زاهي وهبي: لحظة كتابة القصيدة انفصل كليا عما يدور حوالي

في حوار مع الحصاد حول رحلته في الاعلام والشعر

 “فلسطين مصابة بفيروس خبيث اسمه الاحتلال الاسرائيلي ولا شفاء لها ولنا منه، إلا بزوال هذا الاحتلال الذي يكشف عن وجهه القبيح كلّما شنّ عدوانًا جديدًا.”

 بيروت من ليندا نصار

يمثّل الشاعر والإعلامي زاهي وهبي تجربة فريدة في الصحافة والإعلام والأدب، إنّه المثقّف والقارئ الذي انطلقت طفولته من الجنوب اللبنانيّ، فكان للطبيعة الفضل في تأسيس تجربته الشعرية، وقد رافقته في مسيرته الكتابيّة وتجلّت عناصرها في نصوصه ليكون الشعر متنفّسًا له وسط كلّ هذا الصخب والضجيج هذا بالإضافة إلى حضور زوجته الإعلاميّة رابعة الزيّات التي يعتبرها الأوكسيجين والداعمة له في حياته.

قدّم زاهي وهبي عدّة برامج أشهرها: “خلّيك بالبيت” و”بيت القصيد” حيث استضاف عددًا كبيرًا من ألمع الشعراء والكتّاب والفنانين بالإضافة إلى الشخصيات الدينية والسياسية، وكانت له تجربة مع عدّة تلفزيونات. كما نال وهبي

زاهي وهبي

الجوائز التقديرية والتكريمات في الإعلام. وهو يعتبر من الشخصيات التي طبعت العالم العربي ببصمة مؤثرة حيث تميّز بانفتاحه على الجغرافيات المجاورة.

كان لحضور زاهي وهبي التأثير الأكبر في لبنان والعالم العربي حيث حمل همّ القضية الفلسطينية وصور الوطن بمختلف تجلياته، بأحزانه ومعاناته، بأفراحه وانتصاراته، من الجنوب اللبناني بشهدائه ودمائه إلى انفجار مرفأ بيروت وما يعانيه لبنان اليوم من اختناق وألم وسط أزمة اقتصادية وسياسيّة لا ترحم.

الحصاد التقت الشاعر والإعلامي زاهي وهبي وكان لها معه الحوار الآتي:

“الحصاد”: بداية نقول لك الحمدلله على سلامتك بعد التجربة القاسية التي عشتها مع فيروس كورونا. ما الذي تودّ قوله بعد هذه المحنة؟

“زاهي وهبي”: أولاً أشكر الله عزّ وجلّ الذي منَّ عليّ بالشفاء، ووهبني عمراً جديداً بعد الوضع الحرج الذي مررت به، فما عانيته واختبرته لم يكن سهلاً على الإطلاق. لقد عشت أيامًا صعبة كنت فيها تحت الخطر وكانت كلّ الاحتمالات واردة، لذا يمكنني القول إنني عدتُ من الموت.

وهنا لا بدّ لي من أن أوجّه الشكر والامتنان لفريق الأطباء والممرضين والعاملين في المركز الطبي في الجامعة الأميركية وبشكل خاص لكلٍّ من: د. زينة كنفاني، د. صلاح زين الدين ود. محمد جواد خليفة، ومن خارج مستشفى الجامعة للدكتور بيار حداد والدكتور علي كويس على الرعاية والاهتمام، والشكر لكلّ الأصدقاء والزملاء من مختلف المواقع والمنابر الإعلامية وبشكل خاص زملائي في قناة الميادين وعلى رأسهم الأستاذ غسان بن جدو على وقفتهم النبيلة الداعمة والمسانِدة، ولزملائي في قناة المستقبل ولكل المحبّين من كل أنحاء العالم الذين رفعوا الصلوات وأضاؤوا الشموع ونذروا النذور في الكنائس والمساجد والمقامات والمزارات. فاستجاب الله لصدق صلواتهم ونذورهم.

