صخرة تحت صنوبرة

جاد الحاج

كلما رأيته في المنام يفلق موته، يشقه، يبدده من قناعتي، يظهر حيا يحدثني، ملغيا ذاكرتي إلا من صورته، يبدو كأنما لم يمت، كأنما  سأراه قرب جهاز الراديو العتيق بكامل هندامه يستمع إلى أخبار السادسة صباحا.

جدي من قيتولي، من صور وصيدا وعكا وحصن الأكراد والسلطنة العثمانية والانتداب الفرنسي، وجملة مذابح وحروب، انتهت ولم تنتهي فصولها. فجأة وعبر ليلة واحدة امتلأت رئتاه بالماء. اختنق. اكتسب الطب بالمزاولة منذ حداثته إذ رافق، كصيدلي، أحد أطباء القرية في مهمات صحية خلال الحرب الأولى. الأوبئة تَفْتِك بالجند والناس، العقاقير كلها مركبة ونادرة، الجراحة بلا مخدر، سرير العمليات أي مكان بين خيمة عارية وبين حقل أجرد، يعرف أنواع اللقاحات والعناصر الأساسية لكل دواء، الأطباء الشبان العائدون من جامعات تخصصهم عاقدي الجبين مُتَدَكْتِرين بالتمام والكمال يدهشون لقدرته على استنباط العلاج المناسب ويستمعون إليه باحترام.

ربونا على يديه، نتجاوز الأمراض ونداوي الجروح ونشعر بطمأنينة من يعيش في كنف رجل حكيم. وفي الحرب الاهلية  وقف نفسه على الاهتمام بالجرحى، يغير ضماداتهم، يلاحق علاجهم، يطمئن خواطر أهلهم، وقبل غياب الشمس يركب نيران الطرق، مسكونا بنعمة أو مسحورا، عائدا إلى بيته، مثل سائر في مشهد.

  كان  ايضاً بالفطرة والممارسة مصوراً فوتوغرافيا ورساما، عنده آلة عملاقة بكهف قماشي أسود وأقلام فحم ورصاص وعلبة ألوان مائية وأخرى زيتية … يروتش  بالنيكاتيفا  ثم يروتش الصورة المكبرة فيجعلك تبدو كأمير. لوحات القديسين في الكنائس موقعة باسمه وأحواض الزهور حول المنزل كلها مرافئ وجبال وطيور وفلاحون وغزلان وأسود، لا يترك مساحة عارية بلا تخطيط أو تلوين حتى الحديقة بدوائرها ومساكبها مدروسة الألوان والأشكال بحسب أعمار الزهر وألوانه.

كشف عن ميلي إلى الصورة وأنا في السادسة، إذ كنت أقبع قربه ساعات وهو يروتش بتلك الأقلام الدقيقة والضربات المتجمعة كخيطان الشعاع تحيل الأصل المهشم إلى وجه بشري كامل الملامح. الغرفة السوداء، حيث يغرق الواحد في محيط حنيني متعلقا بضوء أحمر أو أخضر، رائحة المحاليل الكيميائية وحالة حذر شديدة من أي حركة خطأ، تزيد من الشعور الباطني، الجواني، الظلال تتلاعب وحركات الأصابع واليد تقوم بإشارات كأنها حوقلات السحرة ثم تسقط الورقة في السائل الأول، فالثاني، فالماء كنت أساعده وأتعلم ، ولفترة طويلة أردت أن أصبح مصورا، غير أن إغراءات باهرة كثيرة طيرت عقلي وأزاحتني عن أي تركيز مستمر، متلاحق، مثمر. فما إن وصلت في المهنة إلى مراحل العمل الشاق كالروتوش والتلوين حتى أحسست الحبال تشتد على عنقي فوليته، وخيبت أمله.

