غياب سميرغانم، نهاية رجل شجاع

عبيدو باشا

لم تمشي فرقة ثلاثي أضواء المسرح وراء اصلاح العالم . جل ما ارادت أن تفعله أن تجد هندستها في نيات الآخرين ، في السينما على وجه الخصوص وفي المسرح . حضرت في المسرح بأعصابها ببعض المسرحيات الإستهلاكية ، الثرثارة ، الخاسرة إذا ما وضعت أمام أي معيار ثقافي . وجود في وجود الآخرين ، إلا مع بعض المسرحيات . ذلك أن الفرقة فرقة سكتشات لا فرقة مسرحيات كاملة . .باعتبار أن المجموعة ضد الأفكار المتعِبة وضد تسلق الفراغات. ثم أنها لم تمتلك نعمة الحضور الكاسر .كل ما في الأمر أنها وُجِدت كالأحلام ، سهلة وأليفة. هذا شرطها ، بتصديها لفظاعات الستينيات وأحداثها الكبرى. وجودها شرط وجودها. أن تنوجد ، هذا هدفها الأقصى . وجود يفهم أن المعاضل لا تحضر على جدارة حاجات الناس وأحلامهم وحاجاتهم ، بل من الإشتباك بين المعسكرين الجبارين : أميركا والإتحاد السوفياتي. وشهوات الآخرين بأن لا يصابوا بالآم التوحد والوحدة و تخفيفها بالإلتحاق بالمعسكرين . حيث يخفف الإلتحاق بهما صفاقة الأحزان ، لتضحي أحزان معقولة لا صفيقة. حيث يخفف الإلتحاق من تسارع الزمن بالوصول إلى نهايات الأعمار . حضور ” ثلاثي أضواء المسرح ” كحمية لتوتر الأعصاب والخروج المتوهم من فكرة القطيع الناشزة على الضفتين .

لم يمتلك الضيف أحمد وجورج سيدهم وسمير غانم الحماس، لكي يفيدوا الجمهور بالحكمة والدرس والإنتباه . لأن المرحلة مرحلة صراع عنيف ، لم ينتهِ إلا بسقوط الإتحاد السوفياتي المدوي . الثلاثي نتاج المرحلة ، نتاج فكرة أن السعادة أمر شائك بالصراع . لأن أحداً من صغار الأرض لا يستطيع أن يرسمه ، أن يساهم برسمه ، أن يرممه. هكذا ، لم يقرأ الثلاثة سوى في محض الخاطر لجمهور المرحلة الناصرية بدون ركض وراء التجديد أو التثوير ، بروح واقعية اتسمت بالطباع الضاحكة غير العصية على الفهم . لم تركض الفرقة خلف الأحلام ولا وراء الإعترافات الخطيرة .لأنها أدركت ، عبر أركانها الثلاثة ، أنها لا تستطيع الذهاب إلى الأقصى، في مرحلة لم يجد أحداً من المتصارعين على هوية العالم أن في المستطاع أن ينام والصراع دوار على الأعمار لا على الود الضائع .

