سوريا – إسرائيل: تحولات أنقرة

تركيا تنهي خلافها مع تل أبيب وتحضّر انقلابا في علاقاتها مع دمشق

لاشيء مستغرب في تبدّل أجندة تركيا في السياسة الخارجية عامة وحيال دول بعينها خاصة. فالسياسة فن الممكن وهي حرفة إدارة المصالح، فلا صداقات أبدية ولا عداوات دائمة. ولئن بدأ حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب أردوغان بالتقيد بوصايا “منظّر” الحزب أحمد داود أوغلو لتصفير المشاكل، فإن الرئيس التركي يعيد تبني ذلك النهج لكن على نحو إنتقائي لا يبدو أنه سيكون تصفيرا شاملا.

وإذا ما كان لافتا اندفاع أنقرة إلى طيّ صفحات التوتر بنجاحات متفاوتة مع السعودية والإمارات ومصر، فإن

وزيرا خارجية سوريا وتركيا التقيا في بلغراد

التحولات اللافتة التي قد يعتبرها المراقبون إنقلابية حادة تتعلق بملف العلاقات مع كل من سوريا وإسرائيل. فالتطبيع الذي أنجز بين أنقرة وكل من أبوظبي والرياض يجري بين تركيا ومجموعة دول متحالفة ذات خيارات سياسية متقاربة. فيما علاقة أنقرة الجديدة مع تل أبيب ودمشق تحمل في طياتها بذورا متناقضة طاردة.

دافوس وبيريز

ستعود علاقات تركيا وإسرائيل إلى سابق عهدها. سيستأنف البلدان تبادل السفراء والقناصل وستطوى صفحة التوتر التي بدأت فعليا منذ المشهد الشهير لانسحاب رجب طيب أردوغان من منتدى دافوس في يناير 2009.

احتجّ الرئيس التركي حينها على الحرب التي شنّتها إسرائيل ضد قطاع غزة. وقف مؤنبّا الرئيس الإسرائيلي آنذاك شمعون بيريز، ثم غادر الجلسة في مشهد نقله الإعلام العالمي مباشرة. بدا أن موقف الرجل استعراض له مرامي لا تتعلق بالضرورة بفلسطين وقضيتها، بل بأجندات طموحة كُشفت خفاياها بعد اندلاع “الربيع” في المنطقة.

تفاقم التصعيد والتوتر في علاقات تركيا وإسرائيل لاحقاً حين هاجمت قوات إسرائيلية في مايو 2010 ناشطين أتراك أبحروا على متن سفينة “مافي مرمرة” للتضامن مع غزة فقتلت وجرحت منهم العشرات. في المنطقة عندنا من أسقط نضالات العرب وراح يبشّر بالسلطنة وزمن الباب العالي.

الموقف التركي ليس مستغربا آنذاك في علوم العلاقات الدولية وأصول الحكم والتمدد في الكتب الكلاسيكية القديمة. والموقف التركي هذه الأيام ليس مستغربا أيضا في نصوص تلك العلوم ونفس الكتب. تسببت غزة ومآسيها في تدهور علاقات تركيا وإسرائيل، ويحتفل   البلدان هذه الأيام بالتطبيع الكامل لعلاقاتهما الدبلوماسية بعد أيام على انتهاء حرب جديدة موجعة شنتها إسرائيل ضد القطاع.

الحدث يأتي منسجماً مع سياق نزول تركيا عن شجرة عالية تسلّقتها السياسة الخارجية لأنقرة منهجاً في التعامل مع ملفات عديدة في المنطقة. تبدّل الزمن وترجلت ظروف أخرى وانقلبت الأولويات في تركيا. أشياء كثيرة تغيرت في تركيا. بالمقابل لا شيء كثير في الغيّ ضد الفلسطينيين قد تغير في إسرائيل يبرر تحوّل الخطاب التركي حيال إسرائيل من النقيض إلى النقيض.

