شوكولاتة

سهير آل ابراهيم

يقال في الأمثال أن النقود لا تنمو على الأشجار، ولكن بالنسبة لأقوام المايا والأزتيك، فان )نقودهم(  كانت تنمو على الأشجار حقيقة وليس مجازاً، فقد كانوا يستخدمون بذور الكاكاو كما نستخدم النقود اليوم، وكان امتلاك الفرد منهم للكثير منها دليل على ثرائه. الثري منهم كان يسير وجيوبه منتفخة ببذور الكاكاو. بالاضافة الى ذلك فقد ساد بينهم المعتقد أن بذور الكاكاو كانت هبة من إله الحكمة.

يعود تاريخ الشوكولاتة، او بتعبير أدق؛ عصارة بذور الكاكاو، الى أبعد من عام 350 قبل الميلاد، حيث عرفها اقوام المايا الذين سكنوا في ما يعرف تاريخيا بـ )ميسوأميركا(؛ وهي المنطقة الواقعة بين القارتين الامريكيتين، حيث  الظروف البيئية والمناخية الاستوائية مناسبة لنمو الأشجار التي تجنى منها بذور الكاكاو.

عصارة بذور الكاكاو تعطي سائلا مر المذاق، وكان المعتقد السائد بين تلك الأقوام القديمة ان ذلك العصير يزيد من قوة الفرد الجسدية ويعزز طاقته الجنسية، فكانوا يشربونه بعد اضافة بعض التوابل ومعجون الذرة اليه، كما كانوا يشربونه برغوة تتولد من تكرار سكب العصير من قدح الى آخر والاستمرار بذلك حتى تتولد الرغوة المطلوبة. يذكر الباحثون الاركيولوجيون وجود دلائل تشير الى تخمير نبات الكاكاو واستخدامه لصنع مشروبات كحولية منذ تاريخ قد يكون أبعد من عام 1400 قبل الميلاد.

كانت بذور الكاكاو تستخدم لشراء كل شيء تقريبا، فبالنسبة لأقوام المايا كان سعر الأرنب مثلا عشر حبات منها، وكان العبد يُشترى بمائة حبة، اما المومسات فلم يكن يتقاضين اكثر من عشر حبات!

حتى بداية القرن السادس عشر الميلادي، لم تكن شجرة الكاكاو معروفة لدى الأوروبيين، ولم يتحقق لهم معرفتها الا بعد وصول كريستوفر كولومبوس الى الاميركيتين في رحلته الرابعة في الخامس عشر من شهر آب/اوغست من عام 1502، حيث استولى حينها على زورق محمل بالبضائع كان من ضمنها بذور الكاكاو. كتب حينذاك ابنه فيرديناند عن تلك الحبوب، والتي كان يظن انها حبات لوز، انها كانت ذات قيمة عالية لدى السكان الأصليين لتلك الارض، فعندما تم إحضارهم على متن سفينة كولومبوس مع بضائعهم، كانوا جميعهم ينحنون للبحث عن اَي حبات تسقط منها وكأن عيناً قد سقطت منهم!

نقل كريستوفر كولومبوس الكاكاو الى اوروبا وكان ذلك بداية العهد هناك مع الشوكولاتة. استخدم الإسبان مشروب الكاكاو المر كعلاج لأمراض مختلفة منها آلام البطن، بسبب مرارة طعمه، ولكن بعد ان تمت اضافة السكر أو العسل اليه، اصبح مشروبا طيب المذاق اقتصر استخدامه على الطبقة الحاكمة والاثرياء من الناس. استمر الإسبان في اضافة نفس التوابل التي كانت تضاف الى مشروب الكاكاو في موطنه الاصلي، ولكن ذلك التقليد انتهى في القرن الثامن عشر، ولم تمر مائة عام حتى اصبح الكاكاو معروفا في أنحاء كثيرة من اوروبا.

اصبح الكاكاو مادة تجتذب التجار والباحثين عن الثراء، فقاموا بإنشاء مزارع لأشجار الكاكاو في جزائر الهند الغربية. عملية الزراعة تلك وما كان يعقبها من عمليات جني البذور من أشجار الكاكاو كانت تتطلب وقتا وجهدا كبيرين، مما دفع اولئك التجار لاستقدام أيدي عاملة من افريقيا، وهكذا ساهمت تجارة حبوب الكاكاو في )ازدهار( تجارة العبيد.

