فقدان الذاكرة في فيم “الأب” من بطولة انتوني هوبكنز

 خرجنا من الصالة بصمت كأننا دخلنا فجأة في عزلة لم تكن في الحسبان

 ملبورن ـ جاد الحاج

قاربت السينما العالمية مسألة النسيان لدى كبار العمر بحذرٍ موصوف، لئلا يتعرض الشريط الى نقد قد يكون مدمراً في بعض الحالات. إلا أن السنوات الأخيرة عرفت معالجات جسورة لتلك المسألة العويصة والغامضة، ففي الفيلم الفرنسي “حب” تفقد الزوجة سيطرتها على تركيزها الذهني بضربة واحدة لا فرار منها إذ   رأيناها تتدهور بسرعة أدت الى شبه انهيار عصبي لدى زوجها وفي النهاية ما استطاع ذلك الزوج الاستمرار في خدمتها والاهتمام بها فحمل إحدى مخدات سريرها وأطبق بها على أنفاسها حتى فارقت الحياة.

وأخيراً جاء المخرج الأميركي   فلوريان زيللر ليعالج المسألة من زاوية أخرى لعلها أكثر عمقاً وتأثيراً ولو على حساب نقله الحالة الذهنية من بطل الشريط (انتوني هوبكنز) الى المشاهدين فعرضنا  الى انكسار قلبيّ وعواطف متضاربة أكثرها سلبية ذلك الخوف المروع من فقدان الذاكرة.

في المحصلة النهائية نحن أمام شريط يتصدى الى مسائل دقيقة لطالما تجنبها غيره فبقيت معلقة حتى إشعار آخر. في المشهد الأول نلتقي الثمانيني انتوني محصوراً في شقته اللندنية، ويخيل إلينا انه سيؤدي دوراً خفيفاً وهادئاً وعلى قدر معقول من الشفافية. لكن زيللر يقتبس من مسرحيته شريطاً سينمائياً مع كريستوفر هامبتون وليس لديهما أي مشروع يجيب على توقعات المشاهد من ناحية المقاربة الملطفة. بل سوف يغوصان الى ابعد مما ظهر على الحشبة عبر تقنيات السينما الحديثة.

  آن (أوليفيا كولمان) ابنة انتوني تصل الى الشقة لتخبر والدها انها ستنتقل الى باريس لتنضم الى شريك جديد يعيش هناك. وتأتي ردة فعل انتوني في البداية دهشة سلبية ثم تتحول الى كآبة مؤثرة. بالطبع تتأثر آن وذلك لأن انتوني طرد الراعية الاجتماعية التي كانت تهتم به واتهمها بالسرقة وعلى  آن ان تجد بديلاً منها. وما أن تغادر الشقة حتى يسمع انتوني صوتاً ما في غرفة الجلوس فيذهب ليجد هناك رجلاً غريباً (مارك غاتيس) يطالع صحيفة. يدّعي الرجل انه زوج آن وأن اسمه بول. لكن أليست آن مطلقة؟ ولماذا يقول الرجل ان انتوني هو ضيف في بيتهما؟ لحسن الحظ ان آن رجعت ولكنها الآن امرأة أخرى (أوليفيا ويليامز) لا نعرفها ولا يتعرف عليها انتوني. وبعد قليل يظهر روفوس سويل كأنه تقمص شخصية بول ولكن بغضب واضح وبعض الصفاقة مما يدفع بإيقاع الشريط نحو أفق آخر لم نكن نتوقعه: هل نحن في سياق التماهي مع مخيلة انتوني المضعضعة؟  وإن كنا كذلك كيف نستطيع التفريق بين تصوير الحالة من الخارج وبين معايشتها من الداخل؟

لدينا هنا عملية صهر بين التغريب الإبداعي وبين حيثيات معروفة في علم الدراما النفسية. ولذا نرى أنفسنا أمام معالجة قاسية لكنها قريبة جداً من الحقيقة والواقع. وسوف نرى الاشياء تتداعى: خصوصاً الأشخاص الذين يعيشون في عالم مليء بالحالات المنزلقة والمبهمة. وتأتينا تلك الظاهرة عبر صراع انتوني مع الزمن والذاكرة، فساعة يده هي المؤشر الحاضر الغائب طوال الوقت. تارة يجدها وطوراً يضيعها وفي كل مرة تتغير حيثيات المشاهد وتتحول الدوامة الى مستنقع لن نلبث ان نغرق فيه كمشاهدين حتى النهاية.

لأنتوني ابنتان: آن ولوسي. لكننا لا نرى لوسي. نسمع عنها وفي كل مرة نشعر بإسراء نحو عالم آخر، ملتبس، وبعيد. ربما يستطيع بعض المشاهدين إقامة لحمة بين المشاهد على الرغم من تفككها وتباعد عناصرها إلا أن النتيجة واحدة فذاكرة انتوني تنتهي الى خاتمة قاسية لا تزودنا بأجوبة بقدر ما تقودنا الى مزيد من الحيرة.

نعرف ان انتوني هوبكنز ليس ممثلاً حركياً من الناحية البدنية وأن سحره الحقيقي محصور في وجهه المعبِّر، إلا أنه في هذا الفيلم يدفع نفسه بحزم كي يقيم توازناً بين ما يحصل في كيانه وما ينفعل في جسمه. ليس الخرف ما يجعله منكمشاً، بالعكس نراه يندفع ويستجيب ويغضب ويحنق وينكفئ الى كآبة عميقة. إنها لعبة شيطانية من حيث الأداء الدرامي، غير انه استطاع الخروج منها بأوسكار أفضل ممثل لسنة 2021.

ولد انتوني هوبكنز في 31 كانون الأول سنة 1937 في مقاطعة ويلز وكان والداه من تابعتين: انكليزية وويلزية. وتأثر بالممثل ريتشارد بيرتون وقرر الالتحاق بمعهد الموسيقى والدراما حيث تخرج سنة 1957. وانتقل الى لندن سنة 1965 والتحق  بالمسرح الوطني بناء على دعوة من لورانس أوليفييه الذي رأى فيه   بارقة أمل إبداعية ودأب على رعايته والتعاون معه لاحقاً. سنة 1967 صوّر هوبكنز أول فيلم له للتلفزيون بعنوان “بعوضة في أذنها”. ومذ ذاك يمكن القول انه  ارتبط بالتلفزة والسينما على مدى السنوات الثلاثين اللاحقة. سنة 1968 شارك تيموثي دالتون في فيلم “الأسد والشتاء” تبع ذلك عدد من النجاحات المميزة حيث أظهر انتوني مميزات أدائية ثابتة وصلت آثارها الى أربعة أقطار العالم. سنة 1977 ظهر في فيلمين كبيرين: “الجسر البعيد جداً” مع جايمس كان وجين هاكمن وشون كونري ومايكل كاين وإليوت غولد ولورانس أوليفييه وأيضاً ماكسيمليان شيل. سنة 1980 شارك في “الرجل الفيل” ثم عمل على فيلمين للتلفزيون مأخوذين من “عطيل” لشكسبير و”أحدب نوتردام” لفيكتور هوغو. سنة 1987 حصل انتوني هوبكنز على ميدالية الامبراطورية البريطانية لقاء مساهمته الملحوظة في عالم الدراما والتمثيل. وفي السنة نفسها لعب الدور الرئيسي في “84 شارع شيرينغ كروس” وسنة 1993 جعلته الملكة إليزابيث واحداً من فرسان الامبراطورية البريطانية.

في تسعينات القرن الفائت قام هوبكنز ببطولة أفلام مميزة جداً بل يمكن اعتبار بعضها من الاعمال الخالدة: “الساعات الحاسمة” و”نهاية هوارد” و”بقايا النهار” الذي رشح للاوسكار و”أساطير الخريف” ثم قام بدور  نيكسون في فيلم بعنوان “نيكسون” عن حياة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون. ثم حاز أوسكار أفضل ممثل لدوره في “صمت الخراف”… إلا أن براعته المختمرة لم تظهر بكامل إمكاناتها في الأداء الرائع الذي شاهدناه في فيلم “الأب”.

في أحد المشاهد يصرخ بول في وجه انتوني قائلاً: “هل ستستمر في تدمير حياة ابنتك؟”. صحيح ان بول يلعب دوراً قصيراً في الشريط لكنه دور محوري يؤدي الى تصعيد الحالة الداخلية لدى انتوني الى حد الرعب. وفي مقابلة أخيرة له اعترف هوبكنز ان الدور كان منهكاً وقد ذكّره كثيراً بالموت… إلا أنه لم يكن الوحيد الذي أحس بذلك الشعور الكالح، فالمشاهدون أيضاً خرجوا من الصالة بصمت وكأنهم فجأة دخلوا عزلة لم تكن في الحسبان.

العدد 118 / تموز 2021