شبكة الأعمال والنفوذ لم تسقط مع سقوط بن علي والطبقة السياسية تعترف بعجزها

محمد قواص

نجحت تونس في خلق مثال مختلف عن عالم »الربيع العربي«. لم يؤدّ حراك البلد إلى حرب أهلية على منوال ما هو حاصل في بلدان »الربيع« الأخرى. خيّل للمراقب أن البلد صغير الحجم يحظى بانسجام مجتمعي نسبي لا تقسمه الطوائف ولا تعبث عشائر بوحدته. ثم أن البلد ليس منجما لليورانيوم ولا تخبئ تربته حقول الغاز والبترول، على النحو الذي يجعله فريسة اطماع وطموحات وحسابات تتجاوز حدود البلاد. وفيما بدا أن الطبقة السياسية التونسية استطاعت بفرادة عجيبة التوصل إلى صيغة تعايش لا تصادم، تبدو عاجزة عن مواجهة ورم بعد الثورة: الفساد.

 تأمل العالم في أوائل عام 2011 ما أطلق عليه اسم »ثورة الياسمين« في تونس دون أن يخطر ببال أحد أن إضرام محمد البوعزيزي النار بنفسه أمام مقر ولاية سيدي بوزيد في ذلك البلد سيضرم نيراناً لا تتوقف في كل المنطقة العربية. لا البوعزيزي قصد ذلك ولا الجموع التي خرجت متضامنة مستنكرة سعت لذلك. فجلّ ما طمح إليه التونسيون القليل من الإصلاح والقليل من الحريات والقليل من التدابير لمكافحة الفساد.

»بن علي هرب«. يذكر العرب ذلك الهتاف الذي ردده مواطن تونسي ذات ليل ودأبت فضائية عربية على تكرار بثّه. سقط النظام كما أرادت الهتافات. انتظر أهل البلد أن يطلع عليهم صبح آخر يزيل عنهم عتمة الديكتاتورية وعفن الفساد الذي لطالما التصق بمحيط القصر الرئاسي، وخصوصا تلك القصص التي راجت حول آل الطرابلسي القريبين من ليلى زوجة الرئيس بن علي. هناك فقط كان التونسيون يعرفون أن روائح الفساد تتجمع.

بعد خمس سنوات على الحدث لم يعد التونسيون يعرفون أين هو مركز الفساد في تونس. شاعت الظاهرة وبدت وباء معدياً يتفشى داخل التركيبات الإجتماعية المتّصلة بالسلطة. تبددت روائح الياسمين التي أوحت بها ثورة التونسيين وفاح عبق نتن يتسرّب داخل الحركة الاقتصادية للبلاد في جانبها العام أو ذلك التفصيلي المحلي. تعملّقت الظاهرة حتى باتت قدراً وجب الإذعان لشروطه، حتى أن رئيس الحكومة السابق الحبيب الصيد وقف أمام البرلمان مستسلماً لذلك القدر متهماً ضمناً كل النظام السياسي بالتواطؤ فيه معتبراً »أن مكافحة الإرهاب في البلاد أسهل من مكافحة الفساد فيها.

تُسقط تونس حكومة الصيد. تُسقط »أحزاب الياسمين« حكومة الرجل معترفة بفشلها وفشله وحكومته على مواجهة أزمات الاقتصاد والفساد والأمن والاستقرار. يرحل الرجل دون أن يعرف أهل البلاد لماذا ذلك الفشل ومن أفشل الرجل الذي أتت به أحزاب الفعل وما الذي يضمن نجاح خلفه الذي اختارته نفس الأطراف والتي لا تشي بأنها لن تستخدم معه كما مع سلفه نفس السلوك.

يوسف الشاهد هو رئيس الحكومة السابع منذ اسقاط بن علي، وحكومته هي الثامنة منذ ذلك الوقت. للمراقب أن يعتبر أن تغيير حكومات البلد بمعدل واحدة كل سبعة أشهر يعكس عدم استقرار سياسي ووهناً في حكم البلاد. لكن للمراقب أن يستنتج أن الأمر يعبّر أيضاً عن حيوية سياسية لا تستكين تمارسها القوى الحزبية والنقابية وجمعيات المجتمع المدني على نحو لا يتيح استقراراً لعلل ويعكس توقاً نحو المغامرة في العلاج.