أحسب أن ثلاثي المسرح لم تضع نفسها في المقام السياسي ولم تختر المقاصة السياسية وسط صراع الخزاتيت . وقعت في مفهوم المقاصة ، من عدم رغبتها وقدرتها على الدخول في كل أنواع الصراع . نحضر وكفى . هذه فكرة الثلاثي . نسلي وكفى . هذه مهمة الثلاثي. حضروا وسلوا . وإذ حضروا سلوا . قام على التسلية كسلاطين على التسلية ، كأباطرة لها . يكفي تميزهم الشكلي وتناقض أشكالهم ، لكي يسلوا الناس ، بدون تقديم كاسات الوهم إليهم ، وسط صراع الخراتيت الكوني وخراتيت الصراع الداخلي . الصراع الداخلي جزء من الصراع الخارجي . مصر اشتراكية ، تحتشد بالأحفاد المناصرين للثورة والأحفاد العسيرين على الثورة . يبكي آباء الأخيرين من القلب على الألقاب والأملاك ، وكأنهم في شريط رسوم أطفال يبالغ صناعه في إظهار البكاء كما لو أنه ضجيج يخرج من العينين لا الماء المالح بالعينين، ما يقتل الضغط والعداوات .إنها مرحلة ما بعد الثورة ، مرحلة ذروة من ذرى مصر ، مرحلة الإشتراكية والصراع الطبقي والتأميم . إنها مرحلة الأصدقاء، من ذوي القربى ومن المقامرين . إنها مرحلة السويس والعدوان والثلاثي . لن يصلح الثلاثي لمعالجة الأوضاع ولا الأعطال ولا الأعطاب. هذا ما طرزوا مناديلهم به . وهذا ذكاء يتحدث عن نفسه . هكذا ، صنع الثلاثي حضور الأبطال كما لو أنهم جدات ودودات يروين القصص الأبعد من التعاسة ، على جمهور لم يعد يجد بالأوضاع سوى عاهات تخفي نفسها باللغات والإيديولوجيات والإنحيازات والإنتماءات . الإرتماء الباهظ بالكوميديا إذن . كوميديا بلا لغة كوميدية . كوميديا تدخن السجائر وهي تخفف عن الجمهور أثقال المرحلة . سوف ينسى من يسمع روايات الثلاثي ، لا الأوضاع الأشبه بالغابات المتشابكة الأشجار ، سوف ينسون الأولاد والزوجات أمام ثلاثي مارس كل أنواع الأبوة على جمهور ثقل الماضي عليه كما ثقل الحاضر . بعد أن بدا المستقبل بالذاكرة . مستقبل لا يعد بالحلوى إلا إذا تذكر أحد طعمها .

قدم الثلاثي كوميديا بالغريزة ، كوميديا الغريزة . شيء بعيد من الأحاجي، بسيط وسهل ويصل كما لو أنه قطيع سعادة يمر في حارات الفقر وحارات الطبقات الوسطى . وجد الثلاثي كالأصابع على أصدغ الجبهات الموجوعة بالوجوه الموجوعة . سكتشات بلا تراجيديا . لا تراجيديا بلا صراع . لا دراما بلا صراع . لا دراما إذن ، مع بقاء الثلاثي خارجه. دار الصراع بالخارج . التراجيديا بالخارج . ولأن أعمال الثلاثي بلا صراع ، جاءت أعمالهم كوميدية لا تراجيدية . التراجيديا أصبع متسخ عند الضيف أحمد وجورج سيدهم وسمير غانم . لم يعدل الثلاثة ياقاتهم ، حين طردوا الحزن والأحزان بالغريزة ، غريزة ككوميدياهم الغريزية . لأنهم فطروا على الكوميديا . الكوميديا فطرتهم . كوميديا حدس. وجدوا أن من اللائق أن ينسى الجمهور تعبه واحزانه ،؟بخروجه من بئرها العميقة إلى ما بدا موسيقى تدفئ الرؤوس الباردة أو تبرد الرؤوس الساخنة . لابأس من تعب الناس ، مادام ثمة من يقلم التعب بالكوميديا .هكذا ، كلما شاهد الجمهور الثلاثي ، ظن أنه خرج من القيعان إلى سماءات لا يستطيع أحد أن يقبض عليها ولا أن يحصيها .

جاء الثلاثي كالرحمة بوقت عزت به الرحمة. لا هم ولا غم . لا تجديد ولا حداثة ولا ما بعد حداثة . هذا ما يحول الأنفاس إلى أنفاس مهشمة . وهذا آخر ما يفكر به الثلاثي ، من لا يتعب وهو يلعب بكل أنواع النبل العاطفي على تعب الناس وغرقهم في متطلبات الحياة القاسية واصطراع الأطراف على قيادة العالم .

