمانيا منتقدة مواقفها المتراخية مع روسيا. وانعكس هذا التصدّع غير المعلن في طول الوقت الذي بات تستغرقه مداولات المسؤولين الأوروبيين لفرض حزمة جديدة من العقوبات.

التشدد والمرونة

وفي رصد خطوط الصدع داخل الاتحاد الأوروبي يسهل ملاحظة التمايز بين شرق وغرب أوروبا.

وكان منطقيا استنتاج موقف متشدد من قبل دول مجاورة لأوكرانيا، مثل دول البلطيق وبولندا، بالمطالبة بفرض أشد العقوبات على روسيا وزيادة الدعم العسكري لأوكرانيا. وتفسير تناقض الجغرافيا يرتبط بالهاجس الأمني المباشر الذي تعاني منه الدول المجاورة لأوكرانيا والمعرّضة جغرافيا لتمدد أسهل للطموحات الروسية، ويفسّر دعم هذه الدول المطلق لمطالب أوكرانيا في انسحاب كامل للقوات الروسية قبل الشروع في أية مفاوضات.

بالمقابل فإن الضغوط الاقتصادية هي التي تحرّك ديناميات الدول البعيدة جغرافيا عن ساحة الصراع لتشجيع التسوية وإنهاء الحرب. فدول غرب أوروبا، مثل فرنسا وألمانيا وإيطاليا، تبدو أكثر ميلا نحو نسج تسوية ورعاية تفاهم مع روسيا.

وتظهر خطوط الصدع أيضا في انقسام جغرافي بين شمال وجنوب لا يتعلق مباشرة بالجانب الأمني للحرب، بل بفوارق مستوى تداعياتها الاقتصادية. والواضح أن الفجوة التي قسّمت منطقة اليورو خلال أزمة الديون اليونانية قبل عقد من الزمان، ما زالت مرجّعا حول تباين مستويات الدخل القومي بين الجهتين الجغرافيتين. فأكلاف تداعيات الحرب الأوكرانية من تضخم وركود وبطالة وأسعار طاقة ستختلف بين دول الاتحاد، بحيث أن تكلفة أسعار الفائدة على الديون بين دول الجنوب والشمال في الاتحاد الأوروبي، لا سيما بين ألمانيا وإيطاليا مثلا، شديدة التفاوت. الأمر الذي يهدد انسجام الدول الأعضاء في الحفاظ على نظرة واحدة إلى الحرب الأوكرانية.

التسوية أوالحرب

ينقسم الأوروبيون حول كيفية مقاربة الموقف من الحرب في أوكرانيا. ولئن تدعو تيارات سياسية يمينية ويسارية إلى السعي للتفاوض وإيجاد تسوية، فإن الأمر ما فتئ يدافع عنه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتز. وعلى الرغم من ثبات موقف باريس وبرلين في تحميل موسكو مسؤولية الحرب في أوكرانيا ودعم استمرار تدفق الدعم الأوروبي العسكري والمالي لكييف، غير أن تبني فرنسا وألمانيا، وهما عصب المشروع الأوروبي، لخيار التسوية واستمرار التواصل مع بوتين يشكل رافعة للتحضير لطاولة مفاوضات تتحرى نقطة توازن بين طموحات الطرفين المتحاربين. وكان اتصال شولتز بالرئيس الروسي في 2 كانون الأول (ديسمبر) 2022 قد أثار جدلا حول نجاعة هذه الاتصالات على الرغم من تمسك شولتز بشرط الانسحاب الروسي لأي مفاوضات.

والظاهر أن انتقال الجدل إلى الولايات المتحدة في شأن الشروع في عملية تسوية قد شجع المقاربة الفرنسية الألمانية وجعلها أكثر صدقية في مباشرة تحوّل من هذا النوع. ويعتمد استنتاج الأعراض الأميركية بهذا الاتجاه على تواصل يجري بين موسكو وواشنطن بعضه يأخذ أشكالا معلنة كالاجتماع الذي ضمّ دبلوماسيين من روسيا والولايات المتحدة في اسطنبول في 9 كانون الأول (ديسمبر) 2022.

