لا مكان حقيقياً خارج الوطن

هذا وطني يتنقل بين سلطة وأخرى، ولأنني خارج السلطات يتسلطون عليّ فأتركه الى أي مكان آخر بلا سلطة.

وطني هذا أراه في السيارة بحراً كامد الزرقة وجبلاً كامد الخضرة، تماماً عند الغروب. هل السيارة تمضي أم المتوازيان، البحر والجبل، يعرضان أسرارهما في أول الليل؟ أرى الأسرار ولا يراها الآخرون. والسّر مشهدٌ لا خبر، فرحٌ لا فضيحة، علاقةٌ لا انفصال.

اترك وطني حاملاً معي تلك الأسرار لأستطيع العودة.

والذين يتسيدون لا يغادرون.

يمكن تعدادهم بسهولة، هم عشرة أو عشرون أو ثلاثون على الأكثر، ترى بعضهم على الطرقات في مواكب محروسة، والآخرون على شاشة التلفزيون.

هؤلاء يقررون مصائرنا. زعماء في الداخل والخارج، يريدوننا أحياء لحفظ صورتنا كما رسمتها رغباتهم.

صورة لبنان، صورتنا، رسمها عشرة أو عشرون أو أكثر قليلاً، واختلفوا فلم تكتمل، أو أن خطوطها وألوانها تداخلت ونخاف أن يصل الأمر الى طلب محوها لترسم من جديد.

واسرائيل التي نعتبرها عدواً في الوقائع وفي النيات المضمرة، اذكر منها حاييم غوري شاعر عجوز حارب الفلسطينيين قبل 1948 وبعدها، لكنه بدا يعي كلام الأرض التي يعيش عليها، اذ تروي الأرض تاريخ اهلها بلا رقابة، ومن وعيه كلامها هذا المقطع من قصيدة له نقلها الى العربية سلمان مصالحة:

“أنا مليء بقرى مهجورة، حاجيات متروكة،

بنعال فارغة، مزق الحفة صوفية، صرر مثقوبة.

ببقايا تبن، أرسان ظلّت تنتظر حتى أعيت،

محاريث من خشب، مناجل، غرابيل، أرغفة جفّت…

أنا مليء بصمت الحيطان، نوافذ اللا ضوء. بنحاسِ وجِفان.

أرى أباريق فارغة، ظُلمات الآبار.

أرى حطّات، مناديل، شالات وملاءات،

هنا طرحةٌ آخرى، هنا بُرقع آخر.

ألتقي كلاباً مجدوعة الآذان، بلا أسماء، ظلّت تحرس،

خلخالاً ينتظر حتى اليوم كاحله.”

الشاعر المحارب اتى الى وطن الآخرين ليجعله وطنه الخاص، لكنه لم يستطع تفادي “خلخال ينتظر حتى اليوم كاحله.”

ويعترف حاييم غوري في راحة المحارب بآلام الذين اقتلعهم من أرضهم، طامحاً الى غفران يلمّ الجميع، القدماء والوافدين. والغفران، المشوب غالباً بالتنصل، رسالة معظم الأدباء الإسرائيليين في مخاطبتهم وجدانهم ووجدان الآخر.

ولكن، لا ندري ما رأي الشاعر العجوز بكتاب الضابط الإسرائيلي المتقاعد داني باز “لا نسيان ولا غفران: مطاردة آخر  النازيين” دار غراسييه – باريس 2007 الذي يروي في ما يشبه السيرة الذاتية انضواء الكاتب في مجموعة أميركية سرية اسمها “البومة”، أسرت في كندا في العام 1982 الدكتور اربرت هايم الذي تسميه “المجرم النازي”، ثم حاكمته وأعدمته في جزيرة سانتا كاتالينا قبالة ساحل كاليفورنيا. ولم يعلم احد بمقتل الرجل لأن الحكومة النمسوية أعلنت في العام 2007 عن جائزة مقدارها 50 ألف يورو لمن يقدم معلومات عن هايم تساعد في تحديد مكانه واعتقاله.

لا غفران في هذا العالم، لذلك تواصل الحروب تناسلها الشيطاني ولا تستطيع ايقافه توبة الشعراء.

