غياب يوسف شعبان

تسعون عاماً من الحضور المُلمِّح

عبيدو باشا

لم يمتلك يوسف شعبان طبائع مترددة ، لا في حياته الخاصة ولا بأعماله السينمائية والتلفزيونية والمسرحية . لم يقف على الحافات ، حين فرضت عليه عائلته أن يخوض حروبه ضد الإمارات الجاهزة . ذلك أنه لم يكترث إلا بخياراته، وهو يجوب اليقين بحثاً عن صورته، حيث تتوازى الأضداد في سطور الرجز المُعنَّى. لم يهن الأهل بمخطاباته ، وهو يِدوِّر سعيه على نكران رغباتهم بأن يضحي ضابط شرطة أوضابط يالمؤسسة العسكرية. إلا أنه لم يمدح خياراتهم حين لم يجد فيها شرفته المفرجة على العالم ، عالمه لا عالم الآخرين .

لم يغمض الرجل جفناً على خياله بأن يضحي ممثلاً بالسينما والمسرح والإذاعة والتلفزيون . هكذا هو منذ البداية . هكذا هو ، إنتظر بحرص غير راجف ليقنص اللحظة سباحته بقدور الفن ، بعد أن ارتضى أن يقف على منعرج وسطي بين طموحاته ورغبات الأهل، بحيث استسلم على أن يكون هو وهم ، كليهما . أن يوائم بين مايوحد الأشياء بترتيب الوضع على مصوغ لا غالب ولا مغلوب ، ما دام الأهل لا يجدون في خياره إلا خطأ لا علاقة له بالإعتدال . وما دام الأهل لا يجدون بخياره إلا خطأ لا علاقة له بالإعتدال. وجدوه وقد أضاع الطريق منذ البداية . ومنذ البداية اختار الأنيق طريقه ، إذ وجد الفن كاثداء الذئبة الستة ، يتبعها لتزوده بصحة النفس والألق .هكذا وجد أن من الأخلاق الإلتحاق بكلية الحقوق في عين شمس ، بعد أن رفض الإلتحاق بكلية الشرطة والكلية العسكرية . الوقوف بالوسط . لا شرطة ولا جيش. إذن : الحقوق . محام يقف عند قوس القضاء . الحقوق ، إذن : كلية الحقوق مقصد الأهل ، إلى كلية الحقوق لشراء الوقت ورد الأهل عن أكل الوسائد من غيظهم وهم يرونه يأكل الحلم . كلما اقترب من الحلم بكوا . هناك ، كفاح البلل . الكفاح ضد بلل الروح بالحقوق والكفاح من أجل أن يبتل بالمسرح ، طالما أن بكلية الحقوق مسرح . كما هو الحال بالكليات الأخرى . مسرح على قدر من القدرة على المساعدة باتضاح المشوار بتدوين الحضور على منصته الأشبه بالسرايا بكلية الحقوق ، حيث القوانين طائرات نفاثة من نحاس . هناك وجد الجياد ، جياد تجرف الموائد .كرم مطاوع جوادٌ أول بكلية الحقوق . جواد يرمح بالحقوق ليتخطاها ويصل إلى المذهل العاصف . هذا واحد من أبرز الأسماء بالمسرح العربي والمسرح المصري . المساند والقوائم والفرش بكليات الإختصاص والسروج والحدوات بعيداً من هذه الكليات . بداية الجمال والجماليات بالكليات ، ثم عصف بالمسارح والسينما والتلفزيون . ترجمة ، ثم اقتباس ، ثم تأليف . ذلك أن معظم نجوم مصر وجدوا جمرهم في مسارح الكليات لا في موادها الأولى . كلية التجارة والزراعة والحقوق وغيرها من الكليات محضت الكثيرين طريقهم إلى النوم في احلامهم ، من عادل إمام إلى آخر العنقود . يوسف شعبان على عجلات جامعته على نقطة توازن بين كفتي الميزان الخفي . اهتدى بعصا المسرح بكلية القانون إلى مهجعه الأول والأخير .

