نور في ديجور القيد الطائفي اللبناني

حين يرفض نائب في المجلس النيابي اللبناني، دعوة مرجع ديني، يدعوه للتشاور في أمور الطائفة، أو للاصطفاف الطائفي، كونه مسجلاً في قيد طائفي مفروض عليه منذ الولادة إلى الوفاة، فمعنى ذلك أن هذا النائب، يريد أن يكون وطنياً وحراً وصادقا مع نفسه، ممثلاً للشعب، لا لرجال الدين أو للطوائف، ويرفض أن يكون من مستغلي الأديان لغايات أرضية، حزبية كانت أم مصلحة ذاتية، وأن ولاءه لعلم البلاد وحده، دون الرايات الأخرى، التي لا تعني إلا التشرذم والتفرقة على حساب الوطن ووحدة ترابه! يعني هذا الموقف أيضا أن النائب قد أخلص للأصوات التي أوصلته إلى المجلس النيابي ليكون ريادياً، مميزاً وفريداً بين النواب، وأشبه بنور في عتمة نظام طائفي عنصري قائم على الكذب والنفاق، ضد الحق والخير والجمال، وضد “الله” وضد الإنسان، والعلاقة الخاصة بينه وبين السماء.

هذا ما فعله النائب اللبناني ابراهيم منيمنة والنائبة حليمة قعقور ساعة اعتذرا عن تلبية دعوة دار الفتوى، إلى لقاء يجمع النواب “السنة” تحت عنوان “تعزيز الوحدة السنية الإسلامية والوطنية”. قد تكون لاحظت أيها القارئ الكريم، أنني وضعت علامة الازدواج حول كلمة “السنة”، لا من منطلق وطني يدعو إلى فصل الدين عن الدولة فحسب، بل من منطق إنساني وروحي أيضا، حفاظاً على العمل السياسي من أن تشوبه الشوائب، وعلى الدين كفعل إيمان صادق، وانسجاما مع روح النصوص القرآنية والإنجيلية التي ترفض الشيع والطوائف والمذاهب على حساب وحدة الإيمان، علماً بأنه ليس في القرآن ما هو “سني” أو “شيعي” وليس فيه رجال دين، وليس فيه ذكر لدولة أو خلافة، كما الأناجيل التي ليس فيها ما هو “ماروني” أو “أرثوذكسي” أو “بروتستانتي”، تصنيفات أصبحت مع الزمن مادة للاستغلال السياسي بأبشع صوره، لا في لبنان فحسب، بل في كل مكان في هذه المنطقة العربية الحزينة من العالم! في القرآن آية تكفي لتدحض أي خلاف” إلى الله مرجعكم جميعاً فينبًئكم بما كنتم فيه تختلفون”, ومن آياته” ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق أو المغرب لكن البر من آمن بالله وعمل صالحا”. ومن الحديث قول منسوب إلى النبي العربي: ” ليس منا من دعا إلى عصبية، أو قاتل من أجل عصبية، أو مات من أجل عصبية”!

 التدين غير الإيمان. التدين شكل من اشكال العنصرية التي تفرق بين البشر، كما العنصرية التي تستمد جاهليتها وجلافتها من اللون أو العرق أو العقيدة، أما الإيمان فعلاقة فردية بين الإنسان ونفسه، بينه وبين الأرض والسماء، وهو أقرب ما يكون إلى الحوار الحار الخاص والحميم والصامت بين المحبين، ولا يحتاج إلى هذا الضجيج الذي يعم الفضاء ويصم الآذان، ويذر رماداً في العيون، ولا حتى إلى هذه المعابد التي تتوالد منها مع تعاقب الأزمنة، عصبيات وغرائز وهويات قاتلة هي ضد الإنسان وحريته وكرامته، قيم لا معنى لوجود الإنسان من دونها. فإلى رجال الدين في لبنان، وإلى المؤسسات الدينية التي تأخذ بالدين على أنه مرجع القيم الوحيد، وتأخذ على المواطن خروجه من محيطها وسلطتها، نردهم إلى ما جاء في الكتب، على لسان “المسيح” القائل: “إن الله يريد رحمة ولا يريد ذبيحة”، وقوله: “كلكم أبناء الله تُدعون”، وقوله في مكان آخر “ليس كل من يقول يا رب يدخل ملكوت السماوات بل الذي يعمل بمشيئة ابي الذي في السماوات”، ومطالبته أتباعه بان يصلوا في الخفاء، لأن ربهم يسمعهم علانية. واسمح لأنفسي بأن أذهب في فهمي للنص الإنجيلي إلى أبعد من ذلك فأقول إن “المسيح” يرفض حتى أن يكون هناك مكان واحد للعبادة، سواء كان كنيساً أو كنيسة أو هيكلاً أو ديراً، كما في حواره مع السامرية عند بئر يعقوب، حين جاءته وقالت” “آباؤنا سجدوا في هذا الجبل وانتم تقولون إن أورشليم هي الموضع الذي ينبغي أن يُسجد فيه” فأجابها: “لا يا امرأة، لا في هذا الجبل ولا في أورشليم. الله روح والذين يسجدون له فبالحق والروح يجب أن يسجدوا”، دعوة إيمانية تكفي وحدها لهدم هيكل الفريسييًن والصيارفة، وتخليص الوصية من أُسر التقليد وشوائب الوضع المكذوب في تاريخ المسيحية، وفي طقوس المذاهب المختلفة في الكنائس المختلفة!

