دراسات المستقبلات ومقاربة مصفوفة التأثير المتبادل

أ.د. مازن الرمضاني*

في اعداد سابقة من مجلة الحصاد عمدنا الى التعريف ببعض ابرز المقاربات المنهجية المستخدمة من قبل المستقبليين سواء في عالم الشمال أو في عالم الجنوب.

ويتفق المستقبليون على ان قيمة التفكير العلمي في المستقبل لا تكمن في هذا التفكير بحد ذاته فحسب وإنما أيضا في مخرجاته التطبيقة والناجمة عن التوظيف الدقيق لاحدى المقاربات المنهجية أو مجموعة منها في ان. وتجدر الاشارة إلى أن هذه المخرجات هي التي تفضي على دراسات المستقبلات قيمتها وفائدتها العملية. فبدون تلك المقاربات تبقى هذه الدراسات فاقدة لخاصيتها العلمية.

في هذا العدد من مجلة الحصاد سنتناول منهجية اخرى تتميز عن سواها في غايتها واجراءاتها المنهجية، هي مقاربة مصفوفة التأثير المتبادل التي تم ابتكارها في عام 1966 م من قبل المستقبلي الأمريكي ثيودور غوردن وكذلك المستقبلي الأمريكي. اولاف هيملر اثناءعملهما في مؤسسة راند الأمريكية، ولصالح احدى الشركات التجارية التي تطلعت إلى التعرف على الوضع الذي يؤمن لها مصالح منشودة والسياسة التي تفضي إلى ذلك. وقد اخذ التطبيق العملي الاول لهذه المصفوفة شكل أوراق لعبة تم تسميتها بلعبة المستقبلات.

ومنذ سبعينيات القرن الماضي صعودا والإجراءات المنهجية لهذه المقاربة في تطور مستمر، الأمر الذي جعلها تقترن بتفرعات متعددة . وقد أدت مخرجات هذا التطور الى ان يتم ادراكها أما كمقاربة مستقلة بحد ذاتها، او كإمتداد لمقاربة دلفي، اوكمقاربة تتكامل مع مقاربات اخرى كتحليل الإتجاه وبناء المشاهد وغيرهما. واضافة الى ذلك،  اضحت تستخدم ايضا على صُعد عملية متعددة وبضمنها التخطيط، والطاقة والاعمال التجارية والمالية والصناعية ناهيك عن استخدامها اصلا من قبل اجهزة المخابرات كالأمريكية مثلا.

ويرجع التوظيف الواسع نسبيا لهذه المقاربة الى نوعية غايتها.

تفيد الإجراءات المنهجية لعدد من المقاربات المستخدمة في دراسات المستقبلات والتي ذهبت إلى مجرد إستشراف التأثير المستقبلي للمتغيرات المؤثرة في موضوع الاهتمام، كل على حدة  وبمعزل بالتالي عن حقيقة ان هذه المتغيرات تتبادل عملية التأثير والتأثر بالضرورة. وقد جاء ابتكار مقاربة مصفوفة التأثير المتبادل سبيلا لاحتواء هذا النقص المنهجي المهم، والتاكيد على هذه العملية.

 وبهذا الصدد تجدر الإشارة إلى أن المبتكرين لهذه المقاربة كانوا قد إنطلقوا من فرضية مركبة افادت ان كل متغير انما هو ناتج لمتغير سابق عليه في الزمان، وان هذا المتغير يفضي في الوقت ذاته إلى أن يكون بمثابة المدخل لبلورة متغير اخر لاحق عليه في الزمان بمعنى أن المتغير )ب( هو محصلة للمتغير)ا(، وأن المتغير )ج( هو ناتج للمتغير )ب(. ومن هنا تتبادل المتغيرات علاقة التأثير والتأثر.

 ونرى ان تاكيد هذه الفرضية على علاقة تبادل التأثير والتأثر بين المتغيرات ، سواء كانت إيجابية أو سلبية، افضى إلى إلغاء تلك الفرضيات السابقة عليها والتي لم تقل بمثل هذه العلاقة.

وانطلاقا من ان هذه المقاربة، مثل سواها، تتعامل علميا مع حالة اللا يقين التي يتميز بها المستقبل، فأنها تعمد إلى تحديد تلك المتغيرات الاكثر احتمالا، ومن ثم تأثيرا، في تشكيل مشاهد المستقبل. ولهذه الغاية فانها تستعين بمجموعة خطوات، شكلية واجرائية محددة، علما ان الرؤى بشان هذه الخطوات ليست متعددة فحسب، وانما متباينة أيضا. ومع ذلك نرى أنها تكمن في الآتي:

اولا: قيام الجهة الراعية لعملية الإستشراف باختيار الموضوع المراد استشراف مشاهد مستقبله وتحديد مداه الزماني ) مباشر قريب متوسط…الخ (، فضلا عن اختيار فريق العمل من مستقبليين يتوزعون على حقول معرفية متعددة ويتوافرون على اختصاص دقيق في موضوع الاهتمام سيما وأن هذا التنوع هو الذي يدعم تكامل المعرفة لدى فريق العمل.

