إيران تخترق العقوبات من العراق

د. ماجد السامرائي

ما تتمتع فيه ايران اليوم من مكانة وهيمنة على أربع عواصم عربية )بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء( لم يكن ناتجاً عن قوة لوجستية خارقة فهي ذات إمكانيات عسكرية محدودة، أو لأنها ذات امكانيات علمية وتكنولوجيا عالية فهي من بين بلدان العالم الثالث المستوردة للتكنولوجيا أو لأنها مبشرة وداعية لمبادئ عالية في حقوق الانسان، فاضطهاد النظام للشعوب الإيرانية أصبح معروفاً كما إن آديولوجية النظام قائمة على استخدام الدين والمذهب في السياسية وهي عناونين هجرتها الانسانية منذ أربعة قرون. ببساطة ما أوصلها لما هي عليه هم الأمريكان أنفسهم وسياسات اداراتهم منذ عام 1979 وحى الآن، إضافة الى ما امتلكوه من أعوان ووكلاء في المنطقة العربية أصبحوا أكثر حماسة لتسويق الطائفية السياسية. فسلسلة حماقات الرؤساء الأمريكان وازدواجية المعايير شجعت ولي الفقيه الايراني الأول والثاني على التمادي في سياسة التوسع وتهديد الأمن القومي العربي، فقد سكت الرئيس جيمي كارتر عن احتجاز السلطات الإيرانية دبلوماسيي السفارة الأميركية في طهران طوال 444 يوما ابتداء من نوفمبر 1979. وسمح احتجاز الرهائن لإيران بلعب دور في إيصال رونالد ريغان إلى الرئاسة مما دفعها الى تنفيذ المزيد من سياسات الفوضى خارج إيران مثل تفجير السفارة العراقية في بيروت عام 1983حيث استشهدت فيه زوجة الشاعر نزار قباني )بلقيس الراوي( إضافة الى جميع أعضاء السفارة، وتفجير مقر قيادة المارينز الأمريكان قرب مطار بيروت بذات العام حيث قُتل فيه 241 عسكريا. ونسقت واشنطن مع طهران في عهدي بوش )الأب والإبن( باحتلالها للعراق حسب الوثائق والمعلومات المنشروة الكثيرة وأبرزها معلومات السفير الأمريكي السابق )خللي زادة( وكانت خطوة الرئيس السابق )أوباما( في عقد الاتفاق النووي وتحرير إيران من العقوبات الأمريكية هي الأكثر إذعاناً لطهران، ومنحتها الاطمئنان باستمرار سياستها التوسعية. ولهذا لا يأخذ المراقبون أهمية استثنائية للعقوبات الامريكية الحالية بقسميها في أغسطس ونوفمبر الحالي رغم إنها تؤثر بصورة مباشرة على الاقتصاد الايراني المفكك بانخفاض العملة وازدياد معدلات البطالة، لكن الرئيس الحالي ) ترامب( يرى نفسه قادراً على خنق إيران، ومستشاروه الصقور يضعون للعراق أهمية كبيرة في تحقيق هدف الهدف وليس تغيير النظام، أي إنها عقوبات  »تقليم ناعم لأظافر إيران« فهل يتحقق له هذا الهدف السوقي والاستراتيجي، وهل ستأخذ هذه العقوبات طريقها عبر العراق ؟

إن النظام الإيراني قد تجاوز حدود بلاده السيادية الى السيطرة والنفوذ في البلدان العربية، ولهذا تجد دول الخليج خصوصاً )السعودية والامارات والبحرين( إنها مستهدفة من قبل هذا النظام ولهذا فهي تتشارك مع واشنطن في تنفيذ سياسة  »تقليم الأظافر« هذه. ولكون العراق الساحة المهمة والحيوية لإمكانيات إيران في التحايل على العقوبات الاقتصادية، بسبب الولاء الآديولوجي للأحزاب الحاكمة ببغداد لطهران فان واشنطن لم تضعه في قائمة الاستثناءات الثماني لمدة 180 يوماً كما إن العراق ليس مستورداً للنفط ليكون من الدول المعنية في تصفير النفط الإيراني. وتحويل إيران الى بلد بلا عوائد نفطية والتي تقدر صادراتها ب  »2 مليون و600 ألف برميل يومياً«. أوروبا لم تقف الى جانب الولايات المتحدة