يعود اكتشاف الثلاثي إلى المخرج الراحل محمد سالم ، كفرقة استعراض لم تلبث أن خرجت على أفكار الإستعراض المترسبة بالعروض الشائخة إلى نوع وجده الجمهور هو النوع الأفضل من الإستعراض. انقضوا على اللحظة بنوع من الهارمونيا العظيمة ، بدا معها أن الثلاثة سوف يشيخون معاً . وأن الخطر في أن لا يروق الحال لأحدهم بالإستمرار وسط الهشاشات العظيمة في العالم والبلاد . وهذا ما حدث فعلاً، بعد انتحار أبرزهم، أو الضيف أحمد بالعام ١٩٧٠. إذاك شاخ سمير غانم وجورج سيدهم ، وهما لا يزالان في ريعان العمر . صوب موت الضيف أحمد على الثلاثي ، بعد أن وجدوا يلعبون بكل الأفلام لأسباب واضحة وبدون أسباب واضحة . جرى هواء سريع بين جورج سيدهم وسمير غانم ، دفعهما إلى حسبان الوقت بحيث وجداه أطول وأثقل، إثر رحيل الضيف . رحيل مكلف . لم يقدما أعمالاً مشتركة إلا فيما ندر . ظهر وكأن موت الضيف أحمد افقدهما النية في أن يكبروا سوية ، بعد أن لعبوا بروح الأطفال في الكثير من الأفلام السينمائية والمسرحيات والدرامات الإذاعية . لم يعد بمستطاع الثنائي أن يظهر نوعاً من أنواع الجسارة على هذه المنصة أو وراء هذا المذياع أو أمام كاميرا. تعب منهم العقل لا العضلات . لا بأس، لأن موت الضيف أحمد افقدهم المعنى كما أفقد أعمالهم الوضوح . مات من تبقى من الثلاثي بموت الضيف أحمد . وما استمرارهما سوى استمرار راسب في صف رسب فيه .لم يعد جورج سيدهم زارع نضج ولا سمير غانم زارع خيال . كأن أعمالهما فقدت الأناقة القديمة ، كما فقدت الخيال . هكذا ، راح جورج سيدهم يأكل من الهواء الواطئ للأعمال الواطئة.يلعب بالخارطة وهو خارجها . لم يُلحظ في الإبداعات ولا في الصناعات . ثم أنه تهالك ، بعد أن راح يغزل العابرات كما لو أنه على دراجة مثبتة على أرض صالة في ناد رياضي . قد يبدو هذا الكلام شنيعاً، غير أنه واقعي أو مفرط بالواقعية : بموت الضيف أحمد لم يعد جورج سيدهم وسمير غانم سوى جثتين . ثم أن ليس بالجثث يحيا الإنسان . ثم أن الجثث لا تولد ولا تنتج كل هذ الضحك ، كل هذا الضحك القديم ، الخفيف ، الناسي أقدامه بالهواء وهو يقفز فوق المواقف . لم يخسر الإثنان الصدق بالنوايا . هذا واضح وصريح . إلا أن النوايا وحدها لا تسعف الأقدام ولا الأجساد . تركهما الضيف بالعماء بعد أن غادرهما وهو يسعى وراء أسلافه البائدين ، لأسباب لم تحسم بعد . ولأنهما ما عادا ينامان فرحين ، ظهرا وكأنهما يعيشان بالظلام . وحين خرجا منه ، خرج جورج سيدهم معتلاً. كما خرج سمير غانم ، تتقاذفه الأمواج بعد أن تأكد أن رحيل الضيف أحمد ، حمل الثلاثي إلى الرحيل في سفن العدم . وهو كذلك . ذلك أن خروج الضيف أحمد إلى الغياب ، ترك رفيقيه في محيط غير آمن . أكاد أجزم أن جورج سيدهم ، شوهد في شرق وغرب بعض الإنتاجات السينمائية ، ليجد أن تجربة الثلاثي أكبر من أفرادها . هكذا ، ما عاد يرغب بالدخول في رحم النار ، بعد أن أعياه غياب العقل المفكر في الثلاثي الشهير ، من تعدى تفكيره ارتفاعات الأشجار، بحسابات