 “الحصاد”: زوجتك الإعلامية رابعة الزيات لم تفارقك لحظة، وكانت صلة الوصل بينك وبين العالم خارج المستشفى، ماذا تقول لها؟

“زاهي وهبي”: رابعة كانت الأوكسيجين العاطفي والروحي والمعنوي الذي عوّضني نقص الأوكسيجين الطبيعي، حضورها ومعي وإلى جانبي أكّدا لي معدنها النبيل والأصيل. ولا أبالغ إذا قلت إنّ وجودها إلى جانبي ساهم في عودتي إلى الحياة، ومهما قلت أو كتبت، لن أفيها حقّها كحبيبة وزوجة ورفيقة درب وشريكة حياة وأم لولديّ دالي وكنز.

“الحصاد”: وماذا عن المحبة الهائلة التي أظهرها لك الناس من مختلف البلدان والشرائح والتوجهات؟

“زاهي وهبي”: صدقاً كانت نسبة الأوكسيجين على الشاشة أمامي ترتفع كلما قرأت لي رابعة تغريدة أو مقالة أو كلمة طيبة كتبها أحدهم، أوكلّما أبلغتني بأنّ فلانة أو فلاناً قد اتصل مطمئنًا. تلك المحبة العارمة الغالية التي غمرني بها الأصدقاء والمحبون من كلّ أنحاء العالم ومن مختلف البلدان والمواقع عجّلت في شفائي، ومنحتني القوة على مواجهة الفيروس القاتل. لا شكّ عندي في أنّ الله قد استجاب لتلك الدعوات والصلوات والنذور والشموع التي أضاءها مَن أعرفهم ومَن لا أعرفهم، لقد طوق المحبون عنقي بجميل لن أنساه ما حييت.

“الحصاد”: ما الذي تغيّر في نظرتك إلى الحياة بعد “عودتك من الموت” كما تسمِّيها؟

“زاهي وهبي”: الحياة جميلة يا صاحبي كما قال يومًا الشاعر الكبير ناظم حكمت. لكن لا شيء فيها يستحق العناء غير الحب. الحب هو الزاد والذخيرة المباركة. لقد غيّرت هذه التجربة فيَّ الكثير، لكنها زادتني حباً للحياة وللإنسان في كل مكان. وحده الحب ينقذ العالم.

“الحصاد”: بينما كنت تعاني الفيروس والعالم يعاني الوباء، كانت فلسطين المحتلة تقاوم… ماذا تقول في هذا الشأن؟

“زاهي وهبي”: فلسطين مصابة بفيروس خبيث اسمه الاحتلال الاسرائيلي ولا شفاء لها ولنا إلا بزوال هذا الاحتلال الذي يكشف عن وجهه القبيح كلما شنّ عدوانًا جديدًا، وأمعن في قتل الأبرياء من أطفال ونساء وشيوخ، فيما يعجز عن مواجهة المقاومة الباسلة التي تلقّنه درسًا تلو الآخر بعزيمتها القويّة وإرادتها الصلبة. ولا بدّ هنا من تحية لأرواح الشهداء ولأوجاع الجرحى ولبطولات المقاومين البواسل في فلسطين ولبنان وفي كل بقعة تقاوم الاحتلال والاضطهاد والعسف والجور.

“الحصاد”: حدّثنا عن بداياتك اللغوية وعن طفولتك تحديدًا، وتلك التأثيرات التي عبرت خيالك، عندما كنت في الجنوب اللبناني بين عائلة أزهرت أفرادًا تعشق اللغة وتعبّر بالشعر ولها تجارب شعرية خاصة؟

