دراسات المستقبلات ومقاربة إستقراء الإتجاه

أ.د. مازن الرمضاني*

في المقال السابق، عمدنا إلى البدء بسلسلة مقالات تتناول نماذج لبعض أهم المقاربات المستخدمة في دراسات المستقبلات. فالإنحياز إلى المستقبل يتطلب اجادة دقيقة لإحدى هذه المقاربات أو اكثر ومن ثم توظيفها سبيلا علميا لترجمة هذا الإنحياز إلى إستشراف مستقبلي مفيد عمليا.

لقد سبق القول أن التطور العلمي الذي مرت به دراسات المستقبلات خلال اكثر من خمسة عقود قد أدى إلى أن تتميز أنماط التفكير العلمي في المستقبل بخصائص هيكلية محددة ولكن متباينة. وقدر تعلق الامر بعنوان هذا المقال، تجدر الإشارة إلى أن احد أنماط هذا التفكير قد عبر، ومنذ ما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية صعودا عن رؤية قالت: »إن المستقبل ينشأ عن الماضي ويكون، في الوقت ذاته، محكوما به«.

وإتساقا مع مضمون هذه الرؤية تبنى العديد من المستقبليين الامريكيين خصوصا مقاربات منهجية جعلت التنبوء بالمستقبل، الاحسن أو الأسوء، مضمون مخرجات دراساتهم. ومن هنا جاءت عناوين هذه الدراسات وهي تحمل كلمة المستقبل بصيغة المفرد، لا كما اضحى الحال عليه لاحقا. فهذه الكلمة صارت تستخدم الان بدالة الجمع، أي مستقبلات.

وتعد المقاربات الاتجاهية من بين أبرز المقاربات التي تعبر عن هذا النمط من التفكير العلمي في المستقبل. ولتعددها سنتناول مقاربة استقراء الاتجاه وبعض تفرعاتها، كنموذج لهذه المقاربات. ومرد ذلك أهميتها، فضلا عن إنتشارها، ولا سيما على صعيد دراسات المستقبلات ذات المضامين الديموغرافية )السكانية(، والاقتصادية، والتكنولوجيا، وكذلك على صعيد تخطيط المدن.

  1. مقاربة إستقراء الاتجاه

منذ زمان يعود الى ما قبل عقد الستينيات من القرن الماضي، استمرت بعض دراسات المستقبلات تتخذ من البيانات والمعلومات الكمية ذات العلاقة بتاريخ موضوع محدد سبيلا لإستشراف مستقبله. وتُسمى عموم المقاربة المنهجية المستخدمة لهذا الغرض بمقاربة تحليل الإتجاه. وقد مرت هذه المقاربة، عبر الزمان، بتطورات مهمة جعلتها تقترن بعدد من التسميات التي استمرت تحتفظ بكلمة الإتجاه في عناوينها. وفي ضوء معيار نوعية كثافة توظيفها على الصعد الديموغرافية والاقتصادية والتكنولوجية وسواها، سنتناول ادناه مقاربة إستقراء الإتجاه، وكذلك أحد تفرعاتها.

 ابتداء، تجدر الإشارة الى ان هذه المقاربة تُدرك بمعان متعددة ومتنوعة، وتبعا لهذا الحقل المعرفي أو ذاك. فبينما يُشار بها مثلا، على الصعيد العلمي، الى تلك الإجراءات الرياضية التي تستخدم لتقدير قيمة شىء غير معلوم انطلاقا من قيمة شىء معلوم، يُشار بها على صعيد ادارة الاعمال، بأنواعها الى تلك الإجراءات الإحصائية التي تُستخدم للتنبوء بما سيكون انطلاقا مما كان.

وعلى الرغم من تنوع دلالات معانيها، الا أن هذه المقاربة تنطلق، مع ذلك، من فرضية محددة مفادها أن مخرجات التطور التاريخي لكل موضوع يٌفضي الى إقترانه بإتجاه )بمعنى مسار( مُحدد، وأن هذا الإتجاه يؤد في حالة ديمومته، الى ان تكون الصورة المستقبلية لهذا الموضوع امتدادا لذات الصورة التي كان قد اقترن بها في ماضي الزمان.