الانقلابات

في الأيام الأخيرة “ارتكبت” السياسة الخارجية التركية سلسلة أعراض تحضّر البلد لانقلاب في سياسة أنقرة مع دمشق. ومن يلوّح بإمكانات الوصل مع النظام في سوريا، لن تصعب عليه الحجّة في طيّ صفحة الخلاف مع إسرائيل.

في حالة سوريا وعدت التصريحات التركية بأن أي تبدل في السياسة التركية حيال دمشق لن يأتي على حساب “القضية” والمعارضة السوريتين. وفي الحالة الإسرائيلية يَعِد وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو أن بلاده لن تتخلى عن “القضية” الفلسطينية على الرغم من إعادة العلاقات كاملة مع إسرائيل. لا بل أكثر من ذلك يخرج الرئيس التركي خلال مؤتمر للسفراء الأتراك في أنقرة مؤخرا  وصفة تفتي أن تجديد العلاقات بين إسرائيل وتركيا (وليس مشهد دافوس والقطيعة) سيتيح للأتراك مساعدة “إخوتهم الفلسطينيين”.

يوفّر الحدث هدايا انتخابية يسعى إليها يائير لابيد لاستثمارها في انتخابات الكنيست المقبلة، ويوفّر أيضا لأردوغان، مع سلسلة من التحولات الدبلوماسية في العلاقة مع دول أخرى، لا سيما السعودية والإمارات ومصر، أدوات إعداد للانتخابات في تركيا في يونيو من العام المقبل.

تعود علاقات تركيا وإسرائيل إلى عادياتها بعدما عمل البلدان بدأب على ترميمها. زار الرئيس الإسرائيلي إسحق هرتسوغ تركيا في مارس الماضي فاستقبل بحفاوة. وتبادل وزيري خارجية تركيا وإسرائيل الزيارات الرسمية “البناءة” وتوقفت الحملات الإعلامية المتبادلة.

سهل في هذا السياق استنتاج أن لهجة تركيا في “التعليق” على حرب غزة الأخيرة كانت هادئة معتدلة وتكاد في الدعوة إلى وقف الحرب إلى مساواة أطراف. كما أن امتناع حركة حماس، القريبة من أنقرة، عن المشاركة في الحرب الأخيرة والنأي بنفسها عن المشاركة في الردّ على الهجمات الإسرائيلية ضد حركة الجهاد الإسلامي، لم يكن بعيداً عن “تمنيات” تركية في هذا الصدد لاحظتها إسرائيل جيداً.

البزنس

واللافت أن تراجع العلاقات الدبلوماسية وسحب السفراء بين البلدين منذ عام 2018، لم يمنع من استمرار علاقات “البزنس” بينهما من دون أي تأثّر يذكر. وصل حجم التبادل التجاري بين تركيا وإسرائيل عام 2021 إلى 8.1 مليار

هل تشن تركيا حملتها العسكرية في سوريا؟

دولار، ما يعني أن البنى التحتية لتطوير العلاقات الاقتصادية لا سيما في قطاع الطاقة والغاز حاضنة واعدة لرفع مستوى المنافع الاقتصادية لكلا الطرفين.

تُرتب تركيا علاقاتها مع دول المنطقة بحساسية وحذر على نحو يسعى لأن يكون محسوبا. تقترب تركيا من إسرائيل فيما تنخرط الأخيرة في حرب غير مباشرة وأخرى موعودة ضد إيران جارة تركيا وشريكتها في أستانا. تناور أنقرة في حراكها بين موسكو وواشنطن، ويبدو ملف إسرائيل مكمّلا لاستراتيجية تعدد الخيارات وتنوّع العلاقات. لم تنقطع العلاقات المخابراتية الأمنية بين البلدين حتى في عزّ القطيعة، حتى أن لابيد اعترف بأن تعاوناً  وثيقا مع تركيا أسفر عن إحباط محاولة إيرانية لاستهداف إسرائيليين.