“زاهي وهبي”:  وُلِدتُ في بيئة شاعرية بكل ما للكلمة من معنى. ففي بلدتي عيناثا الجنوبية على مشارف الجليل الفلسطيني تبدو السماء أقرب، والصلوات أعمق، والكائنات أكثر ألفة ومودّة. خرجت إلى الدنيا في بيت من حجر وطين، كان ثمة ينبوع ماء يتفجّر ربيعًا داخل البيت، وكنّا نحفر مجراه قرب الفِراش كي تتدفّق المياه العذبة البِكر إلى الخارج، كانت عصافير السنونو تبني أعشاشها داخل بيتنا. فمن المعروف أنّ السنونو يبني عشّه من طينَ وقشٍّ وماء، لذا تستهويه البيوت الحجرية والترابية لأنّها تلائمه أكثر. لذا أردد دائمًا أن أوّل صديقين لي هما ينبوع ماء وعصفور سنونو ، وَمَن مثلي حَظِيَ بطفولة فريدة مماثلة؟ أشعر أحيانًا أنّ قصيدتي تولدُ بِكرًا كذاك الينبوع، وأنّ كلمتي تغرّد مثل عصفور. وحتى اليوم لا تزال رائحة الأرض والتراب بعد الشتوة الأولى هي عطري المفضل.

أما حبّ اللغة العربية فقد ورثته من أمي التي كانت ابنة أسرة شريفة، لها باع طويل في اللغة والأدب والشعر والفقه الديني، وغالبًا ما كانت تروي لي قصصًا وحكايات من عيون الأدب العربي القديم، وتلقي على مسامعي قصائد لكبار الشعراء الأقدمين والمعاصرين. كما أنني أؤمن بالجينات الإبداعية. فجدي لأمي كان شاعرًا وفقيهًا وجدي لأبي كان يقرأ الشعر أيضًا.

باكرًا قرأت القرآن الكريم وقصص الأنبياء والسير الشعبية، وجالست كبار السنّ في ساحة القرية وجوار المسجد وكنت أصغي إلى أحاديثهم وحكاياتهم العفويّة بكل ما فيها من تجارب وخلاصات، ثم تفتّحت يفاعتي على المدّ القومي واليساري في جنوب لبنان، ووجود فصائل الثورة الفلسطينية في مدننا وقرانا. فاختلطت القراءات الدينية بالقراءات المعاصرة، بالأدب الثوري والشعر الفلسطيني وشعراء الحداثة اللبنانية. في الحادية عشرة من عمري كنت قد أنهيت قراءة معظم الروايات الكلاسيكية المعروفة مثل ذهب مع الريح، البؤساء، أحدب نوتردام، مرتفعات وذرنج، لمن تُقرع الأجراس، الجريمة والعقاب، الأخوة كارامازوف، أمي، آنّا كارنينا، لوليتا، وصولاً إلى روايات نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس وغسان كنفاني، وغادة السمّان التي كانت أول مَن عرّفني إلى القصيدة الحديثة من خلال نصوصها وكتاباتها فضلًا عن رواياتها التي قرأتها كاملةً.

في المدرسة كنت متميزًا في المواد الأدبية، ومشاركًا دائمًا بكتاباتي في المناسبات التي تقيمها المدرسة، وكذلك في إصدار مجلة الحائط المدرسية. تلك هي الملامح الأولى لما يمكن أن نسمّيه البدايات الأولى برفقة الكتب والرعاة والينابيع والعصافير والرعود والأمطار وأغاني الحطّابين شتاءً والحصّادين صيفًا، ومواويل الصبايا والشباب في الأعراس القروية الجميلة بطقوسها البسيطة وفرحها الصادق.