  إلا أن فترات الإصغاء إليه عندما يصحبني في الزيارات أو الرحلات أو عندما نجلس في ليالي الشتاء حول النار، لم تكن كلها وعظا مباشرا، بل قصصه الواقعية، ماضي القرية والنزوح إلى الساحل طلبا للعمل، موت الحياة الزراعية ونهاية الريف، قصص العثمانيين ومذابح الستين والفرنسيين والإنكليز والأسترالييين والسنيغاليين، قصص البحارة قصص الجراد والجيوش والأبطال الشعبيين، يرويها بلغة تصويرية، فكاهية، مطعمة بتفاصيل تجعل استحضار المشهد ومعاينته بالبصيرة أمرا بالغ اللذة، يحول الحكاية إلى سينما بالصوت والصورة، وفي شكل حديث. مواجهات مع قطاع الطرق، الضباع، ضيق اليد في أزمنة الضيق، البحبوحة في عصورها الذهبية أيام القمح والغلال والسلال الطافحة كالتلال، قصص القرية، أشخاصها، الهجرة، الأجيال، السكيرون، الضالون، العائدون بقبعات إفرنجية ولكنات برازيلية وأميركية، المغامرون، الهاجرون زوجاتهم وأولادهم، حاملو البطيخات الثقيلة على إصبعين من الساحة حتى الكنيسة ورجوعا، باقرو القشرة السميكة بنقرة إصبع، رافعو المخل والمحدلة، خارقون من كل نوع، فالجبال معقل  لأنصاف الآلهة!

لقمني جدي وطنا. شقع في خاطري قرية كصخرة أزلية لا شيء يهزها ومن دون أن يدري، أو يقصد، أو يتمنى، جعلني أقطع وعدا على نفسي أن أعود إليها، وأنشئ أولادي، مثلما نشأ هو في أحضان صنوبرها وجلولها. وصرت بقدر ما تدفعني عصا الزمن في المتاهات أدافع عن هذا الحلم بضراوة تزداد بازدياد زنانير النار حول وطني وبقدر ما أتوغل في خرائط الأرض ويقع وجهي على ما يشبه قريتي ، ما يفوقها، ما يحاكيها، تصلد رغبتي في العودة إليها، ولا أراني في فضاء أرحب مهما اتسع حولي المدى.  حكاياته نزلت علي نزول الإلهام، دلتني  الى جذوري باندهاش وفرح كما دلت الأمطار الإنسان الأول إلى حلاوة الماء فأنقذته من غربته وعطشه. تصور جدي  أنني مأخوذ بالمدينة والسفر، وأن مستقبلي واجب أن يكون حيث الصراع والفوز. وظن أنه يدلني على الطريق عبر الصراع إلى النجاح وهو يبسط أمامي حقائق التعامل مع الناس وضرورات الاحتراز والاحتراس والتنبه لرفاق السوء وأشرار الأرض، لكنني عاقرت هؤلاء أكثر مما عرفت غيرهم وتلقيت الطعن في الظهر والخاصرة والجبين، فتعلمتها جميعها دفاعا وهجوما، تحفظني من السقوط الكامل والضياع، لا تعاليمه الأخلاقية ودروسه المناقبية، بل قناعتي أنني أرى آخر الطريق وأعرف تماما إلى أين تقودني خطاي، بخلاف ما ينبئ به مظهري كفاقد الوعي مبعثر الخطى، في عيون العابرين.

من ولادة هذا الحلم بالعودة إلى صخرة الآباء وإعادة تشييدها تولدت لدي إرادة التعبير، كما يحصل للسجناء، يرون العالم معكوسا على مرايا فتصبح كلماتهم كالشباك يصطادونه بها. رحت أكتب حياتي وأحيا الكتابة كما يفعل مهاجرون حول نار المساء عندما ينشدون حنينهم واعدين الطريق أنها  وهي تنطوي ستكون طيبة كأم وستحملهم إلى أوطانهم في الأخير. صرت ناطور نفسي، موقد ناري أرى في آخر الدرب وسادة بيضاء كالثلج، مهفهفة كرغيف طازج، وما هي سوى صخرة تحت صنوبرة.