وينبغي هنا الإشارة إلى أنه في 15 تشرين الثاني (نوفمبر) 2022 وإثر سقوط صاروخ داخل بولندا العضو في الحلف الأطلسي، سارع الرئيس جو بايدن، وكان حينها في بالي لحضور قمة الـ 20، إلى التشكيك في رواية زيلنسكي حول أن الصاروخ روسي المصدر، ما دفع الرئيس الأوكراني لاحقا إلى تصويب موقفه السابقة مصرحا بأنه لا يعرف ماذا جرى. وكشف موقف بايدن حرص واشنطن على عدم التورط والانجرار إلى حرب كبرى من جهة، وعدم حرق إمكانات التفاهم والتسوية التي توضع خرائطها المحتملة من ناحية أخرى.

وكان لافتا قبل ذلك ما كشف في 7 تشرين الثاني (نوفمبر) 2022 عن محادثات سرية أجراها مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان مع نظيره الروسي يوري أوشاكوف ىهدف خفض التوتر وتجنب تصاعد الحرب في أوكرانيا إلى صدام نووي. تزامن هذا التطور مع زيارة قام بها سوليفان  إلى كييف من أجل جسّ إمكانات بناء هيكل مفاوضات تأخذ بالاعتبار دعم موقف أوكرانيا على طاولة المفاوضات المحتملة.

وتنهل الإدارة الأميركية إمكانات التبدل في موقفها من نتائج الانتخابات النصفية في تشرين الثاني  (نوفمبر) 2022 والتي دعّمت في مجلس النواب الأميركي من رقابة الحزب الجمهوري على كلفة المساعدات العسكرية الأميركية المرسلة إلى أوكرانيا. لكن اللافت في الموقف الأميركي هو ذلك الذي صدر عن المؤسسة العسكرية. فقد أعلن الجنرال مارك ميلي رئيس هيئة الاركان المشتركة للجيش الأميركي في 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 2022 أن “احتمال نجاح أوكرانيا عسكريا في دفع روسيا للانسحاب من كامل الأراضي الأوكرانية التي تحتلها ضئيل”، ملمحا الى “نافذة تسوية بعد الشتاء”.

وفيما سعى البيت الأبيض إلى التقليل من وقع تصريحات ميلي على العلاقة مع كييف، فإن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حمل أثناء زيارته لواشنطن في 30 تشرين الثاني (نوفمبر) 2022 رؤاه للتفاوض بما في ذلك تقديم ضمانات أمنية مثيرة للجدل لروسيا داخل نظام أمني أوروبي، خصوصا وأن الرئيس الأوكراني سبق أن طرح مسألة حياد بلاده كأساس لتسوية مع موسكو. وقد استطاع الرئيس الفرنسي انتزاع موقف من نظيره الأميركي في 1 كانون الأوب (ديسمبر) 2022 يؤكد فيه بايدن استعداده للجلوس مع بوتين، وهو موقف أعاد تصويبه البيت الأبيض بالتصريح بأن  أمرا كهذا سيتم “حين يكون الوقت مناسبا”.

أوروبا الموحدة

استطاع الاتحاد الأوروبي في الأسابيع الأولى للحرب في أوكرانيا إظهار وحدة وتماسك حيال الموقف من أوكرانيا وروسيا كان يحتاجهما لتأكيد لحمته منذ أزمة البريكست مع بريطانيا.

وظهرت الانقسامات في صفوف الاتحاد لاحقا بسبب كلفة الحرب على الاقتصادات، وعملية التخلص التدريجي من موارد الطاقة الروسية، وتفاوت المصالح بين البلدان الغنية والأقل ثراء، واختلاف الهواجس الأمنية بين دول أوروبا الشرقية والغربية. وسببت الحرب رواجا للتيارات الشعبوية وأحزاب اليمين المتطرف الذين التقوا في الرأي مع تيارات اليسار الراديكالي في مقاربة مختلفة للأزمة تشمل التفاوض مع روسيا.

وعلى الرغم من تنامي ظهور أعراض النزوع نحو التسوية وفق رؤى الرئيس الفرنسي والمستشار الألماني مؤثّرة ومتّأثرة بظهور مؤشرات في الولايات المتحدة بهذا الاتجاه، إلا أن أوروبا ما زالت على منوال الولايات المتحدة تجد أن روسيا غير جاهزة للمفاوضات وأن موسكو ما زالت تعوّل على نتائج ميدانية داخل أوكرانيا بالإمكان فرضها على طاولة أية مفاوضات محتملة.

ويأتي قرار ألمانيا وفرنسا وبولندا وغيبرها من داخل الاتحاد الأوروبي وبريطانيا من خارجه بإرسال دبابات إلى أوكرانيا متّسقا داخليا ويعبّر عن قناعة جماعية بضرورات التصعيد والمواجهة لمنع روسيا من تحقيق انتصار في أوكرانيا سيكون انتصارا على أوروبا والمنظومة الغربية. ويندرج هذا التطور في سياق تآلف أطلسي كامل بين أوروبا والولايات المتحدة في مواجهة مشتركة لوقف الحرب الروسية. ويمثّل هذا الاتفاق الأوروبي الداخلي على دعم التحالف مع الولايات المتحدة عاملا يلقى تأييدا من كافة دول الاتحاد الأوروبي وعاملا داعما من عوامل وحدة الاتحاد وصلابة بنيانه.

ولئن انقسمت أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية إلى شرق، موال للاتحاد السوفياتي متعلّق بالثقافة واللغة الروسيتين، وغرب أطلسي معاد لموسكو خلال الحرب الباردة، فإن الأمر للمفارقة اختلف هذه الأيام بسبب الحرب الروسية في أوكرانيا. فدول أوروبا الشرقية المنتمية حديثا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي تبدو أكثر صقورية وتطرّفا في معاداة روسيا من دول أوروبية غربية، مثل فرنسا وألمانيا وإيطاليا، عبّرت عن مرونة ونادت باستمرار الحوار مع روسيا ودوام الوصل مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

كان منطقيا استنتاج موقف متشدد من قبل دول مجاورة لأوكرانيا، مثل دول البلطيق وبولندا، بالمطالبة بفرض أشد العقوبات على روسيا وزيادة الدعم العسكري لأوكرانيا. وتفسير تناقض الجغرافيا يرتبط بالهاجس الأمني المباشر الذي تعاني منه الدول المجاورة لأوكرانيا والمعرّضة جغرافيا لتمدد أسهل للطموحات الروسية، ويفسّر دعم هذه الدول المطلق لمطالب أوكرانيا في انسحاب كامل للقوات الروسية قبل الشروع في أية مفاوضات.

بالمقابل فإن الضغوط الاقتصادية هي التي تحرّك ديناميات الدول البعيدة جغرافيا عن ساحة الصراع لتشجيع التسوية وإنهاء الحرب. فدول غرب أوروبا، مثل فرنسا وألمانيا وإيطاليا، تبدو أكثر ميلا نحو نسج تسوية ورعاية تفاهم مع روسيا.

التفاؤل بولادة أوروبا قوية مستقلة يبقى مبالغة، أو على الأقل لا توحي الوقائع بهذا الاحتمال. فعلى الرغم من موقف الاتحاد المتشدد ضد روسيا ودعمه المطلق لأوكرانيا، إلا أن أوروبا حرصت على عدم الدخول مباشرة في الصراع وعدم إرسال أنواع من الأسلحة يمكن أن تعتبر تدخلا عسكريا أوروبيا أو أطلسيا في المعركة. بالمقابل أظهرت دول الاتحاد خلافات في التعامل مع الطاقة الواردة من روسيا، سواء في استمرار بعض الدول في الاعتماد على الموارد الروسية أو غياب التنسيق الجماعي في سياقات التخلص من الاعتماد على واردات الطاقة من روسيا. وكان لافتا أن شركات أوروبية ما زالت تعمل في روسيا على الرغم من موجات العقوبات التي صدرت عن بروكسل ضد روسيا. ويضاف إلى ذلك أيضا اندلاع سجال داخل بلدان المنطقة حول جدوى استمرار دعم أوكرانيا ودرس سبل رعاية أوروبا لتسوية سياسية مع روسيا تنهي هذه الحرب.