“الحصاد”: غالبًا ما يوصف الشعر بأنه عامل قويّ وخطير للتغيير الاجتماعي والفكري، خصوصًا إذا كانت مواضيعه تعزّز حقوق الإنسان وصحوة ضميره، فما رأيك  بذلك؟

“زاهي وهبي”:  طبعًا الشعر من أكثر الفنون تأثيرًا في الإنسان. حتى أولئك الذين يظنّون أن لا علاقة جيدة تربطهم بالشِّعر، يصلهم الشعر بطريقة غير مباشرة من خلال الأغاني والأفلام والروايات وسواها. الشعر مادّة خام وأوّلية موجودة أولاً في الحياة نفسها، وفي وجدان الإنسان العميق، وقد رافقت الكائن البشري منذ أن بدأ يتلمّس ويتحسّس وجوده الروحي والعاطفي والفكري الأبعد من الوجود المادي الجسدي. وإلا ماذا نسمّي ملحمة جلجامش ونشيد الأناشيد وكل ما تركه أسلافنا الأوائل في الذاكرة الجماعية والتاريخ البشري؟ الشعر من مكوّنات الحياة الأولى، وما القصيدة بأشكالها المختلفة، إلا وعاء من أوعية الشعر الكثيرة. لذا من البديهي والطبيعي أن أؤمن وأبشّر بأنه من أرقى وسائل الدفاع عن الإنسان والانتصار لحقه في الحياة الحرة الكريمة. ومعظم شعري يتمحور حول هذه النقطة بالذات، على المستويين الفردي والجماعي، الخاص والعام.

“الحصاد”: درجة الوعي لدى الشاعر تقاس من خلال نص القصيدة، فكيف يؤسّس زاهي وهبي قصيدته وهو يخطّها؟ عندما تكتب القصيدة، التي هي رسالة مفتوحة للعالم كله، بمن تفكر لحظتها؟

“زاهي وهبي”:  تتشكل القصيدة في الرأس، مثلما يتشكّل الجنين في رحم أمه. لا ينتبه الشاعر تمامًا للحظة اللقاح، لكنه يبدأ بالانتباه إلى الخفقات الأولى للقصيدة. ففي حالتي تأتيني القصيدة على شكل ومضات متلاحقة، إن لم أبادر فورًا إلى تسطيرها تفلت مني إلى الأبد. وما إن تتبلور الفكرة في ذهني حتى أفرغها على الورق نصًّا كامل الصحة والعافية. وفي حالات أخرى نادرة، تأتي القصيدة دفعة واحدة كالسيل الجارف لا يوقفها شيء، وغالبًا ما تكون هذه الحالة تأثرًا وتفاعلاً مع حدث جسيم، فردي أو جماعي، عاطفي أو وطني، وذلك بحسب اللحظة التي يحياها الشاعر كإنسان في الدرجة الأولى.

لحظة كتابة القصيدة لا أفكّر بغير القصيدة. أنفصل كليًّا عن العالم، وعن كل ما يدور حولي مهما كان بالغ الصخب والضجيج. لا أصغي إلى غير نبض القصيدة ولا أسمع سوى صوتي الداخلي. فالقصيدة تمامًا كالجنين، لا يشارك في لحظة تكوّنه سوى خالقه وأمه، وكذلك حال الشاعر مع نصه. متى دخل شريك آخر، أي شريك، سواء أكانَ القارىءُ الفرد أم الرقيب الجماعي: المجتمع، الدين، السياسة…إلى آخره. فإن النص يولَد مشوّهًا وغير قابل للحياة.

أما لحظة نشر القصيدة فتلك مسألة مختلفة تمامًا. لأن النشر هو شكل من أشكال التواصل مع الآخر، بل هو توجه نحو الآخر لإقامة حوار معه من خلال النص. وكل نص إبداعي يحتاج مرسلاً ومتلقيًا كي يحيا. النص الذي لا يُقرأ هو نص ميت!

“الحصاد”: هل تخضع لسطوة القصيدة وإن كانت حرة، كما قال وعبر عن ذلك يومًا الشاعر الفرنسي “رينيه شار”؟

“زاهي وهبي”:  بطبيعة الحال، القصيدة تفرض نفسها وتفرض شكلها. لذا أكتفي أحيانًا بنص من كلمتين كما فعلت في ما عنونته “صولو”، وكل ما فيه هو التالي: تعبتُ مِنِّي.