في هذه العقوبات، ولجأت الى بناء نظام SBV للتعامل التجاري مع إيران عبر المقايضة التجارية، وهو أسلوب شبيه بنظام ) النفط مقابل الغذاء ( الذي نفذته الأمم المتحدة مع العراق أواسط التسعينيات. إلا أن غالبية الشركات الأوربية لا تضحي بمصالحها الاقتصادية مع واشنطن من أجل مصالح محدودة في ايران لذلك أنهت غالبيتها أعمالها في طهران. إن الوضع العراقي معقد وخرقه للعقوبات سيضعه أمام ظروف أكثر تعقيداً في ظل تشابكات الوضعين الأمني الداخلي والاقتصادي المترديين وكذلك الأوضاع في محيط العراق في سوريا ولبنان واليمن حيث تلتهب المنطقة، وليس أمام حكومة بغداد سوى تنفيذ العقوبات على إيران لأن وسائل الرقابة المالية الأمريكية شديدة. ولا يعتقد أن تشهد أية اختراقات على المستوى الرسمي. وقد أعطت واشنطن مرونة للعراق في السماح له باستيرادات الطاقة والمواد الغذائية والانسانية. ويبدو إن )ترامب( التاجر لعبها بمزاج وذكاء العقول السياسية والاستخبارية التي تشتغل معه في البيت الأبيض. لأن العراق وهذا من سوء حظ أهله يستورد من طهران منذ سنوات نسبة كبيرة من الطاقة الكهربائية لتغذية مدينة البصرة، ويتذكر العراقيون إن من الأسباب المباشرة لاشتعال المظاهرات هناك هي قطع إيران لخطوط الطاقة الكهربائية في عز أيام الصيف اللاهب بسبب تأخر بغداد عن دفع المستحقات تزامناً مع ضخها لأطنان الأملاح الى حوض شط العرب مما أدى الى تسربه الى مجاري مياه الشرب وتسميم عشرات الألوف من البصريين وما زالت محنتهم مستمرة لدرجة إنهم يتسممون يومياً جراء أكلهم للسمك من تلك المياه، وكذلك قطع إيران لروافد المياه العذبة. إن طهران تنظر لمصالحها الخاصة وليس لمصالح العراق، ولهذا حين أعلن رئيس الوزراء العراقي السابق )حيدر العبادي( بأن بلاده ستنفذ العقوبات الأمريكية رغم عدم قناعة حكومته بتلك العقوبات، ثارت ثائرة حكام طهران، ونظموا الى جانب مواليهم داخل العراق حملة قوية لدرجة إنهم هددوا بمطالبة العراق بالتعويض بمبلغ )1100 مليار دولار( عن حرب الثماني سنوات حسب دعوة نائب رئيس مجلس الشورى )محمودي صادقي( رغم إن ايران هي التي واصلت الحرب تحدياً لقرار مجلس الأمن الدولي بتاريخ 28-9-1980 بوقف النار الذي قبله العراق. لقد كلف العبادي موقفه المتوازن هذا  »الولاية الثانية« لقد أرادت واشنطن من خلال هذا الاستثناء الجزئي للعراق تعبير رسالة ايجابية عاجلة لرئيس الوزراء الجديد )عادل عبد المهدي( بأنها تدعمه ولا تريد إحراجه في أيامه الأولى أمام طهران التي لم تفرح بقرارالاستثناء هذا، بل كانت ترغب استخدام هذه الفقرة من العقوبات وهي ليست كبيرة في حجمها المالي كجزء من محاولاتها لضم ) عبد المهدي ( اليها بقوة واستعدائه على واشنطن. إن ملف علاقة بغداد مع طهران سيظل واحداً من مؤرقات أي حاكم للعراق، لأن هذا البلد الجار لم يتعاطى مع العراق منذ عام 1979 في ظل ولاية )الخميني( وفق المقاييس الدولية المعروفة، وإنما كان التصرف وفق هدف الاستيلاء على العراق وحكمه عبر وكلاء ولي الفقيه وهذا ماحصل بعد عام 2003 برعاية واشنطن التي تواجه اليوم نتائج إزدواجية المعايير في الشأن العراقي. لا تتوقع طهران من الحكام في بغداد رفض العقوبات حسب، وإنما توفير الوسائل والسبل السريّة لاستمرار تدفق الأموال من العراق اليها. إن إيران لديها خبرة طويلة في التحايل على العقوبات الخارجية