لا شيء غير منطقي في تحولات تركيا القديمة الجديدة. ما هو غير منطقي هو إبحار بعض أهل المنطقة في أية مراكب والنفخ في أشرعتها مهما تعددت موانئها واختلفت اتجاهات رياحها.

باب دمشق

يعلن وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو في منتصف آب (أغسطس) أنه التقى نظيره السوري فيصل المقداد قبل فترة. الخبر على أهميته ليس هنا، بل في أن الاجتماع جرى على هامش مؤتمر دول عدم الانحياز الأخير في بلغراد. والخبر ليس هنا أيضا، بل في أن هذا المؤتمر انعقد في تشرين الأول (أكتوبر) من العام الماضي، أي منذ 12 شهراً.

كان على الوزير التركي أن ينتظر موعداً سياسيا ليعلن عن خبر بائت وجعله طازجاً يستحق الضجيج الذي أحدثه لدى السوريين كما لدى المعنيين والمهتمين بالشأن السوري. لم يلتق الوزيران في ذلك الوقت صدفة أو لباقة، بل بناء على ترتيبات تجري بين الوزارتين قد تكون موسكو قد ساهمت في تشجيعها. ومع ذلك لم يكن هذا اللقاء شكلا ومضمونا بالمستوى الذي يدفع للجهر به في ذلك الوقت.

سبق للوزير التركي في 27 تموز (يوليو) أن تولى إطلاق سبق آخر حين أعرب فيه عن استعداد بلاده لتقديم الدعم السياسي للنظام السوري في مواجهة قوات سوريا الديمقراطية “قسد” والتنظيمات الكردية المسلحة في مناطق شمال شوريا. أتى هذا “الودّ” الطارئ في سياق موقف تركيا من الجماعات الكردية في شمال وشرق سوريا التي تعتبرها تركيا إرهابية وأنها الذراع السورية لحزب العمال الكردستاني.

أيا كانت المناسبات ومهما تعددت السياقات فإن أنقرة تتقصّد بعث رسائل ملتبسة هدفها تحضير الرأي العالم لانعطافة في شأن سوريا وتحوّلات في العلاقة مع دمشق، بما في ذلك احتمال رفع مستوى التواصل من مستواه الأمني

هل من صفقة روسية تركية حول سوريا

المخابراتي، الجاري حالياً، إلى سياسي قد يصلّ إلى مستوى الرئيسين في البلدين.

موت الايديولوجيا

وقد لا يبتعد الموقف التركي المحتمل الجديد، على صعوبته، من التحولات الدراماتيكية التي طرأت على كل السياسة الخارجية التركية مع دول الإقليم في الأشهر الأخيرة. وقد لا يكون تسويق التقارب مع دمشق أكثر صعوبة من تمارين التسويق لدى الرأي العام التركي كما لدى لدى فضاءات النفوذ داخل العالم العربي بما في ذلك جماعات الإسلام السياسي، لعملية التطبيع التي تمت في علاقات تركيا مع السعودية والإمارات أو لمرحلة التبريد والحوار الجارية حاليا مع مصر.

وإذا ما أزال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الطابع الإيديولوجي عن سياسات بلاده الخارجية في محاولة لتصفير النزاعات في عدد من ملفات علاقات تركيا الخارجية، وإذا ما انتهج لذلك عقلانية براغماتية خدمة لمصالح بلاده ومصالحه السياسية على رأس البلاد، فإن “الورشة” السورية لن تخرج أبداً عن هذا الإطار ولن يكون مستغرباً، وفق ذاك، أن تتطور علاقات أنقرة ودمشق باتجاهات محسوبة دقيقة.