الزمن الماضي . تحولت الأرض أمام جورج سيدهم إلى ورقة . لم يتغمده أحد بالرحمة ، حتى تغمده الله برحمته بعد معاناة مع المرض . تيمن بأحكام الهدنة أولاً. ثم اختفى . حين ذهب سمير غانم بما تبقى له من ذخيرة تراقصت بين أصابعه حتى استطاع أن يهدئها بين الأصابع، بعد أن رآه الجميع في فجاج الذاكرة ، أكثر مما رأوه بكل صوب . لم يسأل نفسه سؤالاً واحداً، حين انخرط على غير هدى لكي يجد أوتاداً لخيمته المتراقصة بالريح . وجد الرجل النحيل كالرصاصة تغور في الفضاء . لم تدوي . لم يسمع دويها إلا في الآذان المبيتة على سماع أصوات الثلاثي . ثلاث كرات من اللهب ، لم تلبث أن ذابت كما يذوب الثلج . أضحت حياة غانم ليلاً بالليل . بيد أنه امتلك سر البقاء . وهو الضحك . أو سكب الضحك على منصات المسارح ومواقع التصوير السينمائية . ضحك بالكثير من التحريف . ما احتاج قوة حضور وضحكاً أكثر بعداً من الضحك العادي . مفهوم الفكاهة المراوغ . ما رفعه غانم عالياً ، إلى الأقاصي . رفعه على ما تبقى من ثمالة المرحلة الماضية . يستطيع من يرغب أن يجد الخيط المفضي إلى فكاهة سمير غانم في عناوين أعماله . ” أخويا هايص وانا لايص”، ” المتزوجون ” المعمرة على حكاية “مسعودي”، من اشترى بذلة جديدة ليكتشف أنه أراد شيئاً ليقع بشيء آخر “جيت أظبط البنطلون ، الجاكيتة ضربت “. رفع كلام على حمالات الحاجة . و” الأستاذ مزيكا ” حيث عبد السميع ماسح الأحذية وهو يحمل صندوقه الغريب ، يخطف ضحكات الجمهور بمجرد حمله أو وضعه جانباً، بعد أن زود بصوت أقرب إلى صوت بوق السيارة . ” أنا ومراتي ومونيكا”، و”الزهر لمَّا يلعب”. هذه عناوين أو أوراق اعتماد ، قامت على سمة إثارة الضحك ، لا الجزع على ما حل بالبلاد والعباد وما سيحل بهم . كأنه طلى نفسه بطلاء آخر ، ليعلي نفسه فوق ملائكة ” ثلاثي أضواء المسرح “. حيث لم تصغي الفرقة إلا إلى حفيف الأوضاع . ما ضاع منها وما ضاع أيضاً. ما ضاع قد ضاع . وقوف سمير غانم من جديد ، وقوف على إسفلت الطريق العام لا على الإهتداء إلى الطرقات الفرعية والحقول أو الرقص المعاكس للشموس الضيقة . شيء بين النضج وبين الشغف العتيق. هبوط على الأول أو الآخر، لا فرق . لأن الأول هو الآخر والآخر هو الأول . وإذ بدا غانم يترنح في الهواء ، لم يلبث أن حول ترنحه إلى ما يشبه رقص التانغو مع الهواء ، من خبرة وذكاء وإحساس بأن السقوط سوف يحدث إذا ما أقام الرجل حربه على النوق لا شيوخها . عودة إلى معادلة المقاصة لا المقام . لا حاجة سوى لذراعين ، لمَّا أن الخروج على النمط السائد يحتاج إلى ألف ذراع . لم يقع إذن في قلب الجرف إذا ما وجد بقلبه . إنه الصباح ذاته والمساء ذاته . المهم أن يحفل العالم بحضور سمير غانم ، بعد أن فقد غانم رأسه بفقدان الضيف أحمد وبعد أن فقد واحدة من يديه بانشغال جورج سيدهم بالبحث عن جسده وسط أكمة عالية، برزت فجأة من بين الرؤوس إثر انفراط فرقة الثلاثي المشرقة . وبكبده المسرحي ، أو بفؤاده المسرحي ، ميز سمير غانم فهمه الذكي للفارق بين