عالما الشمال والجنوب ودراسات المستقبلات

أ.د. مازن الرمضاني*

منذ التطبيق العملي للتفكير العلمي في المستقبل حوالي منتصف القرن العشرين وإعداد المستقبليين المحترفين في دول عالمي الشمال والجنوب تتزايد بإستمرار. وقد دفعت مجموعة أسباب إلى ذلك. ولعل أبرزها يكمن في مخرجات التخصص الاكاديمي في دراسات المستقبلات. فهذا التخصص،  الذي صارت تتيحه مؤسسات اكاديمية منتشرة هنا وهناك سواء على صعيد الدراسات الاولية و/أو العليا : ماجستير ودكتوراه،  هو الذي سمح بتحويل التفكيرالعلمي في المستقبل إلى ممارسة عملية،  دائمة أو شبه دائمة،  وبالتالي إلى مهنة تتجسد مثلا في التدريس،  و/أو التأليف،  و/أو تقديم الإستشارة لمؤسسات رسمية و/أو خاصة وكذلك لمنظمات دولية حكومية و/أو غير حكومية فضلا عن الشركات متعددة الجنسية،  وغير ذلك.

وبهذا الصدد،  تجدر الإشارة إلى أن الإنسان وإن يُعد مستقبليا بالفطرة،  إلا أن هذا الإنشغال لا يجعله مستقبليا محترفا بالضرورة. فالإنسان الذي تعلم اكاديميا كيفية دراسة المستقبل،  وصار قادرا على توظيف معرفته به سبيلا لمساعدة الاخرين على إكتشاف خيارات المستقبل وبدائله وبضمنه تشجيع الانسان على الإنحياز إلى المستقبل،  هو الإنسان المستقبلي المحترف.

وقد أدى إنتماء اعداد من المستقبليين جغرافيا وثقافيا إلى دول و/أو مناطق جغرافية معينة إلى تبلور مدارس محددة في الاستشراف المستقبلي هنا وهناك،  تلتقي في مقارباتها للمستقبل ولكنها أيضا تختلف..وابتداءً من هذا العدد من الحصاد،  سنتناول تباعا هذه المدارس ولاسيما الاساسية منها ،  فضلا عن واقع التفكير العلمي في المستقبل وتطبيقاته العملية في مناطق جغرافية معينة.

وستكون البداية مع المدرسة الأمريكية لإستشراف المستقبلات.

المدرسة الأمريكية لاستشراف المستقبلات تاريخيا،  يرى عدد من المستقبليين الأمريكيين وسواهم أيضا. أن الجذور الاولى لهذا الاستشراف تعود إلى تلك المحاولات الفردية و/أو الرسمية،  التي تمت خلال القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. ونرى أن هذه المحاولات لم تتعزز وتنتشر،  إلا بعد أن توافرت البيئة الداخلية الداعمة لها وخصوصا منذ إندلاع الحرب الباردة عام 1947 صعودا.

إن هذه الحرب قد اججت حاجة صناع القرارالأمريكي إلى تبني إستراتيجية الإستعداد الإستباقي ضمانا للامن القومي الأمريكي. ويؤكد المستقبلي الأمريكي،  إدوارد كورنيش،  أن نشدان هذا الامن كان بمثابة الدافع الاساس وراء البدء بدراسة المستقبل في الولايات المتحدة الأمريكية.

وإنطلاقا من أنّ مفهوم الامن كان يُدرك أمريكيا ،  في وقته،  بدالة عسكرية-إستراتيجية،  تولت المؤسسة العسكرية الأمريكية مهمة رعاية إستشراف المستقبل عبر المؤسسات التي تم انشاؤها لهذا الغرض،  وأبرزها مؤسسة راند )RAND( التي تأسست في عام 1946. ويؤكد المستقبلي الأمريكي،  ويندل بِل،  أن هذه المؤسسة كانت إنموذجا لكيفية إستشراف المستقبل،  وبضمنه تأهيل مستقبليين أمريكيين أكفاء لهذا الغرض. ويعد المستقبلي الأمريكي، هرمان كاهن،  أول أمريكي ذهب إلى استشراف مشاهد المستقبل علميا عبر إبتكاره لمقاربة بناء المشاهد  Scenarios Buildingوسنعمد في أدناه الى التعريف به.

