فدوى طوقان، زهرةُ الشعر المُقاوِم

نسرين الرجب- لبنان

        شاعرةٌ من روابي القدس، وُلدت في نابلس( 1917- 2003)، صوتها الشعر وإحساسها الفنّ، في عروقها تنبض ثورة لا تلين على “الغاصبين حقوق الفقراء.. وعلى السارقين جنى الكادحين”، لو كان بيدها أن تقلب هذا الكوكب الأرضيّ لملأتهُ “ببذور الحب، فتعرّش في كلّ الدنيا، أشجار الحبّ…” وهي المُحِبّة لأرضها فيها عاشت وتحت ثراها دُفنت، ولكم تمنّت لو تُبعثَ “عشبًا على أرضها.. وزهرة..”، كابدت في طفولتها من المشاعر المؤلمة الكثير التي وكما عبّرت “نظلُّ نحسُّ بمذاقها الحادّ، مهما بلغ بنا العمر” حُرِمت من التعليم بسبب وردة أهداها لها فتًى في مثل جيلها، عاشت في عُزلة مُكرهةً في مرحلة صباها الطريّ بسبب التقاليد الاجتماعية المُجحفة في ذلك الزمان، طبيعتها الهادئة وتعطّشها للحنوّ ألجآها إلى الأدب والشعر،  فكان أخوها إبراهيم طوقان، الشاعر المُتعلّم خريج الجامعة الأميركيّة في بيروت صاحب القصائد الوطنيّة التي خلّدها التاريخ وما زالت الأجيال التوّاقة لحلم التحرّر تردّدها ومنها قصيدة “موطني”، وبقلبِه الرحيم وفيْض حبِّه أرشدها إلى فضاء النَظْم والنَّهْل من كتب التُراث معينًا يشدّ أزر لغتها

فدوى طوقان

المرتبِكة ومن خلاله “استردّت ذاتها المُحطّمة بأيدي الآخرين”، فكان لمحة الأمل التي انتشلتها من الفراغ ومن ظُلمة الحرمان والعزلة، وبفقدِة عاودتها مشاعر الوحدة: “أخٌ كان نَبْعَ حنانٍ وحبّ/ وكان الضياءَ لِعيني وقلبي/ فهبَّتْ رياحُ الرّدى العاتية/ وأطفأتِ الشعلةَ الغاليةْ”. اشتغلت على ذاتها وأشغلتها بالتعلُّم والبحث عن المعرفة، وأصدرت في حياتها دواوين شعر: “وحدي مع الأيام، وجدتها، أمام الباب المغلق، الليل والفرسان، على قمة الدنيا وحيدًا، تموز والشيء الآخر، اللحن الأخير”، وفي رحلتها الأصعب “رحلة جبليّة رحلة صعبة”، كتبت سيرتها الذاتيّة، وعرفان حبّ إلى ملهمها في “أخي إبراهيم”.

        الرومانسيّة في تجليّاتها

        تمحورَت كتاباتُ فدوى طوقان حتى مرحلة متقدّمة من العُمر حول ذاتها والدائرة القريبة منها، وذلك يعود إلى طبيعة حياتها، التي قضتها في المنزل وبين أحضان الطبيعة التي وجدت فيها مُتنفسها: “كنت أحدّق في الطبيعة من حولي كما يحدّق الرضيع في وجه أمّه”، في عائلة أرستقراطيّة نشأت فدوى فقيرةً محرومة من الحرية ومن الحب، تقول في إحدى مقابلاتها،  وذكرت في سيرتها الذاتيّة “رحلة جبلية، رحلة صعبة” أيضًا: أنّ والدتها حاولت إجهاضها لأنها لم تكن ترغب بمولودٍ آخر. ولقد عانت من تصلّب وقمع العائلة تحت مسمى العادات والتقاليد، حيثُ يحقّ للرجل ما لا يحقُّ للمرأة، وهي القائلة: ” أواه ما أقسى تعطّش الصغار حين ينضبُ/ الحنوّ في الكبار، حين لا/ يُسقى الصغار قطرةً من نبع حُبّ”. كان والدها يحدّثها من غياب ومن خلال والدتها، فكانت تُحسُّ بنفسها كائنًا لا مرئيًّا، هذا الحرمان من عطف الوالدة لم يولّد فيها الحقد بل ظّلت ترى فيها الحياة، “في كينونتي دمُها: يبقى على نهجها بثّي ومنقلبي”، وبموت الوالِد أمسى الموت هو الحقيقة الوحيدة في الوجود: “فموتك ذلٌ لنا أيّ ذلّ/ ونحن هنا بين أفعى وصل/ ونفث سموم/ وكيد خصوم”.

شكّل أخوها إبراهيم نقطة تحوّلٍ في حياتها: “مع مجيء ابراهيم أشرق وجه الله علي”، كانت في الثالثة عشرة من عمرها عندما بدأ بتعليمها الشعر، حتى حاول بعض الأقارب ثنيِه عن مهمّته، ولكنه لم يتأثر بهم، وعبّرت عن تدخّلات هؤلاء في قصيدة “أنا والجلادين”. شكّل هذا الحُب الأخويّ معينًا لها عوّضها عما افتقدته من حنان الأم واهتمام الأب: “كانت عاطفة حبي له قد تكوّنت من تجمع عدة انفعالات طفوليّة سعيدة كان هو مسببها وباعثها، أوّل هديّة تلقيتها في صغري كانت منه. أوّل سفرٍ من أسفار حياتي كان برفقته… كان تعامله معي يعطيني انطباعًا بأنه معني بإسعادي وإشاعة الفرح في قلبي، لا سيما حين كان يصطحبني في مشاويره إلى الجانب الغربي من سفح جبل عيبال”. وبفقدانِه انطفأت الشعلة الغاليَة في حياة فدوى.

        ظلّت فدوى عطشانة للحب وواعية لحاجاتها له، وقد ترجمت أساها في شعرها الوجدانيّ وكتاباتها عن الحبّ: “كن لي أنت الأبَ كن لي الأمّ وكن لي الأهلْ وحدي أنا لا شيء أنا أنا ظلّ وحدي في كون مهجور”. وفي كل تجاربها اللاحقة التي عاشت فيها الحب تقول: ” كنتُ أحبّ كثيرًا، … وفي كلّ مرّة وكأنّها المرّة الأولى، لكن دائما كانت هناك غصّة في نفسي أنّ الرجل لا يحبّني لشخصي، وإنّما لأنني شاعرة، وأستطيع أن أكتب فيه شعرًا”، فهل كان خوفها من علاقتها بالرجل مرجعه إلى غياب صورة الأبّ الحاني والعطوف، وافتقادها لحضن الوالدة وتدليلها: ” ما كانت أمي تدللني، كنت أشتاق لضمها”، فكانت ترى  بأن من يحبّها لا يحبها لذاتِها وإنّما لكونها شاعرة وذات مركز اجتماعيّ وثقافي بيّن؟! لم تتزوّج ولكنّها كما قالت لأختها أديبة: “أصبحتُ أديبةً، وأنجبتُ لكِ الأدب كلِّه”.  كانت تحبّ الأطفال وفيها من رقّتهم الكثير، ولازمها الحب إذ “بدون الحب يغيب عن الأرض السلام”.

كانت تحب العزلة، وذات طبيعة خجلة ومسالمة، تفضل الهدوء والسكينة، وتحلم في ظلّ زيتونة كبيرة، بين أحضان الطبيعة، بأن تعيش مستقلّة ًفي كوخٍ خشبيّ صغير، طبيعتها المسالمة ونقاء سريرتها جعلها في مواجهة العالم الخارجي تُعايش صراع الحب والخوف: ” لم أكن أملك يومًا الطبيعة العراكيّة التي كانت يمكن أن تسعفني في ذلك العالم الغريب على طبيعتي، وأخذتُ أضطربُ بين حبّي للناس وخوفي منهم” فكانت حساسة للمجتمع وانتقاداته وأرجعَت ثرثراته إلى الجهل وعدم القراءة “لذا هم يتحدثون بأشياء تجرح الأخرين”.

        انبِعاث الروح المقاوِمة

        رأت الشاعرة أنه من الضروري أن يتحصّن الإنسان العربيّ بالوعيّ السياسيّ والعقائديّ حمايةً له من الضياع. وحتى مرحلة متقدّمة من حياتها لم تتطرق إلى الموضوعات السياسيّة، وأنّى لها ذلك وهي حبيسة الدار، وليس لها أدنى علاقة بالحركة السياسيّة والوطنيّة؟! كانت تنشُر في بداياتها تحت أسماء مستعارة: “دنانير، والمطوّقة ” تسمياتٌ تحمل في دلالتها معاني سلب الإرادة، بعد نكبة 1948 كتبتْ بعض القصائد، ومع همود القضية همدت كما تقول في مقابلة لها مع (الإعلامي رضا نصرالله، برنامج هذا هو، 1994)،  قبل نكسة 1967 ذهبت إلى بريطانيا لدراسة اللغة الإنكليزيّة وتعلّمها وهناك التقت بسياسيين ومقاومين وقادة كبار واطّلعت على الثقافة والشعر العالمي، وهذا ساعدها على اكتشاف دواخلها والانطلاق نحو العالم، وفي العام 1965 انتقلت للسكن وحدها في وسط الطبيعة وفي بيت مستقل، وهذا مهدّ لها بعد نكسة العرب في العام 1967 الخروج من ذاتها الرومانسيّة حيث كانت مرحلة تشكّل أدب المقاومة مع الشعراء “سميح القاسم، محمود درويش…” وبعد مرحلة من الصمت ومتابعة الأحوال السياسيّة تفجّر فيها الشعر الوطني:” لم أعرف الإحساس الدائم بالواقع والالتصاق الوجداني الملازم بالقضيّة الجماعيّة إلّا بعد حرب حزيران”، حتّى قال عنها الشاعر محمود درويش “أمُّ الشعر الفلسطينيّ”. تحدّثت عن المقاومين وعن التمسُّك بالأرض: “ماضٍ أنا أماه ماضٍ مع الرفاق/ لموعدي/ راضٍ عن المصير/ أحمله كصخرة مشدودة بعنقي/ .. كل ما لديّ.. /أبذله لأجلها للأرض / مهرًا فما أعزّ منك أماه إلّا الأرض” ، وعن حقّ العودة: “أتُغصب أرضي؟/ أيُسلب حقي/ وأبقى أنا حليف التشرد ../ أأبقى هنا لأموت غريبًا بأرض غريبة/ أأبقى ؟ ومن قالها؟! سأعود لأرضي الحبيبة/ سأنهي بنفسي هذه الرواية/ فلا بدّ، لا بد من عودتي” .

        نظرت إلى مصافحة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات ورئيس الكيان المحتل رابين في البيت الأبيض كمتطلّع للسلام، الذي كانت تأمله من دون تنازلات! وهذا ما لم يحصُل. ما رأته وشاهدته ترك فيها أثرًا : قصتها مع  الجندي الإسرائيليّ الذي أخذ تصريحها، بعد طول انتظار لتعبر الجسر من فلسطين إلى عمان لزيارة أختها، وقال لها : “ارجعي من حيث أقبلتِ”

وفي “آهات أمام شبّاك التصاريح” اتّخذت قصيدتها إطارًا سرديًّا لتحكي عن تجربة الجسر المهينة، واشتعال رغبتها بالانتقام من المحتل الغاصِب الذي يصف العرب بالهمج والكلاب ويتحكّم بحريّتهم:

“آه، يا ذلَّ الإسار!/ حنظلًا صرت، مذاقي قاتلٌ/ حقدي رهيب، موغلٌ حتى القرارْ/ صخرةٌ قلبي وكبريتٌ وفوَّارةُ نارْ/ ألف (هند) تحت جلدي/ جوع حقدي/ فاغرٌ فاه، سوى أكبادهم لا/ يُشبعُ الجوعَ الذي استوطن جلدي/ آه يا حقدي الرهيبَ المستثار/ قتلوا الحب بأعماقي، أحالوا/ في عروقي الدَّم غسلينًا وقار!!”

        لم يغادرها الأمل فظلّت ترتجي الحب للعالم: “أعطنا أجنحةً نفتح بها أفق الصعود/ ننطلق من كهفنا من عزلة/ أعطنا نورًا يشقّ الظلمات المدلهمّة/ وعلى دفق سناه/ ندفع الخطو إلى ذروة قمّة/ نجتني منها انتصارات الحياة”. وهي المحبّة لتراب فلسطين أبدًا: “كفاني أموت عليها وأدفن فيها/ وتحت ثراها أذوب وأفنى/ وأُبعث عشبًا على أرضها/ وأُبعَثُ زهرة إليها..”.

العدد 125 / شباط 2022