يذهب المتفائلون إلى التعويل على رئيس الحكومة الشاب ذلك أنه ينتمي إلى جيل يعرف شروط العصر ويجيد استخدام أدواته ولم يتلوّث بالملفات التي يختلط داخلها »البزنس« بالسياسة. ويأخذ المعترضون والمتحفّظون على الرجل صغر سنه وطراوة عوده في السياسة في وقت تحتاج به البلاد إلى شخصية قوية لها باع طويل وخبرة ومراس في هذا المضمار. ويتذكّر المتخفّظون أن الرئيس السبسي سبق وعيّن الشاهد رئيسا للجنة التي أنيط بها حلّ أزمة حزب نداء تونس وفشل في ذلك، متسائلين كيف للرجل الذي أخفق في حلّ أزمة حزب أن ينجح في حل أزمة بلد؟

 التقط المعترضون )الجبهة الشعبية خصوصاً( أيضاً القرابة التي تصل رئيس الحكومة المعيّن برئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي ليحذروا من حكم العائلة والتفرد والسهر على مصالح اللوبيات المرتبطة بأهل السلطة. فيما ذهبت أصوات أخرى تحذّر من مساعي التوريث التي يشتبه بأن الرئيس يحضّرها لنجله حافظ.

أطل يوسف الشاهد على أهل تونس رافعا التحدي ضد خمس اولويات: كسب الحرب على الارهاب، إعلان الحرب على الفساد والفاسدين، الرفع في نسق النمو لخلق الشغل، التحكم في التوازنات المالية، مسألة النظافة والبيئة. لا تحمل تلك الأولويات جديداً، ولا يهم المواطن أن يسمع بتكرار ممل عناويين أمراض بلده. والمهم والأهم هي الوصفات التي ينوي رئيس الحكومة الجديد تطبيقها والتي عجز سلفه عن اجتراحها، لا سيما أن جُل المراقبين يعتبرون أن أس الداء يكمن في السلوك الحزبي القائم وتواطوئه في تبادل التمريرات على حساب نجاعة العمل الحكومي وفعاليته.

بين نداء تونس وحركة النهضة يجري تفصيل على مقاس التشكيليين الأساسيين في المشهد البرلماني الحالي، وقد يتمدد التواطؤ إلى ما يطلق عليه »الإئتلاف الرباعي« وقد يمتد شكلاً إلى أحزاب أخرى أقل وزناً. ويجمع العارفون في تونس على أن الأحزاب الكبرى تنتج رئيس الحكومة وتريده طيّعا بين يديها منفذاً لأجنداتها، على ما يثقل من حركة الملفات لا سيما تلك المتعلقة بالفساد.

في خطاب الشاهد عزم على تشكيل حكومة سياسية مطعمة بكفاءات وطنية. في المبدإ لن تمر الحكومة في البرلمان إلا إذا رضيت عنها الأحزاب الراجحة، وبالتالي فإن الجسم الحكومي سيبقى مرتهناً لمزاج تلك الأحزاب وسيحول دون أي فعل طموح لرئيس الحكومة الشاب وفريقه الوزاري إذا ما ذهب بعيداً وخارج حدود الملعب المحدد.

من خارج تونس من يراقب التجربة الديمقراطية التونسية بصفتها استثناء على قاعدة وسمت كافة البلدان التي أصابتها لوثة »الربيع العربي«. يجابه هذا البلد الصغير موجات إرهاب تستهدفه، فيما آلاف من أبنائه يقاتلون في صفوف »الجهاديين« في سوريا والعراق. تصدّت تونس البورقيبية لمحاولات أسلمة البلد، تارة بالحراك الميداني في شوارع البلد وتارة في صناديق الإقتراع. تجنّبت تيارات البلد التصادم وراحت باتجاه الحوار الذي استحق رعاتُه جائزة نوبل للسلام. فيما مثّلت حركة النهضة أعراض مشروع لهيمنة الإسلام السياسي على حكم المنطقة، يواظب زعيمها راشد الغنوشي على مراكمة المواقف التي تعزل الدعوي عن السياسي وتلك التي تباعده عن التنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين.

