علامات انهيار سلطة المحاصصة والفساد أمام ثورة العراقيين

د. ماجد السامرائي

المعركة بين الثورة الشعبية السلمية العراقية وخصومها المتسلطين على الحكم وصلت مرحلة متقدمة ومؤشراتها تؤكد تسجيل نقاط نصر كثيرة على الخصوم لكنها ليست قريبة الحسم النهائي بسبب ما تمتلكه الأحزاب وفصائلها المسلحة من إمكانيات الدولة العراقية في المال والسلاح والظهير اللوجستي الإيراني. فيما الثوار سلميون لا سلاح لديهم سوى الراية العراقية التي تغطي صدورهم والإيمان بوطنهم الذي نزلوا للشارع من أجله وقدموا خلال الشهور الخمسة الماضية أكثر من 700 شهيد وقرابة الثلاثين ألف جريح وعشرات المختطفين.

في المقاييس التقليدية اللوجستية خصوم الثوار هم الأقوى وكان عليهم التغلب على المنتفضين خلال أيام بعد استخدامهم أقذر الأسلحة فتكاً لم يستخدمها حتى جنود الاحتلال الإسرائيلي ضد المنتفضين الفلسطينيين، لكن ما حصل لحد الآن هو الصمود بوجه آلة القتل بمعنويات متدفقة عمقها شعب العراق الذي أنهى بقايا الصلة الشكلية مع الأحزاب الإسلامية الشيعية التي فرضت هيمنتها على الشارع الشيعي عن طريق الترغيب والترهيب.

برصد سياسي بسيط يمكن تأشير الإنهيار المفاجئ للإمكانيات المتعددة التي كانت تمتلكها الأحزاب والقوى الميليشياوية قبل ثورة الأول من أكتوبر الماضي مقابل زيادة إمكانات الثورة في ميادين عدة أهمها :

سقوط أكذوبة الولاية السياسية على الشيعة من قبل تلك الأحزاب، ومحاولاتها الحالية في التشبث بما تسميه الاستحقاق الانتخابي والغالبية الشيعية لتولي رئاسة الوزارة والتي لم تعد قادرة على حماية تلك الأحزاب من مصير هزيمتها النهائية أمام الشباب الشيعي المنتفض وشعب العراق بمختلف طوائفه وقومياته.

 تمدد وكثرة الفصائل الشيعية المسلحة وصعودها السريع الى مواقع المسؤوليات الأولى أربك ومزّق غطاء  » العقيدة الشيعية الموحدة  » لصالح الانحياز العلني لطهران وانهيار ذلك الميثاق المتهرئ الذي جمعهم تحت دوافع وتناقضات المصالح الخاصة.

الإنكشاف الحقيقي لضحالة القدرات السياسية لقوى الإسلام الشيعي بعد استلام السلطة والتي غطاها زمن المعارضة قبل 2003 حيث كانت مهمة تلك الأحزاب الأولى هي العمليات المسلحة في الاغتيالات والتفجيرات تحت شعارإسقاط النظام السابق الشبيهة بعمليات القاعدة وداعش. فزجوا بعد مجيئهم للسلطة بأفواج الجهلة والأميين في مفاصل الحكومة بعد طرد الكفاءات المتميزة بما أدى الى إنهيار البنية التحتية للدولة العراقية.

الفضائح المالية المتلاحقة داخلياً وخارجياً في السرقات التي تطارد الرؤوس الحكومية والحزبية حيث بلغت قيمتها أكثر من 500 مليار دولار، وعجز كل من رئيسي الوزراء حيدر العبادي وعادل عبد المهدي من ملاحقتها لأنها كانت وما تزال محور المقايضة الرئيسية للبقاء في المسؤولية.

عدم إكتراث القيادات الرسمية والحزبية العليا بالتقارير الدولية الموثقة لانتهاكات حقوق الانسان خصوصاً لفترة الانتفاضة الشعبية منذ الأول من أكتوبر الماضي ومناشدات المنظمات الأممية لدرجة طرد العراق أخيراً من عضوية منظمة حقوق الانسان الدولية في جنيف.

تمزق الأغطية السياسية وضع الحل الأمني كخيار وحيد للقوى السياسية وفصائلها المسلحة، لكن هذا الحل قد فشل منذ خمسة شهور في تركيع الثوار، وهذا مما يضع هذه القوى اليوم في مأزق جدّي.

قد يتبادر لأذهان المتابعين إن وصول المعركة بين الطرفين الشعبي والحزبي الحاكم الى هذه الدرجة من التوتر قد يضعهما أمام احتمالات فتح أبواب حلول الحوارات السياسية، وهذا الاحتمال قد يحصل في ظروف ليست كالتي يعيشها العراق، حيث وصلت الطبقة الحاكمة الى مستوى القطيعة مع الشعب الثائر ولا توجد أرضية مشتركة بين الخصمين يمكن الانطلاق منها لأية فرصة حوار.

من جانب الطبقة الحاكمة، لدى أحزابها الفاسدة والفاشلة والمنفذة للأجندات الإيرانية من خلال ميليشياتها المسلحة برامج لإبقاء الاستحواذ على الحكم وعدم التسليم لإرادة الثوار كشفت عنها الأيام الأخيرة في الإصرار على مجيئ رئيس وزراء جديد يعكس مصالح تلك الأحزاب والأخطر بقاء الهيمنة الإيرانية على القرار العراقي، غير مكترثة بالإنقلاب السياسي الكبير الذي أحدثته الثورة الشبابية واجبارها رئيس الوزراء عادل عبد المهدي على الاستقالة رغم تشبثه بالبقاء بغطاء تلك الأحزاب وطهران.