حين كتبتُ هذه العبارة شعرت أنها وُلِدتْ كاملة مكتملة، وقالت كل ما كنتُ أود قوله في تلك اللحظة. وبالفعل نشرتها كنصّ مستقل وكامل في كتابي: “رغبات منتصف الحب” الذي صدرت طبعته الأولى في دبي ووُزِّعت مجاناً مع مجلة دبي الثقافية، وصدرت طبعتاه الثانية والثالثة في بيروت.

“الحصاد”: لأن القصائد المغناة محسوسة ومرغوبة بشكل أكبر لدى الشعوب، فهل برأيك القصائد غير المغناة ظلمت في حقّ انتشار فكرتها؟

“زاهي وهبي”:  واضح أن القصيدة المغناة أكثر انتشارًا وشيوعًا، كثير من قصائد نزار قباني ما كانت لِتُعرف لولا نجاة وعبد الحليم وكاظم الساهر، وكذلك حال محمود درويش مع مرسيل خليفة وأميمة الخليل. لكن هل القصائد التي تُغنّى هي دائماً القصائد الأجمل والأعمق؟ لا أعتقد ذلك، هي جميلة بلا شك، لكنها أيضًا سهلة وتحاكي المشاعر الجياشة. أما الأعمق فقد يكون ظلّ حبيس الكتب والدواوين، لكن هذا لا ينفي حقيقة أن المغنّي يخدم الشاعر ويساهم في شهرته وانتشار قصائده، لكن الأهم برأيي أن الشاعر يخدّم المغنّي حين يمنحه نصًّا غير سطحي وغير مُستهلك ومكرّر آلاف المرات كما يحصل في الأغاني التجارية السائدة والمفروضة علينا فرضًا من قبل شركات الإنتاج الكبرى والمنصّات الإعلامية المقتدرة.

من حُسن حظي أنّ كل الذين اختاروا نصوصًا ومقاطع من قصائدي هم من الفنانين الملتزمين والمحترمين مثل: مرسيل خليفة، أميمة الخليل وكورال الفيحاء، أحمد قعبور، هبة القواس، جاهدة وهبة، عبير نعمة، ليال نعمة، بيدر البصري، فايا يونان، هند حامد، زينب أفيلال، محمد المرباطي…وحاليًا دلال أبو آمنة.

“الحصاد”: لاحظنا أن رسّامين ومصممين حولوا قصائدك إلى لوحات تشكيلية وأزياء ومصاغ. ماذا تخبرنا عن هذه التجربة المتميزة؟

“زاهي وهبي”:  يسعدني جدًّا أنّ قصائدي لفتت انتباه مبدعين آخرين أقاموا معها حوارًا مختلفًا وقراءةً من نوع آخر. وبرأيي هذا أمر صحيّ وضروري، لأن الفنون تلهم بعضها البعض، والمبدعون يمثّلون مصادر إلهام لبعضهم البعض. ومن حُسن حظّي أيضًا أنّ قصائدي ألهمت رسامين كبارًا مثل اللبناني الراحل أمين الباشا، والسعودية علا حجازي، والسوري سعد يگن، والسوري المقيم في دبي سهيل بدّور، فضلاً عن مصممين مرموقين مثل المصرية عزّة فهمي، العراقية هناء صادق، الأردنية هامة الحناوي، والفلسطينية ملك حكروش. وأنا من المؤمنين بالانفتاح على التجارب الأخرى والتلاقح فيما بينها، وسبق لي أن قرأت شعرًا بمصاحبة عروض أزياء لها بعد ثقافي، وذلك في بيروت وعمّان، وأنا منفتح على أية تجربة مماثلة.