بالرواية : آزره بكلية الحقوق بعين شمس أحد أبرز النقاة بتجربة المسرح المصري : كرم مطاوع . ولأنهما بالحياة ذاتها ، نصح الأول الأخير بالإلتحاق بفرقة التمثيل بالكلية ، حيث جرى تذويب الرغبة في حقل المسرح الجامعي، ما دام المسرح العام لا يزال بعيداً . خطوة الوقوف بالنسب ذاتها بين الحقوق والمسرح ، أخرجت يوسف شعبان من مدخل المسرح الجامعي إلى مداخل المسرح العام ، اذ حسم خياره بالإنضمام إلى كلية الفنون ، وهو لا يزال بعام الدراسة الثالث في كلية الحقوق . حقل أرزه هناك . هناك ، النقوش والمحامل والأعمدة والأبواب وكؤوس العطارين . هناك الخلائق ، حيث اللعب على الشبه لا الشبهة . أن تشبه لا أن تشتبه . هناك المنشأة المتطاولة إلى حيث الخيلاء ، لا الترافع على قوس العدالة ولا القوانين المتساوية . ثم الهندسات ما لا على علاقة بهندسات الحدائق.

لم يزغ الرجل طويلاً، حيث وجدته السينما بين حملان الرجاء بالتجديد والنفس القوي وتذويب اللسان في فاكهتها .ثمة صعوبة بالأمر . هذا متوقع . لأن لا سهولة بالتواجد بسلاسل الممثلين الكبار . لأنه لا يشبه طريقاً نظفته مياه الأمطار بعد احتباس طويل . هكذا ، نافس يوسف شعبان فور دخوله الميدان ذئاب البلاتوهات . رشدي أباظة وكمال الشناوي وحسن يوسف وصلاح ذو الفقار وشكري سرحان . لأن إخراج هؤلاء من ممالكهم أو مقاسمتهم ممالكهم يحتاج إلى طريق لا يعبرها إلا الملوك . وجد شعبان طريقه وسط الاهوال المحتشمة واللامحتشمة، بحيث يروى أن نجوم ذلك الزمن ، من أصابهم الذعر من وجوده أمام كاميراتهم ، بادروا إلى تخفيض أجورهم ، حتى يبعدوا عنهم أطوار هذا القادم الجديد . بحيث إذا ما قورنت أجورهم بأجره ، قامت هبات الشك بين مدراء الإنتاج. يختارون القيمة بالآداء ، بالبراعة ، أم بالقيمة المادية . شراع واحد بين النار والنار . إلا أن مدراء الإنتاج اتبعوا لذائذهم من خلال ألق حضور شعبان ، من قفز من الشجن إلى الثقة بخلال فترة لم تقف طويلاً على مشارف الألغاز . ثم أن يوسف شعبان لم يخترق احتراس الآخرين منه فقط، حين اخترق المتواليات على الأرض. لأن تسريح الحضور على الأرض، لا يشبه الحضور على المنضدة . ذلك أن جمهورية مصر العربية تتمتع بأنظمة ثابتة ، لا تتدلى من العرائش. وما على من يرغب بأن يجد مساحته إلا أن يخترق النظام المليء بالأسرار الكبيرة والصغيرة .

قفز الرجل فوق الأسوار وهو يبحث عن الوجود. ثم إلى الزبدة . لم يستعمل شعبان مثقاباً، لأنه لم يمتلكه ولم يحتجه . دخل بجسده وروحه في حياة الجماعة. دخول بالبروق الشخصية إلى عالم الصناعة السينمائية ، دخول في نظام الأنتاج الكبير . دخول بالتخصص بالعمل وتقسيماته . دخول بالعادات والنزاعات وصولاً إلى حضور لا يشبه شيئاً قدر مايشبه صاحبه . دخول بشكل الإنتاج الصناعي في مجتمع صناعي ، على قدر من الصعوبة والتعقيد . لم يسمح شعبان بأن تقتله قوة المجتمع الصناعي ، حيث لم يقدم له المعذرة بخوفه أو تردده أو إنهاكه أو ضيق موهبته . حين وقف بالشمس ربح ظله. إنها المرحلة الناصرية وبدايات النمو الإقتصادي وتوفير الطاقات لأجل حماية وتعزيز هذا النمو .