وصل مشروب الكاكاو الغالي الثمن الى لندن في خمسينات القرن السابع عشر، ومنها انتقل سريعا الى مدينة يورك؛ عاصمة الشمال. اصبح ذلك المشروب مفضلا لدى الطبقة المترفة، والتي كانت تشكل نسبة 2٪ من سكان بريطانيا آنذاك. كان ذلك المشروب يتكون بشكل رئيسي من مادتين مرتفعتي الثمن بشكل كبير في ذلك الوقت، وهما الكاكاو والسكر، وهذا ما جعله متاحا لفئة قليلة من المجتمع. وكان الاعتقاد حينها ان لذلك المشروب فوائد صحية كثيرة منها تعزيز الخصوبة عند النساء وتسهيل عملية الولادة اضافة للوقاية من أمراض الرئة وغيرها من الأمراض. يبدو جليا ان العوامل التي تساعد على التمتع بصحة جيدة كانت حكرا على الأغنياء فقط.

في عام 1725، افتتحت سيدة من مدينة يورك، اسمها ماري تيوك محل بقالة، وقد تحدت في حينها كل العوائق التي كانت تقف في طريق مشروعها ذاك، من ضمنها الحصول على اجازة لفتح المحل مقابل دفع مبلغ كبير للجهة التي كانت تحدد ضوابط العمل التجاري. من ذلك المحل حصل ما يمكن اعتباره ثورة في عالم الشوكولاتة، حيث خرج استهلاك ذلك المنتج من دائرة الأغنياء الضيقة ليصبح متاحا لفئات عديدة اخرى في المجتمع. وقد تحقق ذلك عن طريق خلط مادة الكاكاو بمواد اخرى أرخص ثمنا لذلك كان من الممكن انتاج كميات اكبر من ذلك المشروب باستخدام كميات قليلة من بذور الكاكاو. في العهد الفيكتوري اصبح مشروب الشوكولاتة متاحا للعوام ولم يعد مشروب النخبة فقط.

غيرت الثورة الصناعية الكثير من جوانب الحياة في بريطانيا، وقد شمل ذلك التغيير الشوكولاتة، حيث دخلت المكائن الى جانب العمل اليدوي في إنتاجها، كما انها تغيرت من حيث القوام فأصبحت مادة تؤكل بعد ان كانت سائلا يُشرب، وكان اول انتاج لألواح الشوكولاتة في مدينة يورك عام 1800 م.

ارتفع سعر الشوكولاتة بشكلها الجديد، حيث اصبح إنتاجها يتطلب الكثير من العمل اليدوي في تشكيل قطعها وتزيينها. وفي مصانع إنتاجها عمل الرجال على تشغيل المكائن بينما كانت النساء تقوم بالعمل اليدوي في تشكيلها بقطع صغيرة، اضافة الى عمل العلب الفاخرة التي كانت توضع فيها. رغم ان عمل النساء كان يتطلب جهدا كبيرا ومهارة عالية الا ان اجور الرجال كانت ضعف اجور النساء. المفارقة ان سعر علبة الشوكولاتة كان تقريبا ضعف الأجر الأسبوعي للعامل الرجل، واكثر من ذلك طبعا بالنسبة للمرأة العاملة.

كانت قطع الشوكولاتة تُزين ببتلات الورد، تلك الوريقات تحمل رسالة حب بلغة الورود، وكانت تلك القطع تباع في علب مغلفة بقماش ثمين ومصنوعة بحرفية عالية، لذلك كان الاتيكيت آنذاك يقتضي ان لا تقبل المرأة العزباء علبة شوكولاتة هدية من رجل لا يمت اليها بصلة.

في نهاية القرن التاسع عشر كان هنالك اكثر من الف عامل وعاملة يعملون في انتاج الشوكولاتة في مدينة يورك، لكن لم يكن بإمكانهم تذوق ما ينتجون بسبب ارتفاع السعر. يقال ان في ثلاثينات القرن العشرين قدم احد عمال الشوكولاتة اقتراحا لرؤسائه في العمل لإنتاج قطع منها بسعر أرخص بحيث تصبح متاحة للطبقة العاملة ايضا. مهد ذلك المقترح الى ظهور نستلة كيت كات الرخيصة الثمن، والتي يعتبر معمل إنتاجها في يورك اليوم الأكبر في العالم.

رحلة طويلة قطعتها الشوكولاتة عبر الزمن، وتغيرت مكانتها من مادة كان يعتقد ان لها فوائد صحية كثيرة، الى ما هي عليه اليوم حيث يحذر الأطباء من الإفراط في تناولها لما تحتويه من نسب عالية من الدهون والسكريات، ولكن الذي لم يتغير هو مذاقها اللذيذ، والذي قد يبقى كذلك لأزمان طويلة قادمة.

العدد 87 –كانون أول 2018