“الحصاد”: في كل ندوة شعرية تقام لك، يتخطى جمهورك الألف، فهل سأل زاهي يومًا نفسه عن هذا الحضور إن كان فعلاً من متذوقي الشعر أو من معجبي برامجه الإعلامية؟

“زاهي وهبي”: لا شك في أن عملي التلفزيوني قد ساهم في شهرتي الشعرية. لستُ ممّن يتنكرون لهذه الحقيقة، لكن لو كان الأمر متعلقًا فقط بالشهرة الإعلامية لكان الناس أتوا مرة، مرتين، أو ثلاثًا ثم أنصرفوا عني. لكني أثق بأنني استطعت إقامة علاقة حميمة وطيدة وجميلة مع قرائي، أوّلاً من خلال النص الشعري نفسه الذي يجدون فيه ما يحكي أفكارهم وأحلامهم وآمالهم

وآلامهم، ويحاكي مشاعرهم وعواطفهم وما يعتمل في وجدانهم، وكثيرًا ما يقول ويكتب لي قرّائي هذا الأمر. وثانيًا من خلال التواصل الدائم معهم عبر منصات التواصل الاجتماعي التي فتحت لنا المجال الواسع لإقامة علاقة حقيقية مباشرة مع القراء من دون الحاجة إلى أي وسيط. وأحمد الله أن علاقتي مع القراء الذين أُفضِّل تسميتهم بالأصدقاء تتراكم وتتطور وتنضج وتصبح أكثر عمقًا وصدقًا. ويسعدني جدًّا أن أمسياتي في مختلف العواصم والمدن العربية تشهد إقبالاً وحضوراً كثيفين، وإصغاءً وتفاعلاً جميلين.

“الحصاد”:  من المعروف أن لكل شاعر طقوس معينة للحظة الكتابة. فماذا عن طقوس زاهي وهبي؟

“زاهي وهبي”:  أمازح أصدقائي بالقول إنني من سكان المقاهي ورواد البيت. فمنذ قدومي إلى بيروت قبل ٣٧ عامًا أواظب على “الدوام” اليومي في المقهى حيث أقرأ وأكتب وأُعدّ برامجي وألتقي أصدقائي وأجيب على أسئلتك الآن. منذ قرابة أربعة عقود وأنا شريك وشاهد على حياة المقهى البيروتي، على أحواله وتحوّلاته، رافقت معظم مقاهي شارع الحمرا، ما أُقفِلَ منها وما لا يزال قائمًا. المقهى بالنسبة إليّ علامة أساسية من علامات المدينة الفارقة، ولقد ألّفتُ كتابًا كاملاً عن مقاهي بيروت ودورها في الحياة الثقافية الاجتماعية والسياسية، وعن السمات المختلفة بين مقاهي الحمرا ومقاهي وسط المدينة ومقاهي فردان والمقاهي البحرية وسواها، اعتبرتُ فيه المقهى منبرًا من منابرها الأساسية يُضاف إلى المسرح والسينما والمراكز الثقافية. عنوان الكتاب: “قهوة سادة/في أحوال المقهى البيروتي” صدر لمناسبة إعلان اليونسكو بيروت عاصمة للثقافة العربية.

الآن وأنا أرد على أسئلتك، أصغي إلى فقش الموجِ الأبيض المتوسط عند خاصرة بيروت، أسمع أصوات الناس من حولي وقرقعة مياه النراجيل(هذه الآفة المستشرية) ووقع النرد على طاولات لاعبيه، وأختلس نظرة إلى صيادي الأسماك وهم يرمون صناراتهم واثقين بكرَم البحر. إنها متعة حقيقة لا تضاهيها متعة، تشعرك بأن بيروت تبقى عاصمة متميزة واستثنائية مهما جارت عليها الأيام ودارت.

الكثير من قصائدي يا صديقتي يختلط فيها أريج زهر البرتقال والليمون الفائح من بساتين مدينة صور مع الملح المتطاير من رذاذ بحر بيروت مع عطور النساء الأنيقات في مدينة تُعتبَرُ المرأة فيها روح حريتها وعلامة تميزها واختلافها.