تذكّر جاويش أوغلو موعداً جمعه مع المقداد في الخريف الماضي بعد أسابيع على قمة جمعت الرئيس التركي بنظيريه الروسي والإيراني في طهران في 20 تموز (يوليو)  وبعد أيام على قمة جمعت أردوغان بنظيره الروسي في سوتشي في 5 آب (أغسطس). ولئن حظي الرئيس التركي في المناسبتين بـ “تفهّم” الشركاء لهواجس تركيا الأمنية والوعد برعاية ترتيبات تُطمئن أنقرة، إلا أن ما أُعلن من مواقف كان رادعاً للمضي قدما بعملية عسكرية كبرى شمال سوريا كان قد توعّد بها قبل أشهر.

وإذا ما شاركت الولايات المتحدة في قطع الطريق على خطط أردوغان العسكرية أيضا، إلا أن أنقرة بدأت تستنتج إمكانية نيل مكاسب من خلال التوافق مع طهران وموسكو أكثر من إمكانية أن تحظى بمنجز ما في الملف الأمني المتعلق بالتعامل مع “قسد” من خلال الولايات المتحدة. صحيح أن السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام وقيادات عسكرية غربية زارت المنطقة واجتمعت مع قيادات كردية لتسويق تسوية ما، لكن الموقف الكردي كشف إخفاق واشنطن وربما غياب سياسة أميركية في هذا الصدد.

أوراق الأكراد

يستقوي الطرف الكردي بتحالف مع إيران لمنع تمدد تركي في شمال البلاد. ويستقوي أيضا إضافة إلى الموقف الأميركي الداعم، بحسابات روسية لا تريد لتركيا القيام بما يمكن أن يهدد هيمنة موسكو على مسارات سوريا ويقوّض خططها لتسويق “الحلّ السوري”. وإذا ما تقدمت قوات دمشق وأصبحت تطل رافعة الإعلام من مواقع ميدانية

تركيا طوت صفحة انهيار علاقتها مع إسرائيل

محسوبة على “قسد، فإن ذلك المشهد يسهّل على الرئيس بوتين خطته الجديدة القديمة لتطبيع في علاقات أنقرة ودمشق يعيد الاعتبار لاتفاق أضنة لعام 1998 التي تنظم الحركة العسكرية التركية على الحدود بين البلدين.

تلميحات جاويش أوغلو، بما في ذلك حديثة عن مصالحة بين معارضة ونظام، قد تعني أن التطبيع بات قرارا استراتيجيا تركيا وأن واجهاته قد تكون فورية صاعقة. لكن تلك التلميحات قد لا تعدو كونها مناورة دبلوماسية تهدف إلى مجاراة ضغوط بوتين وإلى شراء الوقت بانتظار تغيرات جيوستراتيجية تكون أكثر وضوحا، خصوصا أن ما أنجز في قمة سوتشي بين أردوغان وبوتين قد يضع لبنات لتحول استراتيجي كبير في علاقات البلدين الاقتصاد، بما ينعش اقتصاد تركيا ويجعل البلد متنفسا استراتيجيا لاقتصاد روسيا إلى درجة الالتفاف الكامل على العقوبات الغربية. هنا فقط نفهم رسائل أنقرة إلى الغرب من بوابة دمشق.

الموقف التركي ليس مستغربا آنذاك في علوم العلاقات الدولية وأصول الحكم والتمدد في الكتب الكلاسيكية القديمة. والموقف التركي هذه الأيام ليس مستغربا أيضا في نصوص تلك العلوم ونفس الكتب. تسببت غزة ومآسيها في تدهور علاقات تركيا وإسرائيل، ويحتفل   البلدان هذه الأيام بالتطبيع الكامل لعلاقاتهما الدبلوماسية بعد أيام على انتهاء حرب جديدة موجعة شنتها إسرائيل ضد القطاع.