ومنذ بداية نشأته،  حوالي منتصف القرن العشرين،  إقترن الإستشراف الأمريكي للمستقبل بخصائص المد في أحيان،  والجزر )التراجع( في أحيان أخرى. ففي عقد الخمسينيات والستينيات،  تميزهذا الإستشراف بالثراء الفكري والإنتاج الواسع،  فضلا عن إتجاهه إلى الإقتران بالمأسسة، والتي تجسدت في تعاقب إنشاء مراكز وجمعيات علمية متخصصة في التفكير العلمي في المستقبل،  ولعل أولها وأهمها هي جمعية مستقبل العالم )The Future World Society(،  التي تأسست عام 1967،  وجمعت عددا كبيرا من الشخصيات الأمريكية المهتمة بشأن المستقبل. وكذلك تعاقب صدور دوريات علمية متخصصة. هذا فضلا عن إتجاه جامعات أمريكية إلى إدخال التفكير العلمي في المستقبل،  كمادة إلزامية ضمن برامجها الدراسية،  و منح شهادات عليا )ماجستير ودكتوراه( في تخصصه.

ومن هنا شهد الإستشراف الأمريكي للمستقبل خلال العقود السابقة لعقد الثمانينيات قفزة نوعية غير مسبوقة. وقد ساعد على ذلك تصاعد الإدراك الأمريكي الداخلي،  الرسمي وغير الرسمي،  لجدواه العملية. بيد أن هذا الإستشراف شهد بالمقابل،  خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي تراجعا ملموسا. وتتعدد الرؤى في شأن هذا التراجع.

 وبينما يؤكد  المستقبلي الأمريكي،  ويندل بِل،  أن ذلك كان حصيلة لعملية نقد ذاتي وإعادة تقييم لإفتراضات الاستشراف الأمريكي،  ومبادئه،  ومفاهيمه،  ومناهجه،  يرى أخرون أنّ السبب الرئيس يكمن في إفتقار هذا الإستشراف،  خلال هذين العقدين،  لمستقبليين جدد أمثال اولئك الذين أقترنت بهم العقود السابقة على عقد الثمانينيات.

ونرى أن رؤية ،  ويندل بِل،  إعلاه هي الأقرب إلى الدقة. ومما يؤكد ذلك أنّ نوعية الإقدام الأمريكي على إستشراف المستقبل وعلى نحوٍ شامل لكافة صعد الحياة الأمريكية قد عبر عن تحول حاسم في الموقف الأمريكي من المستقبل. فبعد أنّ كان هذا الموقف،  كما يؤكد مستقبليون أمريكيون،  مترددا في الاقل،  أضحى منغمسا وبمخرجات جعلت الولايات المتحدة الأمريكية تبدو وكأنها ورش عمل مستقبلية الإتجاه والمضمون.

وتدعم هذا الواقع مؤشرات مهمة إستمرت ممتدة في الزمان. ومنها الاتي مثلا: أولا،  تزايد عدد الجامعات الأمريكية التي لم يعّد أهتمامها يقتصر على تدريس المستقبل لطلبتها ومنح درجات علمية بتخصصه فحسب وإنما إمتد أيضا ليشمل تأسيسها لمراكز بحثية خاصة بها لإستشراف مشاهد المستقبل. وثانيا،  إستمرار جمعيات ومراكز علمية ذات علاقة بإستشراف المستقبل بالتكون،  ودوريات علمية متخصصة بالصدور،  فضلا عن تزايد أعدادها. ثالثا،  تصاعد الطلب الرسمي والخاص على الإستشارة المستقبلية. رابعا،  كثافة تناول وسائل الإتصال الجماهيري الأمريكية لموضوع المستقبل سواء بمضامين علمية و/أو سواها. وأخيرا،  إن تسارع إنتشارإستشراف المستقبل داخل الولايات المتحدة الأمريكية قد أدى إلى أنّ يبقى عدد المستقبليين في الولايات المتحدة الأمريكية وبمختلف إهتماماتهم،  هو الاعلى بين المستقبليين في العالم. وعليه لاغرابة في أن تتماهى نسبة الدراسات المستقبلية الأمريكية المنشورة،  بالمقارنة مع سواها على صعيد العالم،  مع النسب العالية لعدد المستقبليين الأمريكيين.

ويفيد واقع الإستشراف الأمريكي لمشاهد المستقبل أنّ مواضيع إهتماماته،  وإن صارت تمتد على مساحة واسعة،  بيد أن هذا الإمتداد جعلها في الوقت ذاته تجمع بين خليط من الدراسات العلمية الجادة في المستقبل ودراسات أخرى مختلفة المضامين.