“الحصاد”: زاهي وهبي الإعلامي اليوم، وبوصفه حاضرًا منذ سنوات على شاشات التلفزة وفي كل بيت تشاهده العائلات التي أصبحت تميّز حواراته وأسلوبه الراقي… هل خدم كل ذلك قصائدك؟

“زاهي وهبي”: غالبًا ما أردّد أنّ الجامعة الحقيقية التي تخرّجت منها هي حواراتي الصحافية والتلفزيونية التي قدّمتها وأقدمها منذ ٣٥ عاماً، بدءًا من إذاعة “صوت المقاومة الوطنية” وجريدتي “النداء” و”النهار” مرورًا ب”خليك بالبيت” و”ست الحبايب” وصولاً إلى “بيت القصيد”. فالضيوف الذين تعمّقت في قراءة أعمالهم أو مشاهدتها والإصغاء إليها، ثم في قراءة أرشيفهم وسِيَرِهم تحضيرًا لاستضافتهم، ثم في محاورتهم، هم أساتذتي الذين تعلّمت منهم الكثير، زادوني عِلمًا وثقافةً ومعرفةً وخجلاً وتواضعًا.

هذه التجربة الطويلة العميقة والثرية لا شك في أنها أكسبتني وأكسبت قصائدي الكثير، وجعلت علاقتي بالكلمة عمومًا أكثر عمقًا ونضجًا.

“الحصاد”: قدّمت نحو أربعة آلاف شخصية عربية شهيرة ومن كبار المبدعين من خلال برامجك الإعلامية المعروفة، فمن هي الشخصيات الشاعرة تحديدًا التي ظلت في قلبك وذهنك ولم تبارحك حتى اليوم؟

“زاهي وهبي”:  من الصعب جدًّا عليَّ اختيار أسماء محددة، ومن الظلم ذِكْر اسمٍ أو اسمين أو عشرة من بين مئات الشعراء والأدباء الذين حاورتهم وترك كلٌّ منهم أثرًا في نفسي. لذا سأكتفي بالإشارة فقط إلى اثنين: شوقي أبو شقرا الذي عملت معه لثمانية أعوام متواصلة في القسم الثقافي لجريدة “النهار”، وأسمّيه “المعلّم”. ومحمود درويش الذي أحببته نصًّا وقصيدة منذ يفاعتي ثم شاءت الأقدار أن أحاوره مرتين، وأرتبط معه بصداقة جميلة في السنوات العشر الأخيرة من حياته، كتبتُ له شِعرًا في حياته وفي مماته، وكذلك فعلت لشوقي أبي شقرا أطال الله عمره.

“الحصاد”: من المعروف أن أغلب الشعراء لا يقرأون الرواية، فماذا عن علاقة زاهي وهبي بعالم الرواية؟ وما هي قراءات زاهي وهبي؟

“زاهي وهبي”:  الرواية رفيقة عمري مُذْ تعلمت “فكّ الحرف”. قبل سفري بالطائرة سافرت عبر الروايات، عبرت من خلالها إلى المستقبل وعدت بواسطتها إلى الأزمنة السحيقة الغابرة، وتعرّفت من خلالها على أحوال ومصائر أفرادٍ وجماعات، وحتى اليوم لا تزال الرواية جزءًا من يومياتي، سواء لأجل المتعة الشخصية أم للزوم العمل الإعلامي. وآخر ما قرأته في هذا المضمار روايات اللبنانية علوية صبح التي حاورتها في “بيت القصيد” لمناسبة فوزها المُستحَق بجائزة سلطان العويس للرواية للعام ٢٠١٩، والجزائرية ربيعة الجلطي والعراقي سنان أنطون والأردني هزّاع البراري، وحاليًّا بين يديّ رواية “حابي” للكويتي الصديق طالب الرفاعي.

لا غنى لي عن الرواية التي تغذّيني روحيًّا وفكريًّا، وما لا يصلني منها أو لا يتّسع الوقت لقراءته أحاول القراءة عنه والاطلاع على طريقة استقبال القرّاء والنقاد له.

العدد 119 / اب 2021