فؤاد مطر.. والذاكرة الوطنية

(عسكر سوريا… وأحزابها)
كتاب جديد يستعرض الأحداث، ويكشف المواقف، ويوثق للتاريخ

أمين الغفاري

يتمتع اسم (فؤاد مطر) بتقدير كبير بين قرائه وأقرانه في نفس الوقت، فنحن أزاء رحله طويله مع القلم والورق عبر العديد من الصحف والمجلات ومن ثم الكتب، وباعتباره مؤرخا، عاصر، وشاهد وقرأ، وكتب، ودقق، وتمعن، وراجع، ومن ثم أصبح له باعا لكي يدون. كما ان اسم (سوريا) الحبيبه يشكل لدي الكثيرين وقعا شديد التأثير – كاتب هذه السطور منهم – كونها تمثل ضميرا للأمة العربية، بشعبها المناضل، وباعتبارها كذلك القطر الذي شكل نواة وحده مع مصر، كانت ولازالت هاجسا وحلما ونموذجا، مهما بعدت المسافات أو ادلهمت الخطوب، وأصبحت تهدد الوحدة الوطنية ذاتها، في بعض الاقطار، الا أن الآمال لا تغرب، ان صحت العزائم، واتحدت الارادات أن تحقق الأحلام. تشتعل كذلك العواطف حبا ووجدا، وتشتعل تقديرا واعجابا، ثم تنحني الرأس احتراما أمام كلمة (العسكري) وليس كلمة (العسكر) التي يتم تداولها كثيرا تلك الأيام، والتي تستخدم حاليا أيضا في بعض – وليس كل – المرات، بقصد الأستهجان (العسكريون) الآن هم الدرع والملاذ والحصن والقلعه والصدر المفتوح الذي يتلقى طلقات البارود والمدافع وكافة أنواع السلاح أو طعنات الحراب، لكي يحمي الشعوب العربية، من كل ما هو خريف، وليس ربيعا، مهما لبس وتغطى وتدثر من ألوان الضلال والتضليل. الجيوش الوطنيه وهم العسكريون هم الصخرة التي تتكسر عليها أنياب الذئاب من كل مكان أو اتجاه. بالتأكيد ليس معنى تحرك أي جنرال بقواته يعني أننا أمام ثورة أو حتى مشروع ثورة، والا اعتبرنا تحرك اللواء عبدالكريم النحلاوي في 28 سيبتمبر عام 1961 للقضاء على دولة الوحدة ثورة، في حين ان ذلك لم يكن سوى انقلابا، ليقوض أركان الوحدة. وباعتراف عبدالكريم النحلاوي نفسه في حديثه التلفزيوني مع المذيع (أحمد منصور) عبر قناة الجزيرة أنه لقي مقاومة، وان كان قد نسبها إلى الذين تم تضليلهم بالشعارات، كما لا أنسى عبارة للراحل الكبير أحمد بهاء الدين قال فيها (هناك كتاب يبحث عن مؤلف، أنه كتاب »كيف قاوم الشعب السوري الأنفصال«).
اهمية ذلك الكتاب وما يماثله
تكمن أهمية اصدارات فؤاد مطر المتعاقبه أنها تنعش ذاكرة المهتمين، كما أنها – وهذا أهم – تضيف إلى معلومات أجيال جديده متعاقبه تلك الاحداث وما تخللها، من وقائع ورؤى واتجاهات، كما تسجل مواقف القادة والزعماء الذين دخلوا في ذمة التاريخ، وتأتي تلك الكتب لتضعهم في

كتاب يروي الكثير من الأحداث
ويثريها بالكثير من التفاصيل

مراكز الضوء من جديد قبل أن يدخلوا إلى دائرة النسيان.
ظاهرة الانقلابات العسكريه في سوريا
يروي الكاتب فؤاد مطر قصة هذا الكتاب، في حديث تم تناوله مع (الغائب الحاضر) كما يصفه غسان تويني، وكان يعمل معه بجريدة (النهار)بعد ان لاحظ اهتمام فؤاد مطر المبكر بتدوين ملاحظات عن ظاهرة الأنقلابات العسكريه في سوريا ابتداءا من الأنقلاب العسكري الأول الذي قام به الزعيم (رتبه عسكرية، وليست توصيفا سياسيا) حسني الزعيم، على نظام حكم رئيس الجمهورية في ذلك الوقت شكري القوتلي ورئيس وزرائه خالد العظم، ومعهم مجموعة من الذين شاركوا في الجمهورية الأولى وأودعوا السجون، وقد خرج الكثيرون منهم بعد ذلك سواء للهجرة أو للجوء السياسي إلى بلدان عربيه وأوروبية، وأعرب الكاتب لمحدثه عن رغبته في تسجيل تلك الملاحظات والآراء في كتاب يصدرعن(دار النهار)، وكان اقتراح غسان تويني في المقابل أن يبدأ هذه النوعية من الكتب باصدار مؤلف عن تسلسل الحكام واقطاب النخبة السياسية التي تصدرت الحكم في لبنان أولا. وقد تم ذلك بالفعل، ولكن فيما يتصل بسوريا فقد ظل هاجسا يراوده حتى أقدم عليه. تلك الواقعه تكشف عن مدى الولع الجذري لدي فؤاد مطر بالرصد والتسجيل، وبمعنى آخر(لقد ولد فؤاد مطر صحفيا منذ ان تم فطامه ان لم يكن وهو ما زال جنينا). تلى انقلاب حسني الزعيم انقلاب سامي الحناوي وصولا إلى انقلاب أديب الشيشكلي، ويستطرد الكاتب في القول، (أن ثلاثة جنرالات يمكن اعتبارهم الشتله التي انتهت شجرة وأثمرت انقلابات أدخلت سوريا في دوامة، فضلا عن أن جنرالات الأنقلابات السورية »حفزوا« جنرالات وعقداء ورواد في العراق والسودان واليمن اضافة إلى »البكباشيين والصاغات في مصر« على خوض هذه التجربة الحنظلية !!!.
نقطة نظام.. وأسجل اعتراضا
هنا أتوقف لكي أبرز(الكارت الأحمر) بمعنى أسجل اعتراضا، فثورة 23 يوليو عام 1952 ليست »تجربة حنظليه« وانما هي ثورة غيرت الكثير من الواقع السياسي والأجتماعي والأقتصادي لمصر، وكان لها أثرها في حركة التحرر العربي والأفريقي على الأقل، كما كانت رائده في حركة التحرر العالميه من خلال موقعها وموقفها في مؤتمر باندونج وحركة عدم الانحياز، ولاننسى أن الزعيم الكوبي الشهير فيديل كاسترو قد قال (كانت ثورة 23 يوليو في مصر الهاما لنا في امريكا الجنوبية) وأن الزعيم الفنزويلي الراحل هوغو شافيز قال في برنامج أذيع في قناة الجزيرة (أنا ناصري) وتم وضع تمثال لعبدالناصر في احد ميادين العاصمه (كراكاس) وحضر مناسبة كشف الستارعنه عبدالحكيم عبدالناصر نجل الزعيم الراحل، كما توجد (جامعه عبدالناصر) في العاصمة الغينيه كوناكري تلك نماذج لا أريد التوسع فيها لمكانة الرجل، فهل هناك اسم ينازعه في تلك المكانه حتى تسمى تجربته (حنظلية) !!!. أود أن أشير إلى واقعة أخرى أن التفكير في قيام ثورة يوليو (سميت حركة الجيش المباركة) فجر 23 يوليو، وحين صدر قانون الأصلاح الزراعي الذي حدد الملكية الزراعيه ب 200 فدان فقط أو 300 للأسرة، في اول سيبتمبر من نفس العام 1952، أي بعد حوالي أربعين يوما فقط من قيام الحركة المباركة، قال الدكتور طه حسين (هذه ثورة وليست حركة أو انقلابا). يضاف إلى ذلك أن عبدالناصر وفق شهادة خالد محيي الدين كان يفكر في عمل انقلابي ضد الملك فاروق أثر استجابته للورد كيلرن في طلب تقلد النحاس باشا للوزارة عام 1944، فالاذعان لطلب الاحتلال كان مرفوضا من ضباط الجيش، وكان كل ذلك بالطبع قبل اقدام الزعيم حسني الزعيم على قيادة انقلابه على حكم الرئيس الأسبق شكري القوتلي بخمس سنوات، وعلى ذلك لم يكن هو »المحفز« على تحرك الجيش المصري. نقطه أخيرة تضمن البلاغ رقم واحد لحركة الجيش في مصر الحديث عن الهزيمة في فلسطين، بينما خلا البيان الأول تماما لأنقلاب حسني الزعيم أو الأنقلابات التي تلته، من ذكر فلسطين – رغم الهزيمة – تماما ونهائيا، وهو أمر جدير بالنظر.
وان كنت بالطبع أقدر تماما ما ذكره الكاتب في صفحة 26 من الكتاب عن ثورة أو انقلاب 23 يوليو وتأثيثها للنظام الجمهوري دون ان تؤذي الملك فاروق أو اي من أفراد أسرته بخلاف ما حدث من انقلابات في دول أخرى.
وقائع الأنقلاب الأول
اهتم الكاتب بان يورد الاسباب التي أعلنها قائد الجيش حسني الزعيم للقيام بهذا الأنقلاب ألأربعاء 30 مارس 1949، وذلك خلال اللقاء الذي دعا اليه وحضره اصحاب الصحف والمراسلين الاجانب في مكتبه في وزارة الدفاع، تحدث لهم فيه حول الحركة الأنقلابيه التي تمت في سوريا، ومما قاله. ان الأسباب التي دعتنا لهذا العمل ترتكز على العوامل التاليه:
أولا – الهجوم المتكرر على الجيش من مجلس النواب
ثانيا – اظهار الجيش في مختلف المناسبات بمظهر غير لائق بسمعته كجيش عربي فتي، وآخر تهمه وجهت اليه هي اتهام فريق من رجاله بالسارقين.. وما إلى ذلك.
ثالثا – ما لمسناه من الشعب عامة هو عدم رضاه عن الحالة في البلاد بوضعها الحاضر. (وضرب مثلا على ذلك ببعض الضباط الذين زجوهم في السجون بتهمة السرقه بيد ان التحقيق أظهر براءتهم واتضح أنهم فقط مهملون لواجباتهم الرسمي). وأضاف حول أقدام الحركة باحتجاز

الكاتب الصحفي فؤاد مطر
اليقظه في الحدث والغزارة في الانتاج

حرية بعض الأشخاص من الرسميين مؤقتا، ثم عرج إلى تأليف الحكومةبالتشاور مع مجلس النوب.

رواية خالد العظم عن حسني الزعيم
بعد ان يتحدث السيد خالد العظم عن واقع الاحوال التي مهدت السبيل امام حسني الزعيم كي يقوم بالأنقلاب ويسرد الوقائع التي يختلط فيها الشعور بالمرارة مع بعض النقد الجارح لمن عمل معهم بداءأ برئيس البلاد الذي حسب توصيفه بأنه (المهيمن على مصالح الدولة وموجه الأموركما يشاء، ولايبقى من الوزراء معه الا من توافق رأيهم مع رأيه) يورد بعد ذلك ما يراه أسباب حقيقيه للأنقلاب وهي تنحصرفي كونها حركة طائشة قام بها رجل احمق متهور هو شخص حسني الزعيم، وقد اراد حماية نفسه من العزل والاحالة إلى المحاكمة بتهمة الاشتراك في صفقات مريبه وخاسرة تعاقدت عليها مصلحة التموين في الجيش مع بعض الملتزمين الذين قدموا بضاعة فاسدة وقبضوا ثمنا مضاعفا، ويشير إلى الشركه المشهورة باسم الخماسية الصغرى المؤلفة من فايز المالكي ورفاقه، ثم يعود فيقول أنه لا يستبعد الدور الذي قامت به بعض الدول الأجنبيه في تحضير الانقلاب وفي تشجيع حسني الزعيم على الاقدام عليه. كما نرى ان الاتهامات قاعدة حاكمة، فالرئيس شكري القوتلي (مهيمن) لا يبقى معه سوى من سايره، وحسني الزعيم أحمق ومتهور، ويمكن ان تطاله يد القانون، ولايستبعد دور اجنبي في الانقلاب.
انقلاب سامي الحناوي
ثم نرى ما حدث للأنقلاب التالي (سامي الحناوي ورفاقه) والبيان رقم واحد، ودوافع الانقلاب، وهي لا تخرج عن اتهامات بتبديد الثروة العامه وسوء الادارة والفوضى الداخلية، والفوضى التي سارت اليها السياسة الخارجية، الخ ثم يشير الكتاب ص 160 إلى بعض المؤشرات ان المملكتين المنافستين العراق والاردن ليستا بعيدتين عن الانقلاب الذي قام به (الحناوي) ثم يذكر الكتاب ان الحزب الوطني السوري بقيادة صبري العسلي قد قام يوم الاربعاء 29 سيبتمبر بعلان بن صادر عن مؤتمره الرابع قرارا يقضي بالاتحاد مع العراق تاركا إلى اجتماع اخر اتخاذ قرار بشأن خوض الانتخابات النيابية وبدا من ذلك ان الحزي فيما لوخاض الانتخابات فسوف يكون هذا القرار ضمن برنامجه، وان كان قد قاطع الانتخابات التي كانت تعد لانتخابات جمعية تاسيسية لوضع الدستور.
الشيشكلي وصعوده للسلطه عبر اكثر من انقلاب
بعد ان قامت الجمعية التأسيسية بانتخاب هاشم الأتاسي رئيسا للدولة اعتبر السوريون ان قيام الجيش بمباركة هذا العهد أنه لا انقلابات عسكرية أخرى يمكن ان تطل على البلاد، ولكن كانت هناك مفاجأة على الطريق وهو البيان رقم (1) صادرا عن العقيد أديب الشيشكلي ويحمل تاريخ 19 كانون الأول عام 1949 ويقول البيان (الى الشعب السوري الأبي.. ثبت لدي الجيش ان رئيس الاركان العامة اللواء سامي الحناوي وعديله السيد أسعد طلس وبعض ممتهني السياسة في البلاد يتآمرونعلى سلامة الجيش وكيان اللاد ونظامها الجمهوري مع بعض الجهات الاجنبية، وأن ضباط الجيش يعلمون الأمر منذ بدايته، إلى آخر اليان الذي يعلن كذلك أقصاء هؤلاء المتآمرين، وأن الجيش سيترك أمر البلاد إلى رجاله الشرعيين ولن يتدخل اطلاقا في القضايا السياسية.
لكن الوعد لم يتحقق وأطل الشيشكلي بوجهه، في أكثر من انقلاب، ولكنه لم يترك علامة، ولم يخلف تأثيرا، وان شغل حدث، حتى عادت الأمور إلى سيرتها الأولى بعودة الرئيس شكري القوتلي الذي أقصي أبتداءا بأول بيان عسكري بواسطة حسني الزعيم، وتمثل عودته وانتخابه رئيسا للجمهورية في 6 أيلول عام 1955، بداية لمرحلة جديده في التاريخ السوري تخللتها قيام أول وحده عربيه تقوم بارادة شعبيه خالصه في التاريخ العربي الحديث، وواجهت خصوما أشداء من قوى استعمارية ونظم عربية، وقوى حزبية، ولم يكن في رصيدها سوى القوى الشعبيه وحدها.
تبقى ملاحظة، ورد في صفحة 273 تحت عنوان دور مصري للدكتور جورج حبش في محاولة أغتيال أديب الشيشكلي، والعنوان بهذه الصورة يمكن ان يفسر على اعتبار أنه دور رسمي للحكومة المصرية، والحقيقه أنه دور للمتهم الرئيسي في أغتيال (أمين عثمان) الوزيرالأسبق

العقيد أديب الشيشكلي
أطل أكثر من مره في الأحداث
ولكنه لم يترك أثرا في المسيرة

في حكومة النحاس باشا قبل الثورة المصرية. هرب حسين توفيق أثناء عودته من أحدى جلسات المحاكمة، وذهب إلى سوريا وكون مجموعة أخرى للأغتيالات مع زميله عبدالقادر عامر، وتلك قصة أخرى، ولكني أردت فقط الأشارة إلى ذلك للتوضيح.

هذا الكتـاب
يعد هذا الكتاب أحد المراجع الهامة التي تتضمن شهادات لوقائع، ربما لم يلتفت اليها الكثيرون في تلك الحقبه من التاريخ، وقد كانت بالفعل خصبة وثرية، في تحرك الأحداث، وبالتأكيد ليس هناك كتابا واحدا يروي كل شيء، الأحداث وما وراء ألأحداث. لكن يبق أن هناك كتبا وحدها تساهم أكثر من غيرها في القاء الكثير من الأضواء بكل زخمها على حقب معينه في التاريخ العربي.
كانت سوريا دائما محط الأنظار، لقوى كثيره لها مشروعاتها وخططها منها مشروع سوريا الكبرى، ومشروع الهلال الخصيب، وأيضا كانت هناك طموحات لقادة وساسة، وبل ولطبقات أجتماعيه لها تطلعاتها سواء كانت مشروعه أو غير مشروعة، وكانت سوريا كذلك في مرحلة متقدمة هدفا لأحلاف ومشروعات استعمارية غربية، ومحل عراك بين قوى دوليه تتسابق في مد الأيادي بالتعاون أو مد الحبال في التطويق والأذعان، وكان الشعب السوري دائما منتصب القامة شديد المراس وقادر على امتصاص الضربات والوقوف في وجه كل المؤامرات. حفظ الله سوريا ووفقها وسدد خطاها.

 

العدد 101 –شباط 2020