وقد عمدت المستقبلية الإيطالية،  ماسيني،  إلى تمييز مضامين الدراسات العلمية الجادة وإن بصورة غير قاطعة كما تقول،  إلى ثلاث مجاميع أساسية: تكنولوجية،  وإجتماعية-سياسية،  وعالمية.

فأما عن الدراسات التكنولوجية التي تصاعد تأليفها بعد الحرب العالمية الثانية،  فإنها أنصرفت ابتداء إلى إستشراف الاثر المستقبلي للتكنولوجيا العسكرية عبر إستخدام مناهج كمية في العموم. ويعد المستقبلي الأمريكي،  هرمان كاهن، أبرز رواد هذا الاتجاه وكذلك أكثرهم شهرة. إضافة إلى أن كتابه: نحو عام 2000 يعتبر من بين أكثرمؤلفاته إنتشارا. ففي هذا الكتاب،  راى أنّ الإنسانية تمر في وقته بمرحلة إنتقالية،  وإنها بإنتهاء هذه المرحلة في عام 2000 تكون الإنسانية قد إستطاعت إيجاد الحلول لمشاكلها المتعددة،  هذا جراء التوظيف الإنساني لمخرجات التطورالتكنولوجي.

إن تأكيد،  هيرمان كاهن على دور التكنولوجيا لا يعد أمتدادا لرؤى علماء القرن التاسع عشر وفلاسفته في شأن دور العلم في تحقيق التقدم فحسب وإنما كان تماهيا أيضا مع رؤية كانت قد أنتشرت في وقته داخل الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها. فعدد من المستقبليين الأمريكيين كانوا قدأدركوا أنّ التاثير الحتمي للتكنولوجيا هو الذي يفضي إلى أنّ يكون المستقبل التكنولوجي هو الخيار الوحيد أمام الإنسان. والمجتمع والعالم.

وأما عن الدراسات الإجتماعية ـ السياسية الأمريكية،  والتي بدأت بالإنتشار بين المستقبليين الأمريكيين منذ منتصف العقد السادس من القرن الماضي صعودا،  فأنها جعلت من الاثرالمستقبلي للتحولات الاجتماعية في العالم وإتجاهاتها الموضوع الاساس لاهتماماتها ومستخدمة لهذا الغرض مناهج كيفية. ويعد،  مثلا،  دانيال بلِ )Danial Bell( 2000-1919،  أحد أبرز المستقبليين شهرة في العالم جراء نوعية مؤلفاته. ومن بين اكثرها شهرة كتابه : حلول المجتمع ما بعد الصناعي )The Coming of Post-Industrial Society(. ففي كتابه هذا،  إبتكر،  دانيال بلِ،  مفهوم المجتمع ما بعد الصناعي،  وراى أن خاصية المعرفة التي يقترن بها ستفضي ليس فقط إلى إحداث تغيير إجتماعي عميق فحسب،  وإنما ايضأ إلى أن تكون الجامعات ومراكز البحث في المجتمع ما بعد الصناعي بمثابة بور التاثير السياسي. ومن هنا دعا إلى بناء هياكل إجتماعية تستطيع التأقلم مع تحديات هذا المجتمع.

 وأما عن الدراسات العالمية الأمريكية والتي بدأت بالانتشار منذ أواخر عقد الستينيات من القرن الماضي صعودا فأنها إدركت العالم وكأنه شبكة متغيرات تقوم فيما بينها علاقات متداخلة ووثيقة الترابط،  وإنها عمدت،  بالتالي إلى إستشراف المستقبل انطلاقا من هذا الإدراك ومتخذة من منهجية النماذج العالمية سبيلا لها.وتجدر الاشارة إلى أن دراسة حدود النمو الصادرة عن نادي روما عام 1972،  تعد بمثابة النموذج الرائد لمثل هذه الدراسات العالمية.

وتؤكد ماسيني أنّ المراة الأمريكية كان لها دور مهم وخاصة على صعيد دراسات المستقبلات الأمريكية،  ولاسيما تلك الدراسات ذات المضامين الإجتماعية ـ السياسية وكذلك العالمية.

وعلى خلاف،  ماسيني،  التي عمدت إلى مجرد وصف الإتجاهات العامة للإستشراف الأمريكي للمستقبل،  إنطلق المستقبلي الاسترالي،  سلوتر،  الذي يعد أحد أبرز الناقدين للإستشراف الأمريكي للمستقبل،  من رؤية نقدية لمضامين هذا الإستشراف. فعلى الرغم من أنه رأى أنّ هذا الإستشراف يقترن بدراسات مستقبلية اصيلة،  أكد في الوقت ذاته أنه ينطوي أيضاعلى دراسات تتميز بإختلالات هيكلية واضحة. وقد ذهب إلى توزيعها إلى اربعة مجاميع.