الأعمال المعتمدة على كوميديا المجموعة والأعمال المعتمدة على كوميديا سارية الريح أو كوميديا ينبع بحرها من رأس البحر . أو الكوميديا الملقية بتبعات الحضور على الفرد ، من يستطيع أن يحدثها من أفعال طارئة وسط الأفعال اليومية . كوميديا الفم لا كوميديا العينين . كوميديا لا تكبو. لأنها كوميديا لفظية لا تظهر على ما هي عليه إلا حين تخرج من حسبان الكلمات إلى التهريج . التهريج فن نبيل . إلا أنه يسقط وحده عن الشجرة ، حين لا ينجح اللاعبون على أرض الكوميديا باصطياده. التهريج شجرة بعيدة ، شجرة محرمة بالعالم العربي . لأن معظم الكوميديين العرب لايمتلكون سوى القدرة على التفرج عليه ، لا فهمه بوصفه فاكهة من فواكه فن الكوميديا المتقدمة. قُزّْم الفن هذا ، من التولع به أو من الوقوع في عبادته بالإنبهار فيه ، لا المرور بغاباته والإستفادة من قطيفته . سمير غانم من هؤلاء ، يصعد على أكتاف فن التهريج الوهمية ، بدون القدرة على غرسه بالرأس بعد الدق على أبوابه وحجز تذكرة في صفوفه الأمامية . حيرت خطواته من انبهروا به . استعرض سمير غانم في هذا الفن وهو يسكبه في مقر إقامته على المنصات أو في مواقع التصوير . النتيجة : مسار مستقر على شخصية واحدة لا تذهب حتى تعود . لم يبدُ الظرف مساعداً وسط شراسة المرحلة ، المتعلقة بمحطاتها على جلد البلد وناس البلد. . حاول الرجل النحيل أولاً ، ثم البدين ، أن يصنع ملحمة البقاء اللذيذ من ألم المرحلة وشراستها ، حيث انتظرته لسعات الأظافر بحضور عدد كبير من الأسماء في عالم الكوميديا ، من عادل إمام إلى سعيد صالح وعبد المنعم مدبولي وفؤاد المهندس ومحمد صبحي ومحمد نجم وعبد المنعم ابراهيم وعبد السلام النابلسي وغيرهم . وإذ وجد الإحتشاد الهائل ، لم يشعر بالإمان إلا عندما خرج من قلب الأحداث الصاخب إلى الهوامش بالإبتعاد عن السياسة والإيديولوجيا سواء بسواء . هكذا ، عرف عادل إمام بأفلامه ومسرحياته ضد الإسلام الإبن تيمي ( طيور الظلام كمثال ) حين راح عبد المنعم مدبولي يسكب الكوميديا الإجتماعية الراقية في معظم أفلامه . حين وجد خاف سمير غانم من سكان الشوارع هذه ، منعشاً حضوره بالحنو على كائنات الكوميديا البرية ، كوميديات لا يفهمها سوى عشاق سمير غانم كأهلاً يا دكتور . قدم الأخيرة مع جورج سيدهم ، شأنها شأن ” المتزوجون ” قبل أن يسبح غانم في مياهه الإقليمية . حيث قدم المشاغبون في الجيش وإحنابتوع الإسعاف ورمضان فوق البركان والمزيكا في خطر وإلى المأذون يا حبيبي وبنت شقية والحلوة والغبي والبنت الحلوة الكذابة(…) . هذه تعاويذه اللاهية على طريق العالم المليء بالممرات الغامضة أو الشقاء والصراع على آخر حقول الجوع ورشفات الهواء الراغية على علاماتها السوداء. لا حياة بأعماله ، لأن لا موت . لم يشقه أن يلعب داخل الحدود هذه .وأن يشتهر بشخصيتي سمورة وفطوطة اللاعبتين والطالعتين من السطوح المفصولة عن الواقع . شخصيتان ، دميتان عمليتان في فوازير رمضان الشهيرة في مرحلة التسعينيات من القرن الفائت .