متطلعٌ وراغبٌ بقوة باللحاق بالسياق الصناعي بالقطاع السينمائي ، بنى الرجل نهوضه على أسس سليمة وواعية حصلها من خلال اكتساب الخبرة أولاً بالتجربة الجامعية ، ثم بالتوسع المدبوغ بروحه الصلدة الأقرب إلى صوته الصلد بالتجربة العامة . ذلك أن ما أخذ يوسف شعبان إلى بعض أدواره ، قياس صوته المختلف . صوت كالقدر ، صوت لا ينزل على الأدراج لكي يصل إلى الباحات . صوت قافزٌ، صوت يقفز بقلب لا يخشى ولا يخاف . صوت كالقافلة. صوت كالتقويم . صوت كرعد ، يأخذ إلى نوع من فصاحة المقيمين بالثكنات . لم يرشُ الصوت الآداء . لأن شعبان قدم أدواراً يطلق عليها البعض “الأدوار الأزلية “. دوره في حمام الملاطيلي علامة. دور من الأدوار الأزلية . ثمة أدوار صارع بها نفسه ، كما صرع بها أخصامه . دوره في “رأفت الهجان” دور نجمي ، تمت كفالته بالمقامرة المفتوحة بين المخابرات المصرية والمخابرات الإسرائيلية . محسن ممتاز واحد من الأدوار / الأيقونة ، إذ راح صاحبه يوجه من زرعته المخابرات بقلب دولة العدو ، يوجهه وسط الصفائح المتراكبة لإسرائيل، باتجاه نجاته ونجاة مجتمعه . الشرط الأول أن يتحول محمود عبد العزيز إلى رجل ضد الحنين . جباية الحياة من الموت ، من الفوضى السياسية والعراك العسكري . دور مطهو بالحنكة والحرفة و بألعاب المصارعة . لم يبق مواطن بالعالم العربي إلا وعبره رأفت الهجان . لأنه أخرج الزجاج من أفواه المهزومين بعد بروباغندا تفوق المخابرات الإسرائيلية . بآداء لم يهرق تفصيلاً ، خاض يوسف شعبان في واحدة من الآداءات القائمة على ” العذابات المرحة “. قحٌ، يمتلك سجلات لا يمتلكها أحد ، يخوض صراعاً مفتوحاً على أقدار لا تلاطف . آداء داخلي يؤنقه صوت لا يؤجل توزيع المهمات على الخنادق . دورٌ لا ينسى . خاتم من خواتم الرجل ، من صعد على المراحل مرحلة مرحلة ، برزانة براغماتية لا انتهازية . إذ أن شعبان المولود بالعام ١٩٣١ إبن الجمالات المشاكسة لبعضها . جمالات الملكية وجمالات الجمهورية وجمالات الوحدة بين مصر وسوريا. أو الجمهورية العربية المتحدة . إبن الأسرار الكبرى للمراحل الثلاث . لم تقتله مرحلة ولم ينجُ من مرحلة ، ولو أنه وجد نفسه يطفو على ماء الناصرية ، بعيداً من التعودات الفضفاضة .

ثلاث مراحل سياسية وأربع زوجات ( ليلى طاهر ونادية اسماعيل شيرين وسهام فتحي وإيمان الشريعان )، دينُ الرجل موسع روحه ورجاءه . كأنه في الأمر هذا لم يجافِ مرحلة ولا امرأة ولا أُخْذاً.

لم تقتل يوسف شعبان ، ببعض الأزمان ، سوى صورته المنمطة، ما وجده بعض المخرجين شراعه المفقود. سالفان عاليان وشارب يثبت التوازن بأدواره ، بحيث لا يؤخذ لا إلى يمين ولا إلى يسار ، والصوت الصوت الصوت الصوت . الصوت أربع مرات . لأنه علامة من علاماته الفارقة وعدوه . صوت بقوة أن يقلب صاحبه من ممثل بصري إلى ممثل إذاعي . صوت يأخذ إلى الجفاء أكثر مما يأخذ إلى طبائع الله الأخرى . صوت مرئي بالأعمال باللغة العربية الفصحى بالأخص .وببعض الأعمال بالمحكية المصرية.حيث لعب الرجل أدواراً لم يأخذها إلا كرقم من أرقام . أدوار لا تعلق عالياً، حشها بمنجل صوته . قال صوته حقيقته دوماً. غدره لسانه في أدوار الفتوة ، كما غدر محمود ياسين صوته في مسرحية ” واقدساه”. الكلام على يوسف شعبان يورق الكلام على محمود ياسين . لأنهما حين لعبا باللسان لا بالروح والجسد ، وجدا نفسيهما في غدر المعقول للمعقول. وهما شبيهان كرفيقين في قطار .