فأما عن المجموعة الاولى، فهي تشمل تلك المؤلفات التي إطلق عليها،  سلوتر،  تسمية البوب )Pop-Futurist Texts (. وهي عنده تلك التي إما تغرق في التبسيط،  و/أو تتخذ من الكتابة الصحفية اسلوبا لها،  و/أو تعمد إلى التعبير عن مصالح تجارية. ويرى أنّ الكتاب المشهور للمستقبلي الأمريكي،  الفين توفلر والموسوم بصدمة المستقبل هو مثال لهذه المجموعة.

وأما عن المجموعتين الثانية والثالثة،  فهما يعبران عن تلك الدراسات التي يرى،  سلوتر،  إنها تفيد برؤى للمستقبل أما زائفة ومعادية للإنسانية،  أو أنها ساذجة. ويستشهد بدراستين صادرتين عن المجلس الأمريكي لجامعة الامم المتحدة: الاولى تناولت الفرص العالمية. اما الثانية فإنها جعلت من التحديات العالمية محورها.

وقد أكد،  سلوتر،  أن هاتين الدراستين،  إضافة إلى تكرارهما الساذج لمضامين رؤى أمريكية وغربية لطبيعة الفرص والتحديات العالمية فإنهما تذهبان إلى تؤكيد أن مستقبل العالم لابد أن يكون غربيا.

أما المجموعة الاخيرة من دراسات المستقبلات الأمريكية فهي تلك التي تعمد صراحة إلى تسويق صورة لمستقبل العالم تتماهى مع نمط الحياة الأمريكية. ويرى،  سلوتر،  أن دراسة الإزدهار الطويل )The Long Boom( للمستقبلي الأمريكي بيتر شفارز )Peter Schwarz( تعد مثالا لهذه المجموعة. فهذه الدراسة رأت أن الولايات المتحدة الأمريكية،  جراء نوعية قدراتها وخصائصها الذاتية،  صارت تصنع حضارة عالمية جديدة ومختلفة عن كافة الحضارات التي عرفتها الإنسانية،  وإنها ستكون لاعبا أساسيا في تشكيل كافة مشاهد المستقبل العالمي.

وبالإضافة إلى ما تقدم،  يؤكد سلوتر وسواه أيضا،  أن مجتمع الإستشراف الأمريكي يتسم بنزعة تتطلع إلى الهيمنة الفكرية والاكاديمية على دراسات المستقبلات،  وذلك عبر انماط من السلوك قوامها أما الإقصاء و/أو الإهمال،  و/أو التجاهل لمستقبليين،  وخصوصا اولئك الذين لا يتماهون مع الإطار المرجعي الثقافي الأمريكي سواء كانوا من الأمريكيين أو غيرهم.

وللبرهنة على ما تقدم،  يشير إلى أن موسوعة المستقبل الصادرة عام 1996،  والتي جمعت دراسات مائة مستقبلي وقالت عنهم إنهم الاكثر تأثيرا عالميا، جعلت حصة المستقبليين غير الأمريكيين وغير الاوروبيين في حدها الادنى مقابل تمتع غيرهم من المستقبليين، أي اللا أمريكيين والاوروبيين،  بالحصة العظمى.

أن الخلل الهيكلي في الدراسات الأمريكية المستقبلية المتفاعل من نزوع بعض المستقبليين الأمريكيين إلى الهيمنة الفكرية لا يلغيان بالضرورة أن الإستشراف الأمريكي للمستقبل يتميز بدراسات ذات مضامين أصيلة ،  وأن محصلتها أفضت إلى تراكم معرفي ساعد على الإرتقاء بدراسات المستقبلات إلى أفاق أرحب وأوسع. فمثلا لا يستطيع أحد نكران الدور الفاعل الذي قام به،  ويندل بلِ،  في دعم تطور هذه الدراسات.

إضافة إلى ماتقدم لا يخلو الإستشراف الأمريكي للمسقبل من مستقبليين أدركوا جدوى التفاعل الحضاري بين المستقبليين،  الذين وإن يختلفون ثقافيا عن بعض،  بيد أنهم يتفقون على أهمية الإرتقاء بدراسات المستقبلات إلى مستوى تحديات العصر. ومن هنا جاءت دراساتهم وهي تجمع بين مضامين مرجعيات ثقافية متعددة أمريكية وغيرأمريكية أيضا.

استاذ العلوم السياسية ودراسات المستقبلات