فصل الشعر وتأويل الموت: في ديوان فصل خامس للرّحيل للشّاعر محمد ناصر الدين

بيروت من ليندا نصّار

يواصل الشاعر محمد ناصر الدين بناء تجربته بتؤدة وبيقظة حسية متوهجة، ولا سيما مع صدور ديوانه الأخير »فصل خامس للرّحيل« عن دار النّهضة العربيّة في بيروت؛ إذ تنبنى قصائده على تشخيصات جمالية لا ترتبط باللغة وحسب، بل باستحضار مكون اللوحة الفوتوغرافية وهي تنفتح على مربعات الكون وهشاشة السؤال الوجودي في عين الطفل، وفضاءات الحياة والطبيعة واليه. إن محمد ناصر الدّين وهو يبث رؤيته الشعرية في اثنتي وأربعين قصيدة، تتّسع من خلالها إمكانيّات التّعبير على مستوى الأنا الواعية وسط صيرورة هذا العالم، وتقترن من خلالها الصّورة الشّعريّة بالفلسفة ليحمّلها سعفات من المعنى، صائغا رؤية تأويلية خاصّة أقرب ما تنزع إلى تأمل عميق لأسئلة الوجود والموت والحياة.

تتأسس جماليات »العمل الشعري« على رمزية تربك المتلقي وهي تنزاح عن التوظيفات المكرورة التي درج عليها شعراء الحساسية الجديدة؛ فالشعر عنده عاشق للصمت، ويحب أن يصنع لنفسه استثناء صغيرا- إذا تم إرهاقه بالعصافير والبحر والرقة- هو الهروب إلى أول متجر لبيع الأسلحة يتحسس بيده الخشنة البنادق اللماعة؛ لتغدو الحياة أمامه مسطحة بل هدفا للرماية« بوم بوم بوم؛ يصبح علامة مسجلة للعنف«. إن الشاعر وهو يكثف من بلاغة السخرية مقدما نصائحه لشاعر محترف بالإكثار من البياضات في إشارة إلى موت الشاعر نفسه، ومن ثمة رفضه لغياب الموقف الشعري الذي يمكن أن يبلوره الشعر لا القصيدة؛ حيث أن تتحول اليد الناعمة التي تتحنن، وتحلم، وتمنح إلى يد تضغط على الزناد، وتقتل، وتدمر. إنها رمزية لا تقف عند حدود الموت الطبيعي بل تتعداها إلى أشكال من الموت الرمزي ولا سيما مع شيوع ثقافة التسطيح ليس في الكتابة وحسب، بل في تمثل العالم أمام حالات الحرب. يقول الشاعر: »يرقد الشعر/ مثل ميت من خلف ستارة/ يبصر نعشه محمولا من آخرين/ تجتمع فراشتان، ووردة، ومطر قديم/ في الهواء والتراب/ وفي بطن الأرض/ ينطق الشاعر عندها: بعض الجداول يحلو لها أن تصنع الربيع«؛ أي ربيع هذا الذي يقتل الشعر، أو ليس الربيع بحاجة ماسة إلى تموز وعشتار والقبلة التي تجعل المطر القديم يخترق الحاضر والمستقبل. كما يعمد إلى هدم الصورة نفسها في قصيدة »السّمكة«: »سيكون موتك/ مثل أختك تماما/ بضربة واحدة/ من أقصى الجليد في الثّلاجة/ إلى أقصى النّار في فرن الغاز«. إن الشاعر يسائل الذات وتموجاتها في علاقتها بأسئلة الشعر وعناصر الطبيعة بمختلف تجسيداتها وهشاشتها أمام تحولات الإنسان نفسه أمامها وصمتها الأبدي. إنها معادلة »الشّعر والصّمت« باعتبارها تأملا عميقا في أسئلة الذات، وعدم الاكتراث بقشور هذا العالم، يقول ميشال بورجواز في هذا الصدد: »إنّ الشّعر مثله في ذلك مثل الموسيقى ذ يعقد مع الصّمت صلة مميّزة. ويعدّ هذا الصمت جزءا لا ينفصل عن الكلام«؛ فالصّمت الّذي تكلّم عنه هذا الأخير، هو من سمات الشّعر الحديث ونلمحه في قصيدة ناصر الدّين في حديثه عنه وربطه بالموسيقى إذ يطرح هذه الجملة الشّعريّة: »الصّمت أجمل من الموسيقى«. لهذا يقبض الشّاعر على لحظات قد تفرّ من علبة الذّاكرة أحيانا، فلا يرى أمامه إلّا القصيدة لتكون شاهدة على الأحداث. فتجده يبحث في تفاصيل الزّمن حتّى لا ينفلت الوقت المستقطع منه، يقول الشاعر: »حين ينغلق الباب برفق في جوف الغرفة/ ينام المريض إلى الأبد/ تحت الأغطية البيضاء….« وكأنّ الشّاعر يعيدنا هنا إلى موضوع الشّعر والحاجة إلى الصّمت وسط هذه المساحات البيضاء. فصمت المتوفّي تحضّر لولادة جديدة، وصمت الشّعراء تحضّر لقصيدة جديدة. هكذا يسير الشّاعر في قصائده عبر خطّين متعارضين، ليخيطهما في نهاية المطاف عند النّقطة المشتركة في ما بينهما: »الصّمت«. وفي الإطار نفسه يمكننا ربط هذه القصيدة بقصيدة أخرى بعنوان »نصيحة لشاعر محترف« بحيث يدعوه إلى الابتعاد عن ثرثرة العالم الّتي يبثّها البعض في قصائدهم فيقول: « أكثِرْ من الفراغات البيضاء فوق الصّفحة كإشارات الطّرق/ فرّق مثلا بين الأحرف السّتّة في سبتمبر/ يمكنك أيضا أن ترسم زهرة عبّاد الشّمس الصّفراء….« هنا يظهر المعنى الحداثيّ لسيمياء القصيدة، حيث يمكننا دراسة الرّموز والرّسوم وعلامات الوقف والإشارات وغيرها للكشف عن دلالاتها الأكثر عمقا.

إن الوعي الجمالي المرتبط بالمسافة الجمالية في الكتابة الشعرية، هو ما يمكن أن نلمسه في نص »الأشجار والشّعر«؛ حيث لا حدود يمكن أن ينبني عليها الشعر بوصفها كتابة تخترق كل ما هو ثابت، وهو سعى إلى اختزاله برؤية شعرية عميقة بين قدرة الشعر على تأويل الطبيعة بوصفها شكلا من أشكال الإقامة في الحياة بأنوارها الساطعة. يقول: »كذلك الشّعر/ مسافة بين الأشياء وأسمائها/ أرقّ من الضّوء في الشّجرة«… وكأنّ الشّاعر يتقدّم بالدّيوان محاولا أن يجد تحديدات وتفسيرات للشّعر، لكنّه يجد أنّ استعارات العالم قد لا تكفي الشّعراء ليعبّروا عمّا في داخلهم من معانٍ.

تسعى قصائد »فصل خامس للرّحيل« إلى كتابة أسئلة الحياة والشّعر والموت والطبيعة والقلق الوجودي في شكل تأمّلات شعرية لا تقف عند حدود الوصف الخارجي بقدر ما تستبطن رؤية دقيقة للهامشي في حياتنا المسطحة التي قلما نلتفت إليها في العادة. فتتناسل تساؤلات الماضي لتستقرّ في عالمه الحاضر، فتقتحم العاطفة هذه المعاني الفلسفيّة الّتي تتمظهر في كتاباته.

إنه فصل الشعر الذي يأتي بعد تعاقب الفصول الأربعة؛ حيث ينفتح الكون الدلالي لنقص الكائن وهشاشته؛ ففي قصيدة »غرفة المريض«، تتبدّى لنا التّفاصيل الّتي تلتقطها عين الشّاعر الدقيقة الراصدة لكل ما لا يرى فيصف السّرير والمريض الحالم بالبحر والأغطية البيضاء التي تربط بذكرى القلب والعيد المؤجل. إن تصوير كثافة الألم في النوم الأبدي تحت الأغطية البيضاء يجعل الموت سلوكا طبيعيا حتى في أقسى لحظات الألم التي يأتي معها الأمل في رؤية باب سري ينفتح من جوف الغرفة. في قصيدته »في ما تقوله المشافي« يقف الشّاعر في مواجهة للمرآة المهشّمة، فيردّ تراجع الإنسان وخيباته إلى الزّمن الّذي لا يحتويه أحيانا. وينطلق في أسلوب آخر من أساليب التّعبير، فيصف المشفى وكأنّه يجهّز له بطاقة تعريف مؤرّخة بزمن الحاضر، لكيما يستطيع المقارنة والمقابلة بينها وبين نفسها تحت إطار المختلف، وأعني هنا الزّمن الّذي يشهد على تحوّلات الإنسان سواء أكانت سلبيّة أم إيجابيّة، بينما يجد نفسه خاضعا لصيرورة الأشياء، متأرجحا بين العالم الماديّ والعالم الرّوحانيّ، فيتّضح وجه المقارنة: المشفى نفسه، الغرفة مختلفة، الاسم اختلف… هنا تأتي الذّكريات على عجل لتذكّره بخطى السّائرين على درب الموت. ويبقى الجامع هو الشّعور بالمعاناة الّتي يشعر به المريض. فتحمل الذّكريات له تناقضات هذا العالم. مع ناصر الدّين لا تفسير للموت كما لا تفسير للشّعر. وهذا الأمر يدفعنا لنقول مع هيدغر: »الموت ظاهرة يجب فهمها وجوديّا«/ و«مع الموت يقف الوجود الإنسانيّ أمام ذاته في إمكانيّته«. وهذا ما اتّجه إليه الشّاعر حين اعتبر نفسه أكبر من الحزن بسنوات، وهل ثمّة حزن أكبر ممّا يسبّبه الموت للإنسان؟

 وتبقى قصيدة »فصل خامس للرّحيل«، عنوان الدّيوان، الخيط الّذي يشبك القصائد الأخرى، فالرّحيل مهما كانت أنواعه لا يمكن إلّا تشبيهه بالسّواقي الّتي لا بدّ لها من أن تصبّ في النّهر العظيم وهو الموت. وهنا نقصد الموت الفلسفيّ في عيون الشّعراء والّذي يشكّل جزءا من معرفة الحياة. إنّ إقامة الذّات الشّاعرة بين الواقع والمتخيّل تدعو الشّاعر إلى خلق مسافة بين رغبة الذّات اللّاواعية بالأشياء ورفض بعض تفاصيل الواقع والتّعبير عن الرّغبات الإنسانيّة باللّجوء إلى عنصر التّخييل الشّعريّ، من هنا ولدت القصائد على شكل متناقض ومتوازٍ أحيانا.

الشاعر محمد ناصر الدين

غلاف »فصل خامس للرحيل