رغم الطوق الامريكي الصارم، وقد يكون ذلك ضمن النشاطات غير الرسمية التي تتم في الخفاء خصوصاً بين العراق وإيران. بسبب نمو قوى سياسية وأدوات ميليشياوية موالية لإيران لديها نفوذ واسع في الأوساط التجارية كا إن إيران بنت خلال السنوات الخمسة عشر الماضية مرتكزات تجارية توفر لها إيرادات بمليارات الدولارات من خارج الميزان التجاري المقدر ب9  مليار دولار. وهناك أحاديث لمصادر في السوق المالية العراقية ان عمليات شراء واسعة للدولار من السوق المحلية تجري حاليا من قبل تجار وشركات صيرفة لغرض نقلها إلى إيران بشكل مباشر وليس عبر وسائل التحويلات التقليدية لتجنب كشفها من قبل الهيئات الرقابية الأمريكي من خلال مجموعة من المؤسسات المالية في العراق يديرها إيرانيون وعراقيون حلفاء لإيران ضمن شركات الصيرفة والمصارف الأهلية والأجنبية العاملة في العراق التي اعتادت تحويل مبالغ طائلة إلى إيران منذ 2003. كما ان المنافذ الحدودية الكثيرة بين العراق وإيران تتحكم بها أحزاب وميليشيات معروفة، إضافة إلى ان الحدود الواسعة بين البلدين تزيد عن الألف كيلومتر ويصعب السيطرة عليها بوجود أعداد كبيرة من المهربين، وبالتالي يمكن نقل العملة الأجنبية مباشرة دون الحاجة إلى المرور بنظام التحويلات المعتاد. لكن هناك كثر من المتعاطين بالشأن التجاري داخل العراق يعتقدون بأن العقوبات الاقتصادية الأمريكية إذا ما تم تطبيقها في المحيط العراقي ستساعد على إيقاف النزيف من جسد الاقتصاد العراقي لكي يعود المعنيون الى تأهيل القطاعين الصناعي والزراعي بعد الخراب الذي كان لإيران اليد الطولى فيه. وعلى عكس إدعاءات موالي طهران داخل العراق بأن على العراق الوفاء لإيران لأنها دعمته في حربه على  »داعش« فقد أجاب على ذلك ببساطة مساعد رئيس البرلمان الايراني )حسين أمير النهيان( الذي قال  »إننا لم نعط للعراق طلقة سلاح واحدة مجانا، واننا نقبض أثمان السلاح بالعملة الصعبة كما هو حال صادرات الكهرباء الى العراق« دائماً ما تنال العقوبات من الشعوب وليست الأنظمة، فلقد كابد شعب العراق من حصار إثنتي عشرة سنة قبل احتلاله عسكرياً وتهديم دولته وتفكيك شعبه، لكن أمريكا لا تريد احتلال إيران ولا تغيير نظامه. ولا شك إن العقوبات سيكون تأثيرها المباشر على الشعوب الايرانية التي تعاني الفقر والجوع فيما يسعى النظام هناك الى بناء ترسانته الصاروخية ويتحدى العالم لبناء مشروعه النووي تحت شعارات فضفاضة في دعم  »القضية الفلسطينية« وخدمة نظام  »ولاية الفقيه« الذي هو نظام التوسع والهيمنة على الشعوب الأخرى بلا مسوغ. طهران رغم عنجيتها فهي غير قادرة على مواصلة تحدي العقوبات دون خسائر كبيرة، ولعل لائحة ال)12( نقطة التي اعلنها بومبيو وزير الخارجية الأمريكي هي الورقة التفاوضية التي تدعو واشطن طهران اليها، وهي تريد تكرار ما حصل من نجاح مع كوريا الشمالية، وقد تسربت اخبار في الشهر الماضي الى حصول لقاء أمريكي ايراني برعاية )مسقط( المعروفة بحاملة الرسائل والتي رعت مباحثات الاتفاق النووي عام 2015. لكن الظروف الحالية مختلفة فواشنطن )ترامب( ليست متضايقة بارهاصات  »رهائن أمريكان« مثلما حصل في السايق، وما يهم الرئيس ) ترامب( هو جلب المال للأمريكيين. ولا يتوقع أحد إن نظام ولاية الفقيه في طهران سيعّدل من سلوكه وفق المقاييس والاعراف الدولية ويلتفت الى شعوب إيران المسحوقة،