وفي تسليط المجهر على أزمة الحكم تبدو تونس ممسكة بزمام المبادرة لجهة التصويب الذاتي للنظام السياسي الحالي. تسير روحية الحكم الراهن في تونس وفق عناويين عامة تحمل إسم وثيقة قرطاج والتي وقعتها تسعة أحزاب وثلاث منظمات نقابية )الاتحاد التونسي للشغل واتحاد الصناعة والتجارة واتحاد الفلاحين( تشكّل السقف المواكب للعمل الحكومي، على نحو يحشر الجدل داخل المشهد السياسي الشرعي على ما هو معمول به في كنف الديمقراطيات الكبرى. وتبدو حركة الشارع التونسي مواكبة منبهة متيقظة جاهزة للتدخل كلما كان ذلك ضروريا لتصحيح شطط المنظومة السياسية ووقف بلادتها.

منذ حكومتيّ محمد الغنوشي مرورا بحكومات الباجي قايد السبسي وحمادي الجبالي وعلي العريض والمهدي جمعة انتهاء بحكومة الحبيب الصيد، عاشت تونس عواصف وأنواء، وتجاوزت استحقاقات أمنية كبرى. ومع ذلك بقيت ظاهرة الفساد متصاعدة عصيّة متجذّرة. وإذا ما كانت الظاهرة معممة على بلدان كثيرة في المنطقة، بيد أن تفاقمها في تونس يتناقض مع واقع الحوار السياسي وغياب العنف الداخلي ولا يتّسق مع حقية عدم غياب الدولة حتى في عزّ الأحداث التي اجتاحت شوارع البلد في »ثورة« عام 2011.

قد يصدق بعض الخبراء التونسيين الذين يعتقدون أن بروز الظاهرة ورواجها واستعصاء استئصالها يعود إلى تراجع هيبة الدولة وأولوية حضورها في الفضاء العام. على هذا يستنتج المراقب أن التوافق على الحكم بالتراضي لا ينتج حكماً قوياً يأخذ مصلحة تونس أولاً بعين الإعتبار، بل يعطي الأولوية لمصالح منتجي السلطة ومموليهم. وربما أن الخروج من هذه الحلقة المفرغة يتطلب من الشاهد شجاعة واقداماً يستند به على شبكة من الفاعلين من داخل وخارج الوعاء الحزبي لكسر دائرة ارتباط البزنس بالسلطة.

على أن العارفين في تونس يدركون أن ما حصل في تونس عام 2011 ليس ثورة بالمعنى التاريخي، بل حالة اعتراض أعادت توزيعا جديداً للسلطة دون قطيعة مع النظم الاجتماعية التي تغذي تركيبة عالم الأعمال في البلاد. بمعنى آخر فإن شبكة الفساد قديمة عريقة وسابقة على ظاهرة الإرهاب، وأن تلك الشبكة تتمتع برشاقة تتيح لها بمرونة ربط أوصالها بأية سلطة تتشكل في البلاد. وعليه فإن تونس ما زالت تنتظر ثورة حقيقية لمكافحة تلك الظاهرة، ليس بالضرورة بأدوات الشارع التقليدية التي باتت تمقتها كل المنطقة، بل من خلال تصحيح ذاتي تواكبه ترسانة قوانين وتشريعات لا يجب أن تكون مستحيلة على الشاهد الشاب إذ ما أراد للتونسيين أن يشهدوا له بأن »صفقة« اختياره تتجاوز الشكل السطحي في ورشة تبديل متسرّع في الأسماء.

يسجل لتونس ان الحدث الذي أبعد حكومة وأتى بأخرى والذي احتل العناويين الأولى لصحافة العرب هو نتاج فعل محلي تونسي ما زال قادراً برشاقة على معالجة المآزق والاهتداء إلى مخارج الخلاص على طريق الوصول إلى النموذج التونسي الأمثل.

من حقّ التونسيين أن يقلقوا على راهنهم ومستقبلهم من آفة لم تعد حكراً على الدهاليز المعتمة. بات الفساد ثقافة صار بالامكان تعميمها كوسيلة عيش. في ذلك استهتار بالمرجعيات الكبرى التي تسيّر البلد، لا سيما وأن الأمر قد ينمّ عن شعور بعرضية الوضع السياسي الحالي في تاريخ تونس، ذلك أن المجتمع ما زال غير مؤمن بالبدائل التي أتته بعد »ثورة الياسيمين.