بناء على كل ما تقدم، يكون موقف هذا النائب اللبناني وهذه النائبة اللبنانية موقفا وطنيا جليلا، منسجما مع روح القرآن والإنجيل، وأقرب إلى “الله” من موقف أي جهة تدعو إلى الفئوية الدينية، خصوصا في قول منيمنة ” إن اللقاء يتعارض مع المبادئ التي ننطلق منها في عملنا لجهة رفض الاصطفاف الطائفي”، مضيفا ” إن مواقفنا السياسية تنطلق من اللحظة الوطنية الجامعة في 17 تشرين”. ما أجملها جملة، “اللحظة الوطنية الجامعة في 17 تشرين”. كم من السنوات أو العقود يتطلب الأمر ليفهم السياسيون الذي يتخذون من الهويات الطائفية مطية للوصول إلى المراكز، ليفهموا ما تعنيه “اللحظة الوطنية الجامعة”، وكم من السنوات والعقود يتطلب الأمر ليفهم أتباعهم، الذين ما زالوا “حتى هذه اللحظة”، يفتدونهم بالروح والدم، ويخلعون عليهم وشاح الزعامة،” أن أي تبعية طائفية خيانة، وان ارتباطهم بزعيم الطائفة ضد مصالحهم، وضد “الروح الوطنية الجامعة” التي لا يمكن لأي وطن أن يصمد من دونها، وعلى أساسها تقوم دولة العدالة التي تحكمها قوانين المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، ويدير شؤونها أصحاب العقول الحرة والنفوس الحرة.

قد يقول قائل إن في موقف النائب منيمنة والنائبة قعقور تناقضاً، وإن ترشحه في الانتخابات وفق هوية طائفية، يناقض مبدأ “اللحظة الوطنية الجامعة” التي بها يناديان. تهمة قد تبدو في محلها ظاهرياً، لأن أي تقرب من هذا النظام الطائفي، سواء بالترشح أو بالتصويت، يعني دعم هذا النظام الرجعي المتخلف، لكن من الحق أن يقال إن في موقفهما الرافض للتبعية الطائفية، مغامرة وجرأة غير معهودة، وذكاء غير معهود، وفي هذا الرفض فائدة للوطن كله، للمواطنين الشرفاء منهم خاصة، على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم! كان من السهل عليهما، لو أرادا منفعة ذاتية، أن يغردا مع المغردين من أصحاب الشعارات، المتحدثين عن حقوق الطوائف، ويضمنا لنفسهما كرسي النيابية موسماً بعد موسم، لكنهما آثرا تغليب المصلحة الوطنية العامة على المنفعة الخاصة، وفي هذا يستحقان كل تحية وتجًلة واحترام. بقي من الحق أن يقال أيضاً ان نظام القيد الطائفي الذي على أساسه ترشحا، لم يترك لهما ولنظرائهما من نواب التغيير، إلا خيار الترشح على أسسه، فكانت حالهما كحال صائمين لا طعام أمامهم غير أطباق من عدس، عليهم أن يفطروا منها، ومن دون أن تكون لديهما حتى شهوة العدسّ. مهما تكن الحال، فإن طريق التغيير طويلة، لكن يبقى الأمل أن يسعى النواب الأحرار المستقلون إلى العمل على تغيير أسس هذا النظام، والبدء ببناء لبنان جديد، لأن الزبد يذهب جفاء وما ينفع الناس فيبقى في الأرض، أو كما قال فولتير: “يولد البشر متساوين مهما اختلف تاريخ ميلادهم، الفضائل وحدها تصنع الفروق بينهم”!