لم يخرج الرجل من جسده ولا من روحه ، حيث لعب بجسده نفسه وروحه نفسها على الدوام . تنميط حضور حماه في مرحلة فن المقاولات والأحداث السياسية الكبرى ، من زيارة السادات إلى القدس واغتياله ، ثم مرحلة الرئيس حسني مبارك بتعقيداتها وأجراس إنذارها ، وصولاً إلى مرحلة الثورة ، ثم المرحلة الأخيرة ، مرحلة الرئيس السيسي . أقتل مراتي ولك تحياتي عنوان أحد أفلامه . البنات عايزة إيه. وهكذا . عناوين بعيدة من معايير الكافيين العالية بالأعمال الفنية . أكرر :احتمى بالجماعة أولاً: ثلاثي أضواء المسرح . ثم بلمس الأشياء بطرف اللسان وأطراف الأصابع . لحظة اكتشافه معادلته، لحظة سعادته . شيء من التسكع في احياء الكوميديا المزدحمة . مر الرجل بين اليقظة والنوم إلى كوميدياه، كوميديا تقوم على زرع الفرح ضد الكآبة . هذا أولها ، هذا منتهاها . كوميديا تفيض بالإرتجال ولا ترق به . رجل مؤمن بالإضحاك ، رجل ضد الجفاف . كفاه الأمر . وجد مساحته ، بعيداً من الأخشاب الضارة للمنصات ، بعيداً من الأجواء المسمومة في مواقع التصوير . هكذا ، بقي سمير غانم في عمره مذ بدأ مع ثلاثي أضواء المسرح . لم يكبر ولم يبقَ طفلاً. كبرت الأشباح ولم يكبر ، كبرت كل الأشباح حتى أشباحه ولم يكبر .واحدة من أسباب طفولته الدائمة بقاءه دون عقيدة حولته ، لو امتلكها ، إلى كوميدي من فولاذ .

حين ولد غانم من جديد ، بعد الثلاثي ، بدا أنه لم يولد بعد . لأن مغالبة الضيف أحمد النوم الثقيل ، ثم انزلاقه فيه حتى الحلم ، وضعت تجربة الثلاثي بعيداً من المؤقت . وضعت الثلاثي في معناها الدائم . لن يتجاوزها أحدٌ ولو مشى طويلاً على قدميه . بقي سمير غانم في الفكرة ، فكرة على قدر كبير من العسر في الخروج عليها . لأنها لم تمتلك مائدتها فقط، حين امتلكت أشواكها وسكاكينها اللامعة . لذا ، بقيت هي نفسها وبقي من نشأوا فيها هو أنفسهم . لهو على الدوام ، لهو كلما سمحت الفكرة القائمة على اللهو ، حتى فاض اللهو فيها بحيث اذا غاب أصاب الثلاثي الربو . ضحك ، ضحك ، ضحك. بقي سمير غانم يضحك على طريقة الثلاثي ، وهو يقيم الحرب عليها في الأفلام والمسرحيات، ظاناً أن الحرب سوف تعليه على الشاشات في شخصية أخرى ، لمَّا أنه بقي وجلاً من “صورته الجديدة ” وسكراناً بشخصيته القديمة . شخصية أحدٍ فرسان الطاولة المستديرة لثلاثي الضحك غير المهتم بالإفتراضات والطبقات والأفعال على الأرض والسياسات والجدليات . لم ينزعج حين أصبح أوزن من نفسه بأرطال . لأنه أدرك أن ما تغير فيه هو وزنه ، إذ بقي هناك حيث تجربة ثلاثة انتهت بموت أحدهم ، وبموته أصبحت التجربة هلامية غير أنها