———

)*(  صحافي وكاتب سياسي لبناني

صورة السبسي والغنوشي معا

تعليق: نداء تونس والنهضة: تعايش الأضداد

صورة من ثورة تونس

تعليق: كيف تعايش الفساد مع ما بعد ثورة الياسمين

صورة الحبيب الصيد

تعليق : الحبيب الصيد: مكافحة الإرهاب أسهل من مكافحة الفساد

صورة يوسف الشاهد

تعليق : رئيس الوزراء الجديد يوسف الشاهد: تعويل على الجيل الشاب

صورة البرلمان التونسي

تعليق: كيف فشلت الطبقة السياسية مجتمعة في مكافحة الفساد؟

كادرات

تُسقط تونس حكومة الصيد. تُسقط »أحزاب الياسمين« حكومة الرجل معترفة بفشلها وفشله وحكومته على مواجهة أزمات الاقتصاد والفساد والأمن والاستقرار. يرحل الرجل دون أن يعرف أهل البلاد لماذا ذلك الفشل ومن أفشل الرجل الذي أتت به أحزاب الفعل وما الذي يضمن نجاح خلفه الذي اختارته نفس الأطراف والتي لا تشي بأنها لن تستخدم معه كما مع سلفه نفس السلوك.

بين نداء تونس وحركة النهضة يجري تفصيل على مقاس التشكيليين الأساسيين في المشهد البرلماني الحالي، وقد يتمدد التواطؤ إلى ما يطلق عليه »الإئتلاف الرباعي« وقد يمتد شكلاً إلى أحزاب أخرى أقل وزناً. ويجمع العارفون في تونس على أن الأحزاب الكبرى تنتج رئيس الحكومة وتريده طيّعا بين يديها منفذاً لأجنداتها، على ما يثقل من حركة الملفات لا سيما تلك المتعلقة بالفساد.

شوقي الطبيب: لم نستطيع تحديد مركز الفساد

قال رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد شوقي الطبيب ان مؤشرات الفساد في تونس قد ارتفعت بعد 5 سنوات من الثورة ودعا الى دعم هيئته سياسيا ومعنويا وماديا.

كما حذر من تحول الفساد في تونس الى آفة وطنية ومن خطر الاتجاه نحو دولة مافياوية، مؤكدا ضرورة وجود ارادة سياسية وشعبية في مكافحة الفساد وعدم التغاضي عما أسماه بالفساد الصغير.

shawki eltaeb
شوقي الطبيب

وحسب تقرير لمنظمة الشفافية الدولية لسنة 2015 حصلت تونس على 38 نقطة في السلم الخاص لاحتساب الفساد والمشتمل على 100 نقطة محتلة بذلك المرتبة 76 من أصل 168 دولة شملها التقرير.

وكانت تونس قد احتلت سنة 2010 وفق ذات التقرير المرتبة 59 من بين 177 دولة.

وكشف الطبيب، أن 90 بالمائة من القضايا المتعلقة بالفساد متورطة فيها أجهزة الدولة من الاداري البسيط وعون الأمن الى الوزير وحتى القاضي.

واعتبر أنه في ظل ذلك لا يمكن أن تكون أجهزة التقصي والتحقيق في الفساد تابعة لأجهزة الدولة مجددا تأكيده على ضرورة أن تكون مستقلة حتى تشكل نوعاً من السلطة المضادة، على حد تعبيره.

وعزا الطبيب تراجع تونس في مكافحة الفساد -وفقا لمؤشرات منظمة الشفافية الدولية- إلى عدم وجود خطة وطنية لمكافحة الفساد، وعدم قيام محاكمات للفاسدين، وعدم تجلي إرادة سياسية حاسمة وقاطعة لمكافحة الفساد خاصة في العامين الأخيرين.

وأكد الطبيب أنه »ليس هناك أي قطاع أو مؤسسة أو جهة مهنية لم يمسها الفساد، وهناك قضاة فاسدون ومحامون فاسدون وإعلاميون وساسة في الحكم فاسدون، فالفساد طال جميع أوجه الحياة العامة في تونس«.