ولا توبة لأحد في بلادنا العربية التي تخوض صراعاً مع اسرائيل منذ عام 1948 على الأقل، والصراع هذا أغلبه حروب دامية بلا أفق. كتبنا كثيراً كما كتب الاسرائيليون، ولكن، لا نشبه ولا يشبهون من يكتب عن حرب عالمية فارقة للفرد والمجتمع، كما كتب ستيفان تسفايغ في مذكراته “عالم الأمس” (ترجمة عارف حديفة منشورات دار المدى) قال: “التقيت في فيينا شتاء 1914 بيرثا فون ستاتنر سليلة احدى العائلات الارستقراطية، وهي عاشت في شبابها قسوة حرب 1880 قرب مقر اسرتها في بوهيميا، لذلك لم ترَ إلا مهمة واحدة لها في الحياة، ان تمنع نشوب حرب ثانية، أو أي حرب على الاطلاق. كتبت بيرثا رواية ” القوا اسلحتكم” التي حققت رواجاً، ونظمت لقاءات من اجل السلام، وكان انتصار حياتها انها ايقظت ضمير الفرد نوبل، مخترع الديناميت، للتعويض عما سببه اختراعه من شرور، فأنشا جائزة نوبل للسلام والتفاهم بين الأمم. واجهتني بيرثا بانفعال شديد، وصاحت في الشارع مع أنها عادة هادئة ومتروية: “لا فكرة عند الناس عما يجري! إن الحرب مقبلة، وقد اخفوا نذرها عنا مرة آخرى. لم لا تفعلون شيئاً، أنتم الشباب؟.”

وفي فرنسا ذكرتني حادثة شخصية بنبوءة السيدة العجوز. كانت الحادثة تافهة، لكنها شديدة الوقع في نفسي. في ربيع 1914، قصدت وأحد أصدقائي مدينة تورين لقضاء بضعة أيام، وزيارة قبر ليوناردو دافنشي. تجولنا عند ضفة نهر لوار المشمسة اللطيفة ساعات، وفي الليل كنا متعبين قليلاً، لذلك عزمنا على الذهاب الى صالة السينما في مدينة تور النائمة، بعد أن زرنا المكان الذي ولد فيه بلزاك.

كانت الصالة في ضاحية صغيرة مختلفة عن مباني المعدن والزجاج الحديثة، ضعيفة التجهيز، ممتلئة جمهوراً متواضعاً من العمال والجنود والنساء.

ظهرت على الشاشة أولاً “أخبار العالم”: سباق زوارق في انكلترا، فعلا اللغط والضحك. ثم ظهر العرض العسكري الفرنسي فلم يثر إلا اهتماماً قليلاً. وكان المشهد الثالث: “القيصر يزور الامبراطور فرانسيس جوزيف في فيينا”، وفجأة رأيت على الشاشة المنصة المألوفة للمحطة الغربية القبيحة في فيينا، مع رجلي شرطة ينتظران وصول القطار، ثم إشارة ظهر بعدها الامبراطور المسن سائراً بين حرس الشرف، ولما ظهر الامبراطور على الشاشة منحني القامة قليلاً ومرتعشاً بعض الارتعاش، أخذ جمهور تور يضحك على العجوز ذي السوالف الشائبة. ثم ظهرت من القطار عربته الأولى فالثانية فالثالثة، وفُتح باب المقصورة، ترجل وليام الثاني في زي جنرال نمسوي، وشارباه معقوفان الى أعلى. وفي اللحظة التي ظهر فيها علا صفير عفوي شديد، وبدأ خبط الأرض بالأقدام في القاعة المظلمة. صرخوا كلهم وصفروا، نساء ورجالاً، كأنهم تلقوا اهانة شخصية.

اهل تور الطيبون الذين لم يعرفوا عن السياسة أكثر مما قرأوا في صحفهم المحلية، جُنّ جنونهم الى حين. أخافني ذلك، إذ احسست بالتأثير العميق لسموم الدعاية في السنوات الأخيرة. فحتى في مدينة إقليمية صغيرة، كان المواطنون والجنود والبسطاء محرّضين ضد القيصر، وضد ألمانيا، الى حد استطاعت معه صورة على الشاشة ان تحدث مثل هذه التظاهرة.”