دور العميان في إذكاء الصورة الشعرية

أعمى اسْمٌ على وَزْنِ أَفْعَل مَأْخوذٌ مِن العَمى والعَمَى ذَهابُ البَصَرِ كُلِّهِ ولا يَقَعُ إلّا على العَيْنَيْنِ كلتيهما. قال الليث: رجلٌ أَعْمَى وامْرَأَةٌ عَمْياء ولا يقع هذا النَّعْتُ على العينِ الواحِدَة لأَن المعنى يَقَعُ عليهما جميعاً، يقال: عَمِيتْ عَيْناهُ.

ويُقَال عَمِيَ، يَعْمَى، عَمًى، فهو أَعْمَى إذا فَقَدَ بَصَرَهُ فَلا يَرَى شَيْئاً. وعُمي جمع أَعْمَى وعميان وهم فَاقِدُو الْبَصَرِ قال تعالى في سورة البقرة (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ).

وقد يطلق لفظ الأعمى على فاقد البصيرة لا البصر؛ وهي إِدْراكُ القَلْبِ. فيُقال عَمِيَ فُلانٌ أي ضَلَّ عن رُشْدِه، وعَمِيَ عليه طرِيقُهُ أَيْ خَفِيَ؛ وهو عندما يجهل ولم يهتد. فالبصير يُصَوِّب إلى حيثُ يَقْصد به الرَّامِي كالعين.

فالأعمى على هذا فاقد البصر تماماً من العينين كلتيهما. ويرادفه المكفوف والضرير والأكمه. إلّا ان أهل العلم فرّقوا بينها جميعا، فقالوا إنّ الأعمى للبصر أو للقلب على حد سواء، قال تعالى في ذلك (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ). أما المكفوف فمن كفّ بصره فقط. غير أن الأكمه هو من ولد أعمى. والضرير الذي أضره العمى بعد إبصار.

ولفظ أكمه ومؤنثه كمهاء صفة مشبهة تدلّ على الثبوت من كمه تطلق على من كان أعمى منذ الولادة. يُقال كَمِهَت الشمس أي علتها غبرة فأظلمت.

وقد جاء لفظ الأعمى في القرآن في عدة مواضع مرة يراد به فاقد البصر ومرة يراد به فاقد البصيرة. إلّا ان جلّ الآيات كانت تدور حول فقدان البصيرة لا البصر. منها قوله تعالى (وَ مَنْ كٰانَ فِي هٰذِهِ أَعْمىٰ فَهُوَ فِي اَلْآخِرَةِ أَعْمىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلا)، وقوله أيضا (َونَحْشُرُهُ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ أَعْمىٰ. قٰالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمىٰ وَ قَدْ كُنْتُ بَصِيراً). وقوله (وَمٰا يَسْتَوِي اَلْأَعْمىٰ وَاَلْبَصِيرُ) وغيرها من الآيات.

أما الفرق بين البصر والبصيرة فالبصر الرؤية؛ حاسة من الحواس تدرك بها الأشياء مع سلوكياتها فنحن مع إبصارنا للأشياء ندرك سلوكياتها ونعلمها فالبصير بالشيء العليم به، ومنها قوله تعالى ﴿بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ﴾. إذ ان التبصر هو التأمّل والتعرّف والتبصير التعريف والإفصاح قال تعالى ﴿ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً﴾. من أجل ذلك تطلق البصيرة على العلم واليقين ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَن﴾.

وذهب الراغب الأصفهاني الى أنه يقال للجارحة الباصرة والقوة التي فيها، ويقال لقوة القلب المدركة بصيرة؛ والبصيرة هي القدرة على الرؤية بعلم وتجربة، فقد يكون بصر الانسان حديدا إلّا ان بصيرته ضعيفة، ولذا اهتم القرآن بالبصيرة كثيرا.

ومن بديه القول أنّ الأعمى إذا فقد حاسة من حواسه (البصر) فانه يعوّض بقوة حواسه الأخرى وفق نظرية تسمى في علم النفس (قوة الحواس). وتوجد بعض الأدلة العلمية عليها؛ فقد توصلت دراسة أجريت بجامعة مونتريال إلى ان عقل المكفوف يعيد تركيب ذاته لاستعمال القشرة البصرية مجددًا لتطوير الحواس الأخرى كاللمس والسمع. فلا نستغرب إذا رأينا العديد من المكفوفين لا يصطدمون بالأشياء عند تحركهم.

ولا يقتصر الأمر على الحواس المادية فحسب، حيث أن العميان تفرّدوا بشتى المجالات، وقد نقل لنا التاريخ العديد من المشهورين في مجالاتهم كانوا من العميان وقد تفّوقوا على المبصرين.

ومن الشخصيات التي صنعت التاريخ العالم لويس برايل؛ الذي عاش في القرن التاسع عشر، تغلّب على فقدان بصره فابتكر طريقة سميّت باسمه تمكّن العميان من القراءة (طريقة برايل). والجدير بالتنويه أن الكثير من المحققين يذهبون إلى أن الآمدي قد سبق برايل في ذلك بقرون عندما ابتكر ما يسمى بـ(الحروف النافرة)؛ كما يذكر هو في كتابه (نكت الهميان في نكت العميان).