وبين الطبيب أن هناك خطتين في مجال مكافحة الفساد هما الخطة الحكومية لمكافحة الفساد وهي خطة تخص مجال عمل وتدخل الحكومة. أما الثانية فهي الخطة الوطنية لمكافحة الفساد وهي تشمل جميع المتدخلين في هذا الشأن وهم أفراد أو أعضاء أو مؤسسات في الدولة التونسية.

وأشار إلى أن الخطة الوطنية تتداعى إليها ثلاثة أطراف دستورية هي الحكومة بصفتها السلطة التنفيذية والسلطة القضائية والسلطة التشريعية، يضاف إليها السلطة الرابعة وهي الإعلام، والسلطة الخامسة وهي المجتمع المدني والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد.

وأضاف »لم نكن ضد أن تضع الحكومة خطة حكومية لمكافحة الفساد وهي خطة هامة، لكن الأهم أن نضع خطة وطنية مع بعضنا بعضا، وقد نصت وثيقة حكومة الوحدة الوطنية على ذلك وتم التوافق عليها من قبل جميع الأطراف«.

وأوضح أن الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد لم تتمكن حتى الآن من تحديد المسؤول عن الفساد، فالبعض يحمل المسؤولية للحكومة والبعض الآخر يحملها للقضاء والإعلام، وآخرون يحملونها للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد.

وأضاف »لن نعيد صنع العجلة فكل الدول التي نجحت في مكافحة الفساد هي التي قامت بوضع خطة وطنية لمكافحته يشارك فيها جميع الأطراف ويتم فيها تحديد المسؤولية عن الفساد بعد تشخيص الوضع وضبط خريطة الطريق والأولويات وفي ضوء ذلك تتم المحاسبة«.

وأكد أن ما ينقص تونس هو إرادة سياسية حاسمة وقاطعة لمكافحة الفساد، و»هي لم تتوفر حتى الآن بسبب عدة معطيات أهمها أخطاؤنا نحن التونسيين حيث ظننا بعد الثورة أنه يكفي إزاحة زين العابدين بن علي ورؤوس الفساد، ولم نتجه إلى منظومة الفساد التي بقيت تعمل حتى اليوم«.

وأضاف أن من الأسباب التي أدت إلى اتساع الفساد استضعاف الدولة ما بعد الثورة، إضافة إلى المستجدات التي شغلت الرأي العام والحكومة خاصة الإرهاب الذي أصبح على رأس الأولويات »ونسينا أن الإرهاب والفساد أمران متلازمان«.

وجول ما اذا كانت عائلتا بن علي والطرابلسي تحتكران الفساد قبل الثورة وأصبح من كانوا يعملون معهما الآن بارونات الفساد، أقر الطبيب بصحة ذلك وقال »هذا صحيح لأن المنظومة هي نفسها، وهؤلاء كانوا يعملون داخلها ويعلمون كواليسها ونقاط ضعفها وقوتها وبالتالي لما فر بن علي وعائلة أصهاره تفطن هؤلاء إلى أن المنظومة ما زالت موجودة فركبوا الموجة من جديد مستغلين ضعف الدولة وأولوياتها وأصبح هناك تلاقي مصالح بينهم وبين الإرهاب«.

وتابع »تم بعد ذلك دمقرطة الفساد ونتج عن ذلك في مرحلة تالية التطبيع مع الفساد وأصبح التونسيون يعتقدون أنه لا يمكن لنا مقاومة الفساد ويجب أن نتعايش معه، وهذا أخطر ما في الموضوع إذ إن التونسيين الآن يعانون حالة إحباط بسبب ذلك«.

ووصف الفساد بأنه »آفة تضرب مؤسسات الدولة والمجتمع التونسي في أعز ما لديه وهي قيمه«.

وأقر بأن »التطبيع مع الفساد حاصل على مستوى مؤسسات الدولة، فقد لاحظنا نوعا من الشعور الفظيع بالإفلات من العقاب، فالناس تتصرف كأنه لا توجد مؤسسات دولة وهيئات رقابية وهيئة لمكافحة الفساد ولا قضاء«.