 وفضلا عما تقدم، تنطوي وظيفة الجهة الراعية أيضا على تأمين سبل التواصل والتفاعل بين أعضاء فريق العمل عبر السبل المتاحة خلال الزمان المحدد لانجاز عملية اعداد مصفوفة التأثير المتبادل.

ولنوعية دور الخبراء في انجاز مجمل خطوات مقاربة مصفوفة التأثير المتبادل، فانها تندرج بالتالي ضمن تلك المقاربات الذاتية المستخدمة في دراسات المستقبلات. وعلى خلاف المقاربات الموضوعية التي تتخذ من الحقائق المتوافرة عن موضوع الاهتمام والمؤشرات التي تعبر عنها ركيزة أساسية لها يصار عادة إلى تبني المقاربات الذاتية عندما تكون المعلومات والبيانات المتوافرة عن هذا الموضوع كيفية أصلا كالوثائق وما شابه ذلك و/أو التي لا يمكن تحويلها إلى بيانات كمية.

وتتميز هذه المقاربات الذاتية باعتمادها عادة على روى وتقيمات الخبراء الذين يناط بهم إنجاز عملية إستشراف المستقبلات. ومن هنا تسمى أيضا بمقاربات الإستشراف من خلال الخبراء.

وتفيد مضامين هذه المقاربات إنها من نوعين:. فأما عن النوع الاول وهو بالغ التبسيط ويكمن في استطلاع راي أحد الخبراء أو مجموعة محددة منهم بشأن مستقبلات أحد المواضيع أو أحد جوانبه ومن ثم تبني راي هذا الخبير أو الخبراء بشأنه ولا غير. ولا تجد هذه الآلية قبولا لدى المستقبليين المحترفين. هذا، كما يؤكد المستقبلي الأمريكي أدوارد كورنيش لان الرأي الواحد قد يكون  »… مضلالا أو منحازا«. وأما عن النوع الثاني من المقاربات الذاتية فهو يقترن بإجراءات منهجية تتميز بقدر عال من التعقيد. ومثالها مقاربة مصفوفة التأثير المتبادل.

ثانيا: بلورة رؤية اولية عن تلك المتغيرات ذات التأثير المحتمل في تشكيل مشاهد مستقبل موضوع الاهتمام، ومن ثم اعداد قائمة اولية بها. ومن اجل ذلك يصار الى الإستعانة بالمعلومات التي يتم تجميعها عن ماضي وحاضر هذا الموضوع، وذلك عبر اما اجراء الدراسات ذات العلاقة  و/او الإستعانة بآراء الخبراء. وتجدر الإشارة الى ان الراي لا يتفق بشأن عدد هذه المتغيرات ذات التأثير المحتمل.

ثالثا: تأسيسا على محصلة الخطوة السابقة، تنصرف هذه الخطوة الثالثة الى بناء تصور أولي عن ماهية علاقة التأثير والتأثربين مجموعة المتغيرات المحتملة التي تم تحديدها في الخطوة اعلاه  سبيلا لبيان مدى ارتباطها: قوة او ضعفا، وكذلك طبيعتها: بسيطة او مركبة، فضلا عن اتجاهاتها: طردية او عكسية، هذا ناهيك عن مدى اقترابها او ابتعادها عن بعض.

رابعا: اجراء تقدير أولي لإحتمالات تشكل احد المتغيرات بمعزل عن تأثره بسواه، ومن ثم رويته كمتغير مستقل. ويُقاس هذا التقديرعلى وفق سلم كمي خماسي الدرجات يبدأ برقم )1( وبدالة احتمالية تشكل ضعيفة جدا، صعودا الى رقم )5( و بدالة احتمالية تشكل عالية جدا.

خامسا: وتأسيسا على مخرجات الخطوة الرابعة، تنصرف هذه الخطوة الى اجراء تقدير شرطي لإحتمالات تشكل كل من المتغيرات الاكثر احتمالا في الزمان المحدد لنهاية الإستشراف. ولانجاز هذا التقدير يتم الانطلاق من مدى تأثر احد المتغيرات بمتغير اخر وبالتالي رؤية المتغير الاول كمتغير تابع للثاني. ولتحديد ذلك يتم الانطلاق عادة من السؤال التالي: اذا حدث المتغير )ا( فما هي احتمالات حدوث المتغير )ب(.

 وتجدر الاشارة إلى ان هذا السؤال ينبغي تكراره على كل متغيرين يتبادلان التأثير والتأثر ضمن مجموعة المتغيرات الاكثر احتمالا. وتنتهي هذه الخطوة عند تقدير الاحتمالية الشرطية للمتغيرات الاكثر احتمالا. ويتم ذلك عبر استخدام السلم الكمي خماسي الدرجات المذكور في اعلاه.