ومن المعروف أنّ العميان ابدعوا غاية الإبداع في مجالات شتّى كانت أبرزها موضوعات الأدب والشعر.

وكان من أشهر شعراء العربية في هذا الباب بشار بن برد وأبو العلاء المعري وأبو بكر المخزومي وجمال الدين الصرصري وعلي بن جبلة بن عبد الله الأبناوي وأبو الحسن علي بن عبد الغني الحصري القيرواني وأبو جعفر أحمد بن عبد الله التطيلي وغيرهم كثير.

فلو أخذنا مثلا الشاعر أبا العلاء المعري سنجده عالما باللغة والفقه ضليعاً في البيان والتاريخ. خلّف وراءه دررا ثمينة من المؤلفات والكتب أهمها (رسالة الغفران) و(اللزوميات) و(سقط الزند) وغيرها والتي لا يستغني عنها المثقف والقارئ.

وقد ذهب النقاد الى أن هناك ثلاثة تحديات تغلّب عليها الشعراء العميان كانت سببا في تفردّهم وتألقهم؛ هي البيئة والعاهة والعوض الحسّي.

فالعاهة في كثير من الأحيان تصبح عائقا أمام الإنسان الذي قد يستسلم لها فينتظر من يعينه عليها. إلّا ان تحدّيها يجعله ينتصر عليها؛ فهذا بشار بن برد الأكمه الذي لم ير النور أو الاشياء ببصره قط يقول عن نفسه:

عُميت جنيناً والذكاءُ من العمى

فجئت عجيب الظن للعلم موئلا

وهذا الأمر جعله متفوقا على أقرانه المبصرين من الشعراء فبرع في الهجاء والغزل والمديح. لكن الغريب أنه برع في الوصف أيضا.

وكانت البيئة أيضا سببا آخر في شحذ همم الشعراء المكفوفين لاتصالهم بها كونهم ملتصقين بها بحكم إعاقتهم فكانوا على تواصل معها من خلال الألفاظ وعلى صلة بعلمائها وجذورها. وقد قيل لبشار: ليس لأحد من شعراء العرب شعر إلا وقد قال فيه ما استنكرته العرب من ألفاظهم وشكّ فيه، وإنه ليس في شعرك ما يشك فيه فقال: ومن أين يأتيني الخطأ وولدت هاهنا ونشأت في حجور ثمانين شيخاً من فصحاء بني عقيل ما فيهم أحد يعرف كلمة من الخطأ، وإن دخلت إلى نسائهم فنساؤهم أفصح منهم. لذلك نراه وقد اتخذ من لسانه سيفا يسلّه على مناوئيه ومنافسيه.

ورد عنه أنه قال :

يا قوم أذني لبعض الحيّ عاشقة

والأذن تعشق قبل العين أحيانا

وكأنه داخل في صراع مع حاسة البصر من خلال الحواس الأخرى ليثبت أن الإبداع الفني هو للروح أولا، لا للحواس. وما الحواس إلّا مطية يركبها الشاعر لبلوغ مآربه. من أجل ذلك وفّق غاية التوفيق في الوصف والغزل المعروف أنهما للمبصرين عرفا.

فالشاعر الكفيف انكبّ على حاسة سمعه لتحريك مشاعره وإثارة ذهنه من خلال ميله الطبيعي للمعارف السمعية والجانب الدلالي الصوتي. وفي هذا يقول أبو العلاء المعري:

غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي

نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ

وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذَا قِيـ

ـسَ بِصَوْتِ الْبَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّـ

ـتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ

صَاحِ هَذِهْ قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـ

ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟

خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْـ

أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ

ولم تكن حاسة السمع الوحيدة التي اعتمد عليها الشعراء المكفوفون، بل جميع الحواس الأخرى كاللمس مثلا.

ونرى ذلك جليّا في بعض مقطوعاتهم الشعرية كما في شعر أبي علي البصري في الغزل حيث يقول:

وتحتك بغلة زينت برحل

مواشكة تنازعك اللجاما

وكل الحبّ لغو غير حبي

فقد أردى الحشا وبرى العظاما

وكذلك حاسة الشم التي كانت من الوسائل الأخرى المهمة لديهم تعوضهم عن حاسة البصر؛ إذ حركت عندهم الصور الذهنية ورفدتهم بالكثير من الأحساسيس المتخيلة. يقول بشار في هذا يصف طيب فاه معشوقته:

برود العارضين كأن فاها

بعيد النوم عاتقه عقار

كما انهم اهتموا بالوصف عن طريق السماع فوصفوا الحيوانات والطيور والسماء والليل والحروب وصفا يعجز عنه المبصرون.