أما الثوار الذين فتحوا عهداً مشرقاً جديداً في العراق، فليست لديهم مساومة على الثوابت الوطنية المعارضة لسلطة الحكم، وكذلك على آليات التغيير السياسي التي تحظى بإجماع شعبي واسع عن طريق مجيئ رئيس وزراء مستقل ينفذ أجندة الانتخابات المبكرة وتشريع قانون انتخابي عادل وحل البرلمان الحالي وتعديل الدستور. الثوار يرفضون الحوار مع قاتليهم الذين مكانهم الحقيقي هو السجون.

السبب اللوجستي المهم في استبعاد الحوار بين الثوار وسلطة القتل والمليشيات في الأيام الحالية هو عدم وجود قيادة تنظيمية وسياسية وإعلامية للثوار وهي إحدى النواقص البنيوية التي فتحت وتفتح الثغرات أمام محاولات الإختراق من داخل صفوف المنتفضين أو من قبل الأحزاب والقوى المليشياوية.

من عناصر الضعف التي تعيشها الانتفاضة الصدود العربي والدولي عنها تحت مخاوف ما وقعت فيه تجربة الثورات العربية الجديدة كالثورة السورية من ركوب المتشددين لموجتها علماً بأن الثورة العراقية حافظت على سلميتها وعدم السماح لأية اجندات التسلل الى صفوفها رغم سياسة القتل المستمرة ضدها.

.

إن فكرة “الأغلبية الحاكمة” التي ناشدت بها كوادر وسطية في الأحزاب الإسلامية الشيعية لم تكن سوى استعادة للروابط المذهبية والمرجعية والثقافية بين قيادات الأحزاب والكوادر الوظيفية التي تخضع للتخادم الوظيفي مع تلك القيادات.

وغالبا ما كان يتحدث قادة الأحزاب الإسلامية عن “سلطتهم التاريخية “تجاه المكونات العراقية الأخرى خاصة بعد تحرير المحافظات ذات الأغلبية السنية من داعش، والمناطق المتنازع عليها التي كانت سابقا تحت سيطرة داعش ولم يتردد قادة تلك الأحزاب مرة في القول ان “قرار العراق بيدهم “. مع إن تمكين طرف سياسي من مكون واحد من التفرد بحكم العراق غير ممكنة جغرافيا وإيديولوجيا واقتصاديا وسياسيا.

 لقـد تباينـت الـسياسة الإيرانية مـع السياسة الأميركية في العراق بسبب ما نتج منها من تغييرين اساسيين: انتقال السيطرة على الحكم والبرلمان في العراق الى مجاميع مركبة لديها أجنحة سياسية ومسلحة أكثر قربـا مـن ايـران، وظهورفاعلية المكونين الكردي والسني في تحدي قرار الشيعة داخل البرلمان طرد القوات الأمريكية من العراق وهذا ما أزعج طهران بعد مقتل رجلها الأول في العراق الجنرال قاسم سليماني وعدم سد فراغه لا من قل خليفته (قاسم آغائي) ولا علي شمخاني مسؤول الأمن القومي الإيراني.

لم تتوقع إيران والأحزاب الخادمة لها أن تصمد الانتفاضة الشعبية هذه الشهور الستة وسط تعقيدات كثيرة يدخلها العراق يسبب له نفوذ إيران مشاكل جدية بعد التدهور الاقتصادي الذي أحدثه مرض  » كورونا  » وانهيارنظامه بسبب اعتماده الكلي على واردات النفط الذي انخفضت أسعاره مما سيزيد من عجز الموازنة لعام 2020 الى أكثر من 50 مليار دولاربواقع سعر 56 دولاراً للبرميل الواحد. حيث تصرف معظم الموازنة على نفقات رواتب أربع ملايين موظف زادهم رئيس الوزراء المستقيل عادل عبد المهدي بنصف مليون شخص جديد.

 لا يتوقع لرموز سلطة القتل والقنص الاستسلام لإرادة المنتفضين رغم إنهم في الحلقة الأخيرة من شوط حكمهم العراق، فقد انتزع الثوار من أيديهم خلال خمسة شهور جميع الأغطية، ما يمتلكونه الآن ويتمترسون خلفه من عناونين حزبية ورسمية مؤقتة منحتها لهم انتخابات مزورة عام 2018 وسلاح متعدد المصادر وميليشيات وجيوب مليئة بالسحت الحرام من أموال شعب العراق، وخطاب إعلامي فقد تماسكه وقدرته على التأثير حتى بين صفوفهم منهارة المعنويات، وظهير إيراني يحاول لملمة مشاكله الداخلية والخارجية. وفق هذا المناخ اللوجستي والسياسي قد تكون المعركة طويلة، لكن الشعوب دائماً هي المنتصرة وفي مقدمتها شعب العراق والشعوب الإيرانية

لقد كانت فترة حكومة عادل عبد المهدي الذي لم يتجاوز عمرها الثلاثة عشر شهراً من أسوأ الحكومات من حيث هيمنة قوى الفساد الحزبية رغم شعاراته بمحاربته. والحكومة البديلة ستفشل إن لم تلبي مطالبات الثوار في أن تكون مستقلة وذات أهداف مرحلية يحل خلال فترتها المؤقتة البرلمان ويشرع قانون عادل للانتخابات ومفوضية نزيهة والتحضير للانتخابات المبكرة الضامنة بإبعاد اقوى والأحزاب التي عبثت بالبلد ونهبت ثروات شعب العراق.

العدد 103 – نيسان 2020