وتساءل »إذا ورد اسم مسؤول في تقارير هيئات رقابية أو تمت إحالة مسؤول للقضاء بسبب شبهات فساد ومع ذلك يبقى في منصبه وتتم حتى ترقيته فماذا نسمي ذلك؟«.

وبشأن علاقة الهيئة بالقضاء، قال الطبيب »علاقتنا مع القضاء خاصة مع القطب المالي والقضائي وهي الجسم المختص بقضايا الفساد والذين يعملون من دون إطار قانوني يحميهم ممتازة وعلى أحسن ما يكون وننسق معهم فيما يتعلق بالملفات والإحالات والتحقيقات، وأريد التأكيد على أنه يجب أن نمنح القضاة الفرصة في هذا المجال المعقد ونتركهم يعملون ثم نحكم على عملهم«.

وأوضح أن القطاعات التي تشكل خطرا أكبر هي ملف الصفقات والشراءات العمومية حيث هناك مصالح متشابكة ومترابطة في هذا المجال ومتورط فيها مسؤولون من جميع المستويات، أما القطاعات الأخرى فهي ذات العلاقة بالصحة والتعليم والطاقة.

واعتبر الطبيب أن سبب مشاكل تونس حاليا هو ما سماه مثلث الخراب: الإرهاب والفساد والتهريب، »فهناك ترابط وثيق بين أضلع هذا المثلث، فالاقتصاد الموازي يتغذى من التهريب، والفساد يشكل 52% من الناتج الوطني الخام وهي نسبة كانت قبل الثورة في حدود 25%«.

وأضاف »نحن لدينا الآن اقتصاد مواز يملك قدرات أكبر مما تملكه الدولة التونسية، وهذه الدولة الموازية مخترقة للدولة الرسمية، ولو تواصل هذا الوضع فسنصل إلى الدولة المافيوية وستصبح المافيا هي التي تحكم تونس وتسيطر على مقدراتها«.

وأعرب عن تفاؤله بأن تونس »ستنتصر على الفساد بحول الله بشرط أن تتوفر آليات المعركة ضد الفساد وهي هبة وإرادة وطنية جامعة للتونسيين نخبا وشعبا«.

البدوي: »قانون المصالحة« عفو عن الفساد وتدمير للاقتصاد

albadawe
د عبد الجليل البدوي

يعتبر معارضون لـ »قانون المصالحة« المقترح على هذا القانون الذي يمنح شكلا من أشكال العفو لرجال الأعمال الفاسدين والمسؤولين في عهد بن علي الذين، ولولا القانون المقترح لتم تقديمهم للمحاكمة. بالمقابل تقول الحكومة أن ذلك القانون من شأنه أن يحفز الاقتصاد التونسي بينما يقدم نوعا من »المصالحة«.

ويرى الدكتور عبد الجليل البدوي، أستاذ الاقتصاد في الجامعة التونسية وعضو مؤسس في المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، أن القانون لن يولّد نموا اقتصاديا ولن يلبي حاجيات الاقتصاد التونسي . وأضاف أنه بالنسبة للمسؤولين الفاسدين، قد يعتبر قانون المصالحة بمثابة عفو تشريعي، أي بمثابة عفو جبائي لتسهيل عملية خروجهم من الوضعية بأقل التكاليف. وتساءل كيف لشخص فاسد عُرف عنه تكوين ثروته بتجاوز للقانون، من خلال استغلال مواقع ريعية ومواقع قربه للسلطة، أن يسهم في تنمية الاقتصاد. من ناحية المبدأ لا يمكن لشخص وُجد فاسدا أن يَصلُحَ لنفسه أو لاقتصاد بلاده.

ورأى أن القول بأن هذا القانون، الذي يصور الفاسدين كرجال أعمال وأصحاب مشاريع، ملح للاقتصاد هو مدخل مغلوط لأن هؤلاء الناس قد دمروا الاقتصاد ، وأتت ثرواتهم من تدميرٍ للاقتصاد وليس من نمو الاقتصاد، مضيفا بأن التنمية الاقتصادية في الواقع في حاجة لرجال أعمال تحترم القانون و تبقي ثرواتها بمبادراتها، بابتكاراتها، بإقدامها، بقدراتها على أخذ الرهان.