لم تنتهي . لم يهتم خريج كلية الزراعة ، شأن الكثير من نجوم مصر ، بالنظريات : لا يصنع الملبس الممثل . لم يهتم بالتغريب والتبعيد والواقعية والواقعية السحرية والتجريد والتكعيب. لم يهتم بهذه القمصان المسرحية ، لكي لا يضطر إلى أن يكويها . وضع قميصه عليه ، دخل فيه ليجد نفسه داخل الخزنة القديمة ، حيث الأبيض للفرح والأسود مشروع أحزان . اعتقد أن غانم لم يتخط موت الضيف أحمد ولا جمله ولا حضوره الأشبه بالأعياد النظيفة . حين مات ، ترك قرحة في معدة جورج سيدهم وسمير غانم ، تذكرا من أوجاعها لحظة انسياح قائد المشروع الكوميدي وتشبعه بالكوميديا ، ثم تآكله قبل انطفائه. لا ازال اذكر سكيتش الثلاثي في فيلم ” ثلاثين يوم في السجن ” مع فريد شوقي ، لأنه أجدر من الفيلم ذاته .زركش السكيتش الفيلم بكل أنواع الإستيقاظ ، حين فتح أبوابه على تنقيحات الكوميديا مع إضافة حالات الكوميديين على الكوميديا ، ليصنعوا أعجوبة أشبه بأعجوبة نجاة بحار من فجر أحمر ينذر بعاصفة هوجاء .

غلبت شخصية سمير غانم على شخصياته . شخصيات طيبة من طيبته ، الإرتجال جزء من تكوينها لا من قرارها ، جزء من ولادتها . جزء من زوبعتها . تصور الفشل بالخروج عليها يكفي لكي لا يتم الخروج عليها . ادرك سمير غانم أن خروجه على الثلاثي خروج إلى تكوين آخر: بهلوان برجل واحدة. ولأنه لم يرد أن يسقط احتفظ بقدميه . قدمان من رصيد الثلاثي . لم يغفل عن الأمر وهو يبدأ نهاراته بالتجمد بالقديم لا بابتداع المهارات الجديدة . لا خذلان شخصي مادام غانم يمشي على عجلات الثلاثي منفرداً، بفتحة قميص لا يخطئها أحد من المشاهدين أو النقاد . ذلك أن الجميع تواطؤا على الأمر ، لكي يروا الأرواح تخرج من صدر غانم ، روح جورج سيدهم والضيف أحمد . اذ وجدوا أن الثلاثي بشر من كوميديا لم تجر نفسها ببطء حين مدت يديها إلى الناس بالضحك. الثلاثي رافعة ضحك ، لم يبقى منها إلا غانم . واذ لم يريدوا أن يقتلوا التجربة ، تركوه يمد نفسه إلى نهاية الفكرة . لأنهم ارادوا أن يبقى العالم مرحاً بتذكير غانم بمرح الثلاثي ، من مات حين مات غانم بعد معاناة مع كورونا . لأن شكل الثلاثي ارتطم بنفسه من فزعه على آخر الثلاثة . الضيف أحمد وجورج سيدهم أولاً. الآن ، سمير غانم . ثلاثي أضواء المسرح بالغياب . إنها نهاية موقعة علاج المآزق بالكوميديا . لا حِكم ولا أقوال خالدة . قيم الإضحاك وحدها في عيادة علاج حالات الكآبة بالأزمنة المستعصية . هذه ليست نهاية ثلاثة رجال ، هذه نهاية مرحلة. احتاج سمير غانم الكثير من الشجاعة لكي يعبرها وينتهي فيها ، نهاية رجل شجاع.

العدد 118 / تموز 2021