سهل في هذا السياق استنتاج أن لهجة تركيا في “التعليق” على حرب غزة الأخيرة كانت هادئة معتدلة وتكاد في الدعوة إلى وقف الحرب إلى مساواة أطراف. كما أن امتناع حركة حماس، القريبة من أنقرة، عن المشاركة في الحرب الأخيرة والنأي بنفسها عن المشاركة في الردّ على الهجمات الإسرائيلية ضد حركة الجهاد الإسلامي، لم يكن بعيداً عن “تمنيات” تركية في هذا الصدد لاحظتها إسرائيل جيداً.

وإذا ما أزال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الطابع الإيديولوجي عن سياسات بلاده الخارجية في محاولة لتصفير النزاعات في عدد من ملفات علاقات تركيا الخارجية، وإذا ما انتهج لذلك عقلانية براغماتية خدمة لمصالح بلاده ومصالحه السياسية على رأس البلاد، فإن “الورشة” السورية لن تخرج أبداً عن هذا الإطار ولن يكون مستغرباً، وفق ذاك، أن تتطور علاقات أنقرة ودمشق باتجاهات محسوبة دقيقة.

يستقوي الطرف الكردي بتحالف مع إيران لمنع تمدد تركي في شمال البلاد. ويستقوي أيضا إضافة إلى الموقف الأميركي الداعم، بحسابات روسية لا تريد لتركيا القيام بما يمكن أن يهدد هيمنة موسكو على مسارات سوريا ويقوّض خططها لتسويق “الحلّ السوري”. وإذا ما تقدمت قوات دمشق وأصبحت تطل رافعة الإعلام من مواقع ميدانية محسوبة على “قسد، فإن ذلك المشهد يسهّل على الرئيس بوتين خطته الجديدة القديمة لتطبيع في علاقات أنقرة ودمشق يعيد الاعتبار لاتفاق أضنة لعام 1998 التي تنظم الحركة العسكرية التركية على الحدود بين البلدين.

تركيا-إسرائيل: لماذا ساءت العلاقات؟

تدهورت العلاقات في عام 2018، بعد أن طردت تركيا السفير الإسرائيلي لديها احتجاجا على مقتل عشرات الشبان الفلسطينيين عند حدود غزة، وهو ما ردت عليه إسرائيل بالمثل.

تتذكرر إسرائيل موقف أردوغان خلال منتدى دافوس الاقتصادي عام 2009، وكيف خاطب الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريتس بلغة هجومية واصفا إياه بقاتل الأطفال، بعد أشهر من قيام إسرائيل بعملية عسكرية واسعة النطاق في غزة، وما تلاه من قيام تركيا بإرسال سفينة (مافي مرمرة) الى شواطئ غزة، في محاولة لكسر الحصار الإسرائيلي المفروض عليها، حيث هاجمت البحرية الإسرائيلية السفينة ما أدى الى مقتل عشرة من المواطنين الأتراك.

ورغم قيام إسرائيل بتقديم اعتذار رسمي لأنقرة عن الهجوم، ودفعها لتعويضات مالية لأسر القتلى عام 2015، إلا أن ذلك لم يكن كافيا لتهدئة الموقف، فأنقرة لعبت دورا محوريا في إدانة العمليات العسكرية الإسرائيلية على غزة في عامي 2012 و2014، في الأمم المتحدة، كما عبرت عن رفضها لمشروع الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، لإيجاد تسوية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بل ونددت باتفاقات السلام التي وقعتها إسرائيل مع دول عربية كالإمارات والبحرين والمغرب والسودان، معتبرة إياها طعنة في ظهر الفلسطينيين.