سادسا: اعداد المصفوفة وبناء المشاهد. وتُعد هذه الخطوة بمثابة الناتج النهائي لجملة الإجراءات المستخدمة اعلاه. فخلال هذه الخطوة يصار الى الانتهاء من اعداد هذه المصفوفة.

وعادة تتشكل هذه المصفوفة من حقلين : احدهما عمودي )طولي(  والآخر افقي )عرضي(، وبمضامين واحدة وبمعنى ان تسمية المتغيرات الاكثر احتمالا الواردة في الحقل العمودي هي ذاتها الواردة في الحقل الافقي.      ومن اجل ملء حقول هذه المصفوفة يتم الإستفادة من مخرجات الخطوات السابقة سبيلا لتحديد امران: اولهما مدى تأثير أحد المتغيرات في جميع المتغيرات الاخرى. وثانيهما تأثير جميع هذه المتغيرات في هذا المتغير ذاته. فمثلا، لو افترضنا ان عدد هذه المتغيرات هو خمسة عندها يتم، اولا تقدير تأثير المتغير )1( في المتغيرات الاخرى: )2( و)3( و)4( )5 ( ومن ثم، ثانيا تقدير تأثير كافة هذه المتغيرات في المتغير)ا(. وهكذا دواليك بالنسبة لكافة المتغيرات الاخرى.

ولقياس التأثير المتبادل بين كافة هذه المتغيرات يصار إلى إستخدام مقياس قوامه خمس مستويات يتمتع كل منها بقيمة محددة تتراوح بين قوية جدا أو قوية أومتوسطة، أو ضعيفة، أو ضعيفة جدا علما أن كل من هذه القيم قد تكون إيجابية )+(، أو سلبية )-(. فمثلا عندما يكون تأثير المتغير )ا( قويا جدا فأنه يحصل على قيمة تساوي )+5( وعندما يكون تأثيره ضعيفا جدا فأن قيمته تكون )-5(.

وللكشف عن المتغيرات الاكثر تأثيرا والاكثر تأثرا يصار إلى قياس محصلة التأثير الإيجابي للمتغيرات الواقعة في الحقل العمودي في سواها وكذلك التأثرالسلبي للمتغيرات الواقعة في الحقل الافقي في سواها. فمثلا إذا كان المتغير )ا( يتمتع بتأثير إيجابي وبمجموع )6( نقاط ويتمتع بتأثر سلبي وبمجموع )8( نقاط فأنه يُعد أحد المتغيرات التي تؤثر بقوة في غيره من المتغيرات وهكذا.

وبعد تحديد المتغيرات الاكثر تأثيرا وتأثرا يُصار إلى توظيف الحاسوب ولعدد من المرات من أجل بناء المشاهد المحتملة لمستقبل موضوع الاهتمام.

وكسواها من المقاربات تتميزمقاربة مصفوفة التأثير المتبادل بمجموعة إيجابيات ولا تخلو بالضرورة من سلبيات.

فأما عن الايجابيات فهي تكمن مثلا في الآتي:

أولا إمكانية توظيفها لاحتواء مأخذ منهجية على عدد من المقاربات المستخدمة في دراسات المستقبلات ولا سيما تلك التي لا تعمد إلى ايلاء علاقة التأثير المتبادل بين المتغيرات الاهمية التي تستحقها.

ثانيا قدرتها على إثارة الاسئلة ذات العلاقة بدرجة الإرتباط بين المتغيرات، وكذلك بيان علاقات التفاعل فيما بينها.

ثالثا إمكانية إستخدامها لبيان نوعية المشاكل محتملة الحدوث جراء حلول مشاكل أخرى.

رابعا ضألة الاكلاف الناجمة عن توظيفها، وبضمنها الوقت، الذي يؤكد رأي أنه يتراوح بين 8-2 شهرا في العموم.

خامسا إنها تُساعد على الإرتقاء بالتفكير العلمي الإنساني في المستقبل بما يجددة، فضلا عن إنها تتيح لصناع القرار أداة مهمة لفحص الخيارات البديلة، سواء المرغوب فيها أو غير ذلك على صعيد التفكير والتخطيط الإستراتيجي.

سادسا تميزها بمصداقية عالية جراء توظيفها لادوات كمية لقياس إحتمالات التفاعل بين المتغيرات.

وأما عن سلبياتها فهي تكمن مثلا، في الآتي:

أولا إن محدودية معرفة فريق العمل بالادوات الكمية المستخدمة تنطوي على تأثير سالب في دقة المخرجات.

ثانيا إن إحتمال حدوث أخطاء في تقدير مخرجات الإحتمالية الشرطية للمتغيرات المتفاعلة قد يفضي إلى مخرجات خاطئة أيضا.

ثالثا حاجتها إلى زمان قد يكون طويلا نسبيا، خصوصا عندما يصار إلى توظيف مقاربات أخرى لدعم إجراءاتها المنهجية.

 رابعا إغفالها لتأثير متغيرالزمان في تحليلاتها

* استاذ العلوم السياسية ودراسات المستقبلات

العدد 87 –كانون أول 2018