قدَّر يوسف شعبان مراتبه وسط الإحتمالات القناصة . هكذا ، قدم ١٣٠ فيلماً سينمائياً أولها “سهم الله ” بالعام ١٩٥٨، ليقفز فوق احتمالات الذبول إلى المشاركة في صميم الإنتاج السينمائي . يذكر له النقاد أدوارًا إشتغلها بالنواجذ. دوره في “حمام الملاطيلي “كسر أغصان ولادته بصالح شخصية المثلي . دور دُرِّس في معهد السينما. لعبٌ بالعيون وما حول العيون . لعبٌ على الأجزاء ، حيث لا يصرع جزء آخر وهو يعضه بصراع بلا هوادة، صراع الفولاذ مع الفولاذ . دوره في ” معبودة الجماهير ” علامة . حيث لعب دور زوج شادية ، مخرج أفلامها بالفيلم . امتدحته شادية أمام عبد الحليم حافظ ، غير أن الأخير لم يثق به . هكذا وقع الإنتاج في بيادر العلل ، حتى وجد عبد الحليم حافظ أن الخلاف على شعبان لن يوقظ إسماً آخر ، لن يوقظ سوى شكل من أشكال العلاقات المثلومة بينه وبين شادية ، حيث اندفع ( بدون تأجيل ) إلى عقد لقاء ذوب فيه الخلافات بصالح السبك الواحد . إنه أحسن حالاً بالسينما مع “للرجال فقط” و”حادثة شرف “و”شمس وضباب” و” ميرامار “و” مراتي مدير عام “. نبض الذهب ببعض أدواره السينمائية والتلفزيونية . ١٣٣ دراما تلفزيونية آخت بعضها ، أخوة العادي وأخوة غير العادي . أبرزها العائلة والناس والشهد والدموع وعيلة الدغري ولحظة ضعف وليالي الحلمية ( الجزء الخامس ) والسيرة الهلالية وملوك الجدعنة وبالحب حنعدي وأوراق التوت ورأفت الهجان ، بدوره الممتدح من من يهدرون بالنقد أو يقعون بحمى المشاهدة . رأفت الهجان قرين ” دموع في عيون وقحة ” مع عادل إمام . درامتان لم يضيع أصحابهما الوقت بترويض الحصار المضروب على ملفات المخابرات المصرية . أبرز مسرحياته مطار الحب مع عبد المنعم مدبولي وميرفت أمين ، وثق حضورها بالعام ١٩٧٠من شاهدها ووضعها في طاس المسرحيات ذات العافية .

لم يهجر يوسف شعبان المسرح . بيد أن الأخير لا يقوم قيامة الأفلام والدرامات التلفزيونية . لن يعثر المسرح إلا على الأسى أمام نبت السينما والتلفزيون المكتملا الحضور حتى قبل الإكتمال . ثم أن شعبان لم يهجر الإدارة الفنية ، إذ شغل موقع نقيب الممثلين المصريين على مدى ست سنوات ( ١٩٩٧/٢٠٠٣).

استوقد يوسف شعبان وجوده بصفاء بلا نمش . وبصوت نقاشٍ . بدا جسراً قديداً . لعب الرجل بدون كذب أو تلفيق . تسعون عاماً من التدبر ، تسعون من العبور المُلَّمِح.لم يضع وقته بتضييع الوقت على آثام الخلود ، لأن الأنيق لا ينتمي إلى فئة الشحاذين بالمجال هذا .

العدد 115 / نيسان 2021