ماذا تريد أنقرة؟

مراقبون يرون أن سياسة أنقرة الهادفة إلى تصفير مشاكلها الخارجية تمر عبر ممر إسرائيلي إجباري، كيف لا وإسرائيل تقيم تحالفا هاما، لاستثمار مصادر الطاقة في شرق المتوسط، مع خصوم تركيا في المنطقة وفي المقدمة منهم اليونان، بعد توقيعها مع قبرص واليونان، على اتفاق يقضي بإنشاء خط لتصدير الغاز باسم (إيست ميد) ينطلق من أمام السواحل الإسرائيلية وصولا إلى أوروبا ويمر عبر موانئ قبرص واليونان، وهو أمر رفضته تركيا، بدعوى أن المشروع سيخترق مناطق الصلاحيات البحرية والنفوذ الاقتصادي بين تركيا وليبيا، ولأن المشروع لا يصب في صالح توجهات تركيا الراغبة بالحصول على حصة من موارد الطاقة في شرق المتوسط،

غير أن الموقف الحاسم جاء من واشنطن، بعد أن عبرت إدارة بايدن مؤخرا عن قناعتها بعدم جدوى المشروع، الأمر الذي سيدفع دول المنطقة، للبحث عن طريقة أخرى لتسويق حصصها من الغاز المكتشف أمام سواحلها، وهنا تسعى تركيا للدخول على خط التحالف وتقديم بدائل تصب في مصلحتها.

حماس وإسرائيل

بينما تواصل إسرائيل اتهاماتها لأنقرة، بتقديم تسهيلات لقادة حماس، وتوفير ملجأ لهم على أراضيها، بدا أن تقدما حصل في هذا الخصوص، بعد أن كشفت صحيفة حورييت التركية، المقربة من الحكومة، النقاب عن أن أنقرة أبلغت قيادة حركة حماس مؤخرا بأنها لا ترغب بإبقاء أي من عناصر الجناح المسلح للحركة داخل تركيا، بعد اتهامات إسرائيل لهم، باستخدام الأراضي التركية كقاعدة للتخطيط لشن هجمات داخل حدودها.

وقالت الصحيفة، إن أنقرة أطلقت منذ أكثر من عام محادثات سرية مع عدة دول في المنطقة، من بينها إسرائيل، لإخراج قيادات حماس، المقيمة على أراضيها.

وحسب ما نقل موقع “i24News” الإسرائيلي، أبلغت أنقرة حماس بأنها لا تريد بقاء العسكريين من الحركة على أراضيها، و”لن توفر مساعدات عسكرية للحركة”، ولكنها ستسمح فقط باستمرار النشاط السياسي لحماس على أراضيها.

ورغم عدم إصدار أنقرة أو حماس، أي نفي أو تأكيد لتلك الأنباء، إلا أن مصادر إسرائيلية أخرى، أكدت أن من بين المطالب التي تقدمت بها إسرائيل، إبعاد تركيا لتسعة من عناصر حماس الذين يقيمون فيها، بناء على اتفاق تبادل الأسرى الذي تم التوصل إليه بين حماس وإسرائيل عام 2011، والمعروف بصفقة الإفراج عن الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، حيث أفرجت إسرائيل بموجب ذلك الاتفاق عن 1027 معتقلا فلسطينيا، وتم التوافق على إبعاد عشرة منهم الى تركيا، من بينهم تسعة من عناصر حماس وفتاة فلسطينية تنتمي لحركة فتح.

ميدان سوريا

تناول تقرير لفاينانشيال تايمز العلاقة بين تركيا والأكراد كتبه مراسلا الصحيفة أندرو إينغلاند ولورا بيتيل من على الحدود التركية السورية. ويقول التقرير “مع حلول الليل تقل حركة الشاحنات العابرة من خلال معبر “أونجو بينار” الواقع على الحدود السورية التركية، ولا يبقى سوى الشاحنات المتربة التي أفرغت حمولتها في سوريا، ومن بوابة أخرى يعود الأتراك العاملون في الخدمة المدنية والمساعدات إلى وطنهم، بعد يوم طويل آخر من العمل في بلد أنهكته الحرب”.