وإنطلاقا من أن هذه المقاربة ادركت المستقبل وكأنه امتدادا إتجاهيا لحقائق ماضي المستقبل، فأنها قالت أن الامور سوف تتغير بالطريقة ذاتها التي تغيرت بها في الماضي وبالتالي فان التغيير الذي تمت ملاحظته في الماضي سوف يستمر ممتدا إلى المستقبل على وفق ذات الحركة الدائرية والوتيرة المتكررة.

وبهذا الصدد تجدر الإشارة إلى أن جوهر هذه المقاربة يختلف جذريا عن تلك الإستخدامات اليومية التي لها علاقة مثلا بإتجاهات الموضة، أو الإتجاهات الاقتصادية الجديدة. لذا ينبغي عدم الخلط بين الاثنين.

ولإستقراء الإتجاه المستقبلي لاحد المواضيع تنطلق هذه المقاربة من ادوات جلها كمية، كالبيانات الرقمية، والحسابات الرياضية، والقياس والمعادلات مثلا لبيان مدى اتساق أو تباين اتجاه حركة هذا الموضوع في ماضي الزمان مع اتجاه حركته في حاضر الزمان، ومن ثّم تعمد إلى اسقاط ما كان ممتدأ عبر ماضي الزمان، سلبا أو ايجابا على مستقبله. أو بعبارة اخرى الإنطلاق من ما كان معروفا في الحاضر من اجل استقراء ما يمكن أو يحتمل أن يكون في المستقبل، وبالتالي مجرد سحب ما كان على ما سيكون.

وكمثال لنفترض ان عدد سكان احدى الدول كان ينمو خلال سنوات سابقة، بمعدل ثابت يساوي 2 في السنة، عندها يصار الى جعل هذه المعدل منطلقا للإفتراض ان المستقبل سيستمر مقترنا به، وان كل ما ينبغي عمله هو مجرد توظيف إحدى الإليات الإحصائية لمعرفة عدد سكان هذه الدولة في الزمان اللاحق )س(.

وعلى الرغم من أن مقاربة استقراء الإتجاه تُعد، في حالة توافر البيانات الإحصائية مقاربة كمية وصفية، الا انها في حالة غياب هذه البيانات، او عدم كفايتها فأنها تتحول الى كيفية وصفية. ولهذا يمكن ان تكون اما كمية او كيفية

ونرى ان تطبيق هذه المقاربة يستدعي الاخذ بنوعين متفاعلين من الخطوات : شكلية واجرائية في ان، وكالاتي:

أولا: قيام الجهة الراعية بتحديد الموضوع المراد استشراف مستقبله ومداه الزماني، فضلاعن اختيار وتشكيل فريق العمل من المستقبليين المحترفين، وتحديد فترة الإنجاز وكذلك تعين المشرف على الإنجاز من بين اعضاء هذا الفريق.

ثانيا: قيام فريق العمل بتحديد تلك المتغيرات التي تمتعت بتأثير ممتد في تشكيل واقع موضوع الإهتمام من بين سواها ولا سيما تلك التي لا تتمتع بمثل هذا التأثير فضلا عن تثبيت نوعية تاثير هذه المتغيرات المؤثرة ومن ثم تحديد الإتجاه الذي افضت الى تشكيله.

ثالثا: وكذلك تحديد المتغيرات المحتملة التي قد تُفضي الى دفع الإتجاه الذي تفيد به البيانات التاريخية المتوافرة اما الى الإستمرار او الى الإنحراف عن مساره وبضمن ذلك تحديد احتمالات حدوث هذه المتغيرات ونوعية تاثيرها )عال او واطىء( وبالنسب المئوية..

رابعا: تجميع اراء فريق العمل سبيلا لبلورة الرؤية النهائية في شأن مستقبل موضوع الإستشراف ومن ثٌم صياغتها لغويا.

وفي ضوء نوعية اجراءاتها، تتميز مقاربة استقراء الإتجاه بخاصية عامة هي: عدم التعقيد. فبساطتها وسهولتها ادت الى ان تكون محط تطبيق واسع على المستويين الجزئي والكلي. بيد ان هذه الخاصية العامة لا تلغي، في الوقت ذاته انها كانت منتقدة..