فهذا بشار يصف معركة في الليل تحتدم فيها السيوف فتثير شظايا في صورة رهيبة مخيفة لم يستطع الشعرء المبصرون أن يأتوا بمثلها حيث قال:

كأن مثار النقع فوق رؤوسنا

وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه

في قصيدة قال فيها:

اذا كنت في كل الأمور معاتباً

صديقك لم تلقَ الذي لا تعاتبه

فعش واحدا أو صل أخاك فأنه

مقارف ذنبٍ مرة ومجانبه

أذا أنت لم تشرب مراراً على القذى

ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه

أذا الملك الجبار صعّر خده

مشينا إليه بالسيوف نعاتبه

وجيش كجنح الليل يزحف بالحصى

وبالشوك والخطّي حمر ثعالبه

غدونا له والشمس في خدر أمها

تطالعنا والطلّ لم يجر ذائبه

بضرب يذوق الموت من ذاق طعمه

وتدرك من نجّى الفرار مثالبه

كأن مثار النقع فوق رؤوسنا

وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه

فيالهذه الصورة البديعة التي تصوّر ليل المعركة وقد أصبح شظايا من النار تتساقط فوق الرؤوس تعبيرا عن شدتها وصعوبة أوارها.

وهذا أبو العلاء المعرّي وهو يصف الليل وكأنه عروس زنجيَّة فيقول:

لَيلَتي هذِهِ عَرُوسٌ مِنَ الزّن

جِ علَيهَا قَلائدٌ مِن جُمانِ

وَسُهَيلٌ كَوجنَةِ الحبِّ في اللَّو

نِ وقلبُ المُحبِّ في الخَفَقانِ

ثمَّ شابَ الدُّجَى وخَافَ مِنَ الهَجْ

رِ فغطَّى المَشِيبَ بالزَّعفَرانِ

ان الشعراء المكفوفين والعميان يرفضون أن يوصفوا بالعجز وهم يدفعون ذلك بأدبهم وشعرهم وعلمهم ليثبتوا أنهم لا يختلفون عمن سواهم بشيء، بل ذهبوا لأكثر من هذا تفوقهم على المبصرين:

قال ابن عباس بعد ما ذهب بصرهُ:

إنْ يأخُذِ اللَّهُ من عينيَّ نُورَهُما

ففِي لِسانِي وقلبي مِنْهُما نورُ

قلبي ذَكيٌّ وعَقلي غَيْرُ ذي دَخلٍ

وفي فمِي صارمٌ كالسَّيفِ مأثورُ

وفي هذا يقول بشار:

وَغاضَ ضياءُ العَينِ للعِلمِ رافداً

لقَلبٍ إِذا ما ضيَّع النَّاسُ حَصَّلا

وشِعرٍ كَنَوْرِ الرَّوْضِ لاءَمْتُ بَيْنَهُ

بقَولٍ إِذا ما أحزَنَ الشِّعرُ أَسْهلا

ومن أروع ما قيل في هذا المعنى قول علي بن عبد الغني الحصريُّ عندما جعل سوادَ العين يزيد سواد القلب ليصبحا مجتمعين على الفهم والفطنة فيقول:

وقالُوا: قدْ عَميتَ، فقُلت: كلاَّ

وإنِّي اليومَ أَبصَرُ مِن بَصِيرِ

سَوادُ العَينِ زادَ سَوادَ قَلبِي

ليَجتَمِعا على فَهمِ الأُمورِ

وفي الوقت الذي بكى فيه الشعراء المكفوفون فقدانهم لهذه الحاسة المهمة كما فعل الشاعر المعروف صالح بنُ عبد القدوس، الذي فقد عينه فرثاها بقوله:

عزاءكِ أيُّها العَينُ السَّكُوبُ 

ودَمعَكِ، إنَّها نُوَبٌ تَنُوبُ

وكُنتِ كَرِيمَتي وسِراجَ وَجهِي

وكانتْ لي بكِ الدُّنيا تَطِيبُ

فإنْ أكُ قد ثَكِلتُكِ في حَياتي

وفارقَني بكِ الإلفُ الحَبِيبُ

فَكلُّ قَرِينةٍ لا بُدَّ يَوماً

سَيشْعبُ إلفَها عَنها شعُوبُ

على الدُّنيا السَّلامُ، فما لشَيخٍ

ضريرِ العَينِ في الدُّنيَا نَصِيبُ

يمُوتُ المَرءُ وَهوَ يُعَدُّ حيًّا

ويُخلِفُ ظنَّهُ الأَملُ الكَذُوبُ

يُمنِّيني الطَّبيبُ شِفاءَ عَينِي

ومَا غَيرُ الإلهِ لهَا طَبيبُ

إذا ما ماتَ بعضُكَ فَابكِ بَعضاً

فإنَّ البعضَ مِن بَعضٍ قَرِيبُ

إلّا أنهم بصفة عامة ثابتون على هممهم مقاتلون في درب الحياة الصعب الوعر شأنهم شأن المبصرين إن لم يكونوا تفوّقوا عليهم في بعض الأمور. وعلى ذلك يتندر الشاعر إبراهيم علي بديوي بقوله:

قُل لِلبَصِيرِ وكَانَ يَحذَرُ حُفرَةً

فَهَوى بِها مَن ذا الَّذِي أَهوَاكَا؟

بَلْ سائلِ الأَعمَى خَطَا بَينَ الزِّحا

مِ بِلا اصْطِدامٍ مَن يَقُود خُطَاكَا؟