ويواصل مراسلا الصحيفة نقل المشهد بالقول: يبدو أن كل أذرع للدولة التركية تقريبًا موجودة أثناء رحلة العودة من شمال سوريا إلى محافظة كلس التركية حتى موظفي وزارة الرياضة. إن المشهد هنا يعكس دور تركيا العميق في رسم مستقبل الشمال السوري، بعدما نفذت توغلات عسكرية لدفع وحدات حماية الشعب الكردي بعيدا عن الحدود.

والوجود التركي في سوريا هو الأكبر في دولة عربية منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية عام 1918، وقد يزداد هذا الوجود إذ أن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، يهدد بشن هجوم جديد لإحكام سيطرة بلاده على الشمال السوري.

وإذا ما نفذ أردوغان تهديداته فإن هذا سيتطلب مزيدا من التدقيق في استراتيجيته بعيدة المدى في سوريا، ودور الفاعلين الأجانب في سوريا بعد عقد من الصراع في البلد العربي.

وعلى مدى العامين الماضيين، أصبح تفتت الدولة وضعا راهنا غير سهل بعد حملة الرئيس السوري بشار الأسد لقمع الانتفاضة في عام 2011 وتدويل الحرب الأهلية بالبلاد.

مدعوما من روسيا وإيران وميليشات مدعومة من إيران، تمكن بشار الأسد من استعادة السيطرة على أجزاء كبيرة من البلاد ولكنه يترأس دولة محطمة.

واتجهت بقايا المعارضة إلى الشمال حيث تعتمد على القوة العسكرية والمالية لتركيا، وفي الشمال الشرقي تسيطر الميليشيات التي يقودها الأكراد على حوالي خمس البلاد، وهي تلقى دعما أمريكيا إذ يتوفر لها حماية فاعلة من 800 جندي أمريكي.

وبحسب الصحيفة فإن “الصراع مجمد في ظل عدم فاعلية الجهود الدولية من أجل التوصل لحل سياسي للأزمة السورية كما أن الاهتمام الغربي بالأزمة تقلص”.

وتقول دارين خليفة، محللة الملف السوري في مجموعة الأزمات الدولية: “في الواقع تحفز ديناميكيات ومخاطر الصراع القوى الأجنبية على البقاء في سوريا. وطالما فعلوا ذلك، فمن المرجح أن يستمر المأزق الحالي وهو يشبه تقسيما فعليا للبلاد”.

ويتابع مراسلا فاينانشيال تايمز توضيح الصورة في الشمال السوري، إذ يقولا إن المدارس، في المناطق الثلاث التي تتحكم فيها أنقرة، تُدرس اللغة التركية كلغة ثانية ويُعالج المرضى في مستشفيات تركية بنيت في تلك المناطق، كما أن الكهرباء تأتي عبر تركيا، والليرة التركية هي العملة الأكثر تداولا.

وعلى الصعيد الأمني، تدرب أنقرة وتدفع الرواتب لأكثر من 50 ألف مقاتل سوري، ونشرت قواتها في سوريا، وبنت قواعد عسكرية عملاقة على الحدود وحائط حدودي بطول 873 كيلومتر.

ويرغب أردوغان – بالإضافة إلى إنهاء وجود وحدات حماية الشعب الكردية ذات الصلة بحزب العمال الكردستاني – في إنشاء منطقة آمنة لتشجيع عودة ما يقرب من 3.7 مليون لاجئ سوري، إذ أصبح وجودهم في تركيا غير مقبول شعبيا.

وتنقل الصحيفة عن مسؤول تركي نفيه القوي أن بلاده تسعى لتغيير النسيج الاجتماعي لسوريا، مؤكدا أن العديد من الأصدقاء العرب والغربيين لم يفهموا التوجه التركي.

وبحسب الصحيفة فإن التخوف الرئيسي لأنقرة هو أن طول فترة سيطرة وحدات حماية الشعب التركي على مناطق معينة قد يكون دافع لها مستقبلا لجعل تلك المناطق موطنا للأكراد.

العدد 133 / تشرين الاول 2022