وتتركز ّجل هذه الإنتقادات على موضوعيتها ومصداقيتها. فمثلا قيل: ان محدودية المعلومات والبيانات المتوفرة سواء عن المتغيرات المؤثرة في بلورة احد الإتجاهات اوعن المؤشرات التي تفيد بديمومتها الى المستقبل، ستفضي الى ان تكون مخرجات هذه المقاربة اما خاطئة، او مضللة، او غير ذات صلة، كما اكد ذلك المستقبلي الامريكي. تيودور جي كاردن

وكذلك ينطوي الإفتراض: ان حقائق الماضي ستبقى كما هي ممتدة الى المستقبل على نكران غير منطقي وغير موضوعي لحقيقة ان العالم يتغير وبمعدل سرعة غير مسبوقة وبمخرجات لا تسمح بسحب قانون الإستمرارية، كأحد قوانين الحياة المؤثرة، على كافة معطياتها. فهذه المقاربة تتناسى أن قانون التغيير لا يسمح بتكرار صورة الماضي، هذا فضلا عن أن مسيرة الحاضر نحو المستقبل لابد أن تقترن بمفاجئات تؤدي مخرجاتها الى ان تكون صور المستقبل مختلفة بالضرورة عن صور الماضي و/او الحاضر.

ومن هنا راى البعض أن المنطق الذي تتأسس عليه هذه المقاربة يستوي مجازا وقيادة احدى العجلات دون النظر الى الامام..ومن هنا يتكرر القول أن هذه المقاربة »… جاءت بمشاهد إتجاهية تفتقر إلى الإبداع«.

وعليه نتفق مع، خير الدين حسيب وأخرون الذي راى إنها تجعل »… المستقبل )وكأنه( قدر محتوم قد تحدد سلفا…)وان( كل المطلوب )من المستقبليين( هو الكشف عنه فيما يشبه النبوءة التي يستسلم لها البشر«.

واضافة الى عدم توظيفها لمقاربات اخرى دعما لموضوعيتها ومصداقية استشرافها يؤخذ عليها ايضا انها لا تعدو ان تكون »…مجرد محاكاة آلية وامتداد رقمي لنسق الماضي… )وإنها بذلك( تنفي عن المجتمعات حركتها الدينامية وقدرتها…على التغيير والتكيف والرفض«.

وقد أدت المأخذ على هذه المقاربة إلى تطوير مقاربة أخرى عمدت إلى تجنب سلبيات الاولى، ومن بينها مثلا مقاربة تحليل أُثر الإتجاه.

  1. مقاربة تحليل اثرالإتجاه

لقد تّم ابتكارهذه المقاربة من قبل المستقبلي الامريكي ثيدور كوردن في نهاية عقد السبعينيات من القرن الماضي، سبيلا لتطوير مضمون الفرضية التي إنطلقت منها مقاربة إستقراء الاتجاه المشار اليها أعلاه.

وعلى خلاف مقاربة استقراء الإتجاه التي تفترض ان تأثيرالمتغيرات التي كانت فاعلة في الماضي سيستمر ممتدا الى المستقبل، تتأسس مقاربة تحليل أثر الإتجاه على فرضية اخرى مختلفة مفادها ان الحاضرقد يقترن بمتغيرات متعددة المضامين، غير مرئية ولكن محتملة، تفضي مخرجات تأثيرها الى احداث تغييرنوعي في الإتجاه الذي اقترن به أحد المواضيع في الماضي. ومن هنا، فأنها تعمد إلى وصف وتحليل وأختبار الإحتمالات المستقبلية لهذه المتغيرات المحتملة.

ونتفق مع ، محمد خميس في تأكيده على إختلاف هذه المقاربة مع مقاربات التنبوء التقليدية، التي لا تعترف بوجود متغيرات غير متوقعة والتي تتوافر على تأثير مهم في تشكيل المسار المستقبلي.

وتبعا لمضمونها، ترى آراء أن توظيف هذه المقاربة لإجراءات كمية وكيفية معا يسهل الجمع بين تحليل البيانات التاريخية الخاصة بموضوع محدد ورؤى الخبراء بشأن الاثر المحتمل لمتغيرات مستقبلية في الإتجاه الذي تفيد به هذه البيانات سبيلا لإستشراف مشاهد المستقبل..

ولانتاج مثل المقاربة يُشترط توافر معرفة دقيقة وواسعة بالموضوع المراد استشراف مستقبله او في الاقل توافر السبل التي تؤدي الى مثل هذه المعرفة. وتتيح الثورة المعلوماتية الراهنة الكثير من هذه السبل.

ولتحقيق غايتها تتأسس هذه المقاربة هي الاخرى على اجراءات من نوعين: شكلية ونوعية وكالاتي :

اولا: قيام الجهة الراعية بتحديد الموضوع المراد استشراف اتجاهه المستقبلي، وتثبيت المدى الزماني للجهد الإستشرافي، هذا فضلا عن اختيار فريق العمل من المستقبليين المحترفين، ناهيك عن تعين المشرف على الإنجاز من بين اعضاء هذا الفريق.

ثانيا: جمع البيانات التاريخية ذات العلاقة بموضوع الإهتمام، سبيلا لتتبع تطوره التاريخي، والقيام بإجراء إستقراء كمي للإتجاه الاكثر وضوحا وأهمية، الذي تفيد به هذه البيانات، سبيلا لتحديد الخط الاساس لهذا الاتجاه.

ثالثا: الطلب من فريق العمل تحديد تلك المتغيرات التي كان لها التأثير الحاسم في دفع اتجاه محدد الى التشكل في الماضي، وكذلك تلك المتغيرات المستقبلية المحتملة التي قد تدفع بهذا الإتجاه الى الانحراف عن مساره السابق وتشكيل اتجاه آخر مختلف فضلاعن تحديد المدى الزماني المحتمل لتبلورهذه المتغيرات ونوعية تأثيرها )عال او واطىء(.

رابعا:عقد مقارنة تقويمية بين هذه المتغيرات المحتملة تبعا لمدى احتمال حدوثها ونوعية تاثير كل منها سبيلا لتحديد اكثرها تاثيرا في احداث التغييرفي طبيعة الإتجاه السابق.

خامسا: سحب حصيلة هذه المقارنة على الخط الاساس للإتجاه السابق لموضوع الاهتمام )ثانيا في اعلاه( من اجل الخروج بإستقراء نهائي لا يتأسس على مجرد قراءة كمية للبيانات التاريخية فحسب، وانما ايضا على روى كيفية للخبراء بشأن نوعية تأثير متغيرات مستقبلية في نوعية الإتجاه الذي سيقترن به موضوع الإهتمام مستقبلا.

وعلى شاكلة سواها تقترن هذه المقاربة بإيجابيات وسلبيات :

فأما عن الإيجابيات فهي تكمن مثلا في الاتي:

اولا إنها تجمع بين العلم والخيال إذ تنصرف الى حصرالمتغيرات المستقبلية المحتملة، وتقدير إحتمالات بروزها، فضلا عن تحديد تاثيرها في بلورة الإتجاه المستقبلي لموضوع الإهتمام.

وثانيا، تأسسها على استشراف كمي وكيفي في ان يتميز بقدر عال من الدقة.

 وثالثا امكانية توظيفها من قبل مقاربات اخرى، كمقاربة بناء المشاهد دعما لضمان إتساقها الداخلي.

واما عن السلبيات فهي تتجسد مثلا في الاتي:

 اولا ان عدم توافر معرفة يقينية كافية، سواءعن المعطيات التاريخية الإهتمام، أوعن المتغيرات المستقبلية المؤثرة قد تفضي بالضرورة الى الى بناء صور للمستقبل قد لا تعبرعن واقع اتجاهات الحاضر.

 اما ثانيا لا تشترط الإستعانة بطاقم من الخبراء توافره على قدرة الحصرالدقيق للمتغيرات المستقبلية المحتملة وتقدير احتمالية حدوثها ونوعية تأثيرها مّما قد يؤدي الى الشىء ذاته في أولا أعلاه.

*استاذ العلوم السياسية ودراسات المستقبلات