خير الدين حسيب.. الرجل والدور والتاريخ

الفضيلة هي المعرفة.. عبارة تتسم بالحكمة وبعد النظر، وبالتأكيد لايبحث عن الفضيلة في دروب المعرفة الا من تتسم خصاله بعمق الأدراك. ان أهم رسالة للأنسان الحكيم هي التنويرفي الفكرواضاءة المصابيح في العقول، ومحاربة الجهل كأبشع أنواع المرض التي يبتلى بها الأنسان. اذا أضيف الى تلك السمات، محاولة أخرى لرسم الطريق نحو الأفضل لأمة ننتمي اليها، وعانت كثيرا من التهديد للأمن الى سرقة للثروات ان لم يكن للأوطان ذاتها واستلاب العقول، ومن محاولات السيطرة والتوغل في الأستبداد تكون الهمة أكبر والرسالة أسمى، وهكذا يمكن ان نلخص في ذلك الاطار مسيرة رجل يعد واحدا من أصحاب القيمة والقامة الرفيعة، وهو خير الدين حسيب بلا أي ألقاب.

حين تطل على مسيرته، سوف تجد التميز يلف خطواته، وان حاولت ان تسبر غوره في اتجاهاته الفكرية والعقائدية، فسوف تجدها بلا عناء في انجازاته القومية ذ وهي واضحة ان لم تكن صارخة ذ وقد نسجها وغزلها وجسدها وفق قناعاته، وكان )مركز دراسات الوحدة العربية والمؤتمر القومي العربي( ومعه رفاق لامعون.. رجال أشداء من صفاتهم الثراء في الفكر، والقناعة بالموقف والجرأة في المبادرة والحركة، وعلى ذلك فهو كتاب مفتوح، حروفه كبيرة لاتجهد النظر، وسطوره متسقة، يحكمها الترتيب، وكلماته لامعة من فرط مافيها من وهج الصدق في التعبير، ومدى العمق في التفكير. شديد البساطة في المظهر، فهو رغم انجازه العلمي كحاصل على الدكتوراه من الجامعات البريطانية، فهو لايذكرها في تعريفه أو حتى في توقيعه وأقدر في ذلك لأنه ليس في حاجة الى تعزيز في التقديم أو الى المهابة في التوقيع، ويكفي أن يذكر اسمه فقط لكي يحصل عليهما معا التعزيز والمهابة ومعهما أيضا الأحترام والتقدير فموقفه وقناعاته ثم انجازه ومثابرته هي بطاقته الحقيقية للنخبة كما للمجتمع وللناس، وللوطن والأمة على السواء.

خيرالدين.. رحلة الأيام والوعي

سمة رئيسية في مرحلة التكوين للشخصية، وهي مدى التفتح على مايحيط بالمجتمع من قضايا، وما تثار فيه من أزمات أوتعترضه من معوقات، وان كان ذلك يمثل أحداثا عابرة لايلتفت اليها بعض الشباب، حتى وان كان وقعها مثيرا للحزن أويترك في النفس ظلالا من الشجن، الا انه يشي للبعض الآخر بأحداث جلل، واشارات تنبئ بكوارث قاطعه ومؤلمة، ان لم تكن براكين متفجرة. لقد لعبت احداث فلسطين دورا في تشكيل وعي الكثير من شباب الأمة العربية، فقد كانت بجدارة نكبة حقيقية تعلو كوارث الأستعمار، فلم تكن مجرد احتلال، وانما كانت سرقة واغتصاب بالقوة المسلحة، وباستخدام أساليب تقشعر لها الأبدان. كان عمر خير الدين حسيب في تلك الفترة 19 سنة اذ أنه من مواليد الموصل عام 1929، ورغم أن ظروفه الخاصة كان يمكنها أن تتملكه، وأن تستحوذ على اهتماماته، وينغلق عليها، ولكنه كان أوسع أفقا وأرحب صدرا. كان والده قد رحل بعد ميلاده بخمسة عشر يوما، وتولى جده رعايته، وكان الجد نموذجا حيا للترابط الأسري من حيث الأهتمام بواجبات الرعاية وأصولها للحفيد الذي فقد الأب، وعلى ذلك وجد الحفيد لدى جده كما مضاعفا من التدليل بل ومن الأقتراب الى حد الألتصاق، فهو حاضر في كل المجالس، وهو المفوض الأثير لدي عواطف الجد وحنانه، حين يقوم بنقل مطالب الصغار الآخرين من الاحفاد اليه، بل ان وساطته لهم تضمن التنفيذ الكامل لكل الرغبات. كانت الأسرة ذات ثراء، وتمتلك من الأراضي والدواب مايضمن لها بحبوحة العيش، لكن تقلبات الأيام في بعض الأحيان تشكل أقدارا لافكاك منها، وتلعب أدوارا في حياة البشر لامخرج عنها الا بالمواجهة الجسورة قبالتها، وهكذا كان خير الدين حسيب مقاتلا أمام ظروف قد طرأت وحسابات قد اختلفت منذ مطلع شبابه، فقد مرض الجد، ونال منه المرض، وطال علاجه مما

الدكتور خير الدين حسيب بصمة لامعة في تاريخ الحركة القوميه
الدكتور خير الدين حسيب بصمة لامعة في تاريخ الحركة القوميه

استنزف الأسرة، فاضطرت الى التضحية بما تملك فداءا للرجل، وكما يمليه عليها الواجب، وهي عائلة تعرف قيمة الأواصر بين أفراد الأسرة، وظلت على رعايته الى ان توفي وانتقل الى رحمة الله، بعد ان انهى خير الدين المرحلة الثانوية في مشواره التعليمي، واضطر بعدها الى النزول الى ساحة العمل مؤازرة للعائلة، ومعاونة لها فعمل بوظيفة في )المتصرفيه( وهي تعني الدائرة المركزية للحكومة بما يسمى الآن )محافظة( براتب قدره 11 دينارا، وانتقل بعدها الى العمل في قسم التفتيش الأداري في وزارة الداخلية في العاصمة بغداد، واستمر في دراسته حتى نال اجازته الجامعية من بغداد عام 1954، ودفعه طموحه ودأبه على مواصلة دراساته العليا في مدرسة الأقتصاد في لندن، ثم انتقل بعدها الى جامعة كمبريدج حيث نال شهادة الدكتوراه في المالية العامة. تجدر الأشارة الى جهاده الدراسي ومدى مثابرته، فهو يمتلك طاقة قتالية تمكنه من تغيير الواقع المفروض، الى مرتبة أخرى يستبدل فيها الواقع بالأختيار، ففي مرحلته الجامعية في بغداد لم تساعده الظروف لكي يواصل مشواره الجامعي الا بعد افتتاح قسم مسائي في )كلية التجارة( عام 1950، وفي السنة الدراسية الأولى كانت نسبة حضوره قليلة، بعكس سنواته الدراسية اللاحقة، فقد انكب على الدراسة بشكل أكثر تركيزا، وكانت ثمار ذلك أن ترتيبه في النتائج النهائية للتخرج كان )الأول(، مع ملاحظة أنه ظل عامين خارج الحقل الدراسي بعد حصوله على الثانوية العامة عام 1948، وهو نفس العام الذي يذكره بقوله )أنا من جيل تفتح وعيه على نكبة فلسطين عام 1948(. هكذا عاش ظرفه الاجتماعي، وعايش المأساة العربية التي حدثت على أرض فلسطين. عقلية جامعة، يشغلها ظرف خاص، ولكنها واعية تماما للظرف العام، وللمحنة التي نالت من الأمة على التراب الفلسطيني.

كانت رسالته للحصول على شهادة الدكتوراه تحت عنوان )تقدير الدخل القومي في العراق( من جامعة كمبريدج البريطانية، ووفقا لمعاييره في التفكير، لم تنفصل حياته الخاصة، والعناية بمستقبله عن اهتماماته الوطنية والقومية، فاندفع بطاقته في العمل العام وفق المنهج الطلابي، ليصل بحجم الثقة التي نالها الى موقع نائب رئيس )اتحاد الطلاب العرب(. تطلبت منه رسالة الدكتوراه التي يسعى اليها إعداد دراسة ميدانية على الطبيعة حتى تكون وفق رؤية حديثه، ومرجعية تستمد تفاصيلها من مصادرها الطبيعية. لذلك كان قراره العودة للعراق عام 1957. هناك تحرك الى العديد من المناطق التي تخدم رسالته، ورأى مرأى العين صورا وحالات لم يصادفها من قبل، بل لم تتطرق الى خياله أصلا، وجد حياة لبعض البشر، شكلت منهم أشباحا، لاينتمون لعالم الأحياء، هياكل عظمية تسير على الأرض، فقر مدقع، وحياة شديدة الخشونة، ففي أحد الأهوار شاهد رجلا عاريا يزرع الأرز تحت وهج الشمس الحارقة بدرجة حرارة تصل الى أكثر من خمسين درجة مئوية، وفي هور آخرالتقى بمواطنين لم تشملهم الأحصاءات السكانية الأولى في العراق، وفلاحين لاتصلهم مياه نقية للشرب، بمعنى آخر وقف مشدوها وجها لوجه أمام مواطنين تحت خط الفقر، يقاتلون من أجل البقاء على قيد الحياة، رأى حياة المهمشين أو بتعبير أدق المعذبين في الأرض، وفي ذلك يقول )كان لهذا النوع من الفقر تأثير كبير على نظرتي للأمور، وكانت بداية لتوجهي التقدمي( وهنا يتوقف عند الشاعر يوسف الصايغ وديوانه )الخبز مع الكرامة(والتي صارت شعارا لـ )مركز دراسات الوحدة العربيه( الذي قام بتأسيسه عام 1975.

عين بعد عودته رئيسا ل)شعبة الأحصاء والأبحاث( في شركة النفط العراقيه( ُثم نقل للعمل في هيئة التدريس بجامعة بغداد عام 1961، وبعدها تم اختياره مديرا عاما لأتحاد الصناعات، ثم تولي منصب )محافظ البنك المركزي(. قبل ان نستطرد في مسيرة الرجل علينا ان نتذكر دائما، أن الرجل يتفاعل مع خطواته الخاصة في اطار تفاعله مع قضايا مجتمعة وأمته، فقد عاصر الثورة العراقية عام 1958 التي كانت انفجارا مدويا في المنطقة له تداعياته، وما تلاها من صراعات بين القوى السياسية، والمنظمات القومية والأيدولوجية، ويأتي عام 1964 لتعلن التشريعات الأشتراكية في العراق، وتقوم على أثرها مؤسسات اقتصادية تتولى التخطيط لقيام مجتمع جديد، ينشر أشرعته في التنمية والتطور وعلى أسس من الكفاية في الأنتاج والعدالة في التوزيع. كان خير الدين حسيب يتابع مدى التطور الذي تقوم به مصر تحت القيادة الناصرية، من تأميم القناة الى خوض معركة العدوان الثلاثي الى تمصير الشركات الأجنبية الى قيام الوحدة المصرية ذ السورية، وجريمة الانفصال الى بناء السدالعالي، وبتوجهه القومي اجتهد أثناء عمله محافظا للبنك المركزي في بغداد على تقديم قرض الى مصر تساهم به في خطط التنمية، في نفس الوقت الذي كان يحارب فيه سيطرة الشركات الأجنبية على ثروة العراق من نفط أو كبريت وما الى ذلك. هذه الحركة الدؤوب والجهد المخلص المتواصل لم يمنع من وجود من يتربص بالرجل أو يكيد له والى الحد الذي وجد نفسه في نهاية الامر، وقد أصبح نزيلا في السجون عام 1968 ويتنقل بين أربعة سجون على مدى تسعة شهور تعرض فيها لمعاملة بشعة قاسى من آثارها الكثير من الآلآم، وان كانت لم تفت من صلابته وثباته. خرج من السجن ليعود الى صفوف الجامعة في هيئة التدريس، ولكن الأمور لم تستو، ويجد نفسه في بيروت بعد ان قبل العمل في اللجنة الأقتصادية التابعة للأمم المتحدة.

لبنان.. والمرحلة أخرى

تعد المرحلة التي انتقل فيها الدكتور خير الدين حسيب الى لبنان عام 1974 هي مرحلة النشاط الفكري الدعوي لتصحيح المسارات، وأتذكر عام 1982 تقريبا وقد حاول أن يقيم ندوة حول قضية الديموقراطية فلم يجد عاصمة عربية تقبل بعقد هذه الندوة على أرضها، ولذلك قام

نموذج من اصدارات مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت
نموذج من اصدارات مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت

بالأشتراك مع مؤسسة أخرى بعملها في )ليماسول( في قبرص، وجدير بالذكر أن هذه الندوة تحديدا ساهمت في طرح قضية )حقوق الأنسان في العالم العربي( وبدأ العمل على الترويج لتلك الفكرة، وقد نجحت في ميلاد تلك المؤسسة، بل تشكلت بعد ذلك العديد من المؤسسات التي تعني بتلك القضية. كما قام أيضا في فترة الثمانينات بعمل ندوة )ثورة 23 يوليو( في القاهرة بالأشتراك مع )دارالمستقبل( ادارة قيادة لها تاريخ ايضا وهو الأستاذ محمد فائق وزير الأعلام في العهد الناصري. وكانت الندوة جامعة لشخصيات عربية متعددة، والمعروف أن ثورة يوليو عانت الكثير في العهد الساداتي، وصلت الى حد الردة عن الخط الناصري. اصدارات مركز دراسات الوحدة العربية، صدرت وتعددت عبر عقود من الزمن، وتنوعت وأبحرت في قضايا الأمة العربية، كما انها صدرت لتعيش وتؤثر وتعد مراجع ذات قيمة في تشكيل الفكر القومي الوحدوي وفي تأكيده وترسيخه كضمان لوحدة الأمة، ومن ثم لنهضتها، وكما واصلت اللقاءات والندوات، فانها أيضا أثمرت نقاشات جادة وعميقة، بعد أن تهافت الفكر وسطحت القضايا وكان من أبرز شواهدها محاولات شق الصف العربي، واحتواء الكيان الصهيوني. ثمار الدكتور خير الدين حسيب ساهمت على نحو آخر جدير بكل التنويه في انشاء )المؤتمر القومي العربي( وكذلك )المؤتمر القومي ذ الأسلامي( وتكفل مركز دراسات الوحدة العربية بالقيام بالكثير من الأعباء ومنها كتيب )أحوال الأمة( الذي كان يتطوع بتكليف أحد الباحثين بانجازه لكي يوزع على أعضاء المؤتمر في بداية كل دوره لتنشيط الذاكره بماجرى خلال عام على مسرح الأحداث في الوطن العربي، وايضا ليشكل حافزا للنقاش والجدل حول قضايا الأمة على تشعبها واختلافاتها. ان دور خير الدين حسيب أكبر من أن يقدم في سطور مهما تعددت. هناك تعريف يذكر للقائد يقول هو )الانسان الذي يدفع الآخرين لعمل ماكان لهم ان يقوموا به لولا وجوده(. الآن قرر الرجل ان يعتزل، وقام بتقديم استقالته من كافة مواقعه سواء في مركز دراسات الوحدة العربية أوالمؤتمر القومي العربي، ويرجع قراره ذلك لظروف صحية، وقراره هذا يمكن ان يقبل، ولكن بمرارة تسد الحلق، وبقدر من الأسى والأسف يملأ النفس، وان كانت بصمة الرجل سوف تظل دائما علامة، واسمه سيبقى علما ونموذجا لمعنى العطاء.

أيها الأستاذ الرفيع الجليل.. الكبير القامة والقيمة

لعلك حين تنظر خلفك عبرعقود مضت من السنين، والى مراحل انقضت من العمر المديد، وشهدت أحداثا كان فيها من الحلاوة مايسكر، وكان فيها ايضا من المرارة مايفجع، والى وقائع شتى وقعت وماتزال تقع، وبرز في الحالتين دور الفرد في الحياة، ودوره الأكثر تأثيرا في السياسة وفي التاريخ، سوف تجد ان دور الفرد كان الأساس دائما في المواجهات الكبرى وفي المبادرات العربية وتحولاتها، كما كان أيضا عبر التاريخ الأنساني ولدينا الكثير من النماذج والأمثلة. انه كم الصدق الحاكم – بتجرد – الذي يعتمد على العقل لا العواطف، وعلى التصرف بشجاعة واقدام، وليس مجرد التمني بالأمل أو التوسل بالرجاء. وهكذا كان دورك أنت شخصيا الذي لعبته بهذا الجهد الصادق، الى حد بسالة الجندي في أتون المعركة، وايمان النبي بسلامة الدعوة، لعل ابتسامة الرضى بعد كل ذلك تخطو وتصعد لترتسم على وجهك وتزين شفتيك، فلقد حاولت ولم تقصر، ورفعت الراية ولم تستسلم، ووضعت اسسا، وفتحت طرقا، وضربت مثلا في الحركة والأنجاز. اسمح لي أيها الأستاذ المعلم الجليل أن أقبل يديك ووجنتيك وأدعو لك بوافر الصحة والسلامة، ثم بعد ذلك أحني رأسي احتراما واجلالا لدورك وأثرك. حفظك الله وأبقاك وظللك برعايته وعنايته في كل خطاك.

أمين الغفاري