فلسطين القضيّة التي لا تموت

نسرين الرجب- لبنان

        “صاحب الحق سُلطان”، ولكن في فلسطين المحتلة لم يعُد بمقدور الحق وحده أن يُعطي لأهلها سُلطانًا؟! فالمُحتل الإسرائيلي ما برِح يطمح ويطمع في الاستيلاء على الأراضي والأملاك الفلسطينيّة، تُسانده في ذلك الدول الأجنبيّة الكُبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية بالتجاهل أحيانًا وبالتبرير في كثير من الأحيان. لماذ يتحكم الأراذل في مصير أصحاب الحق، ويُجاهرون بكل وقاحةٍ بالسرقة سرقة البيوت من أصحابها والتصريح بأنه إذا لم يسرق أحدهم اليوم المنزل من صاحبه فسيقوم مُستوقح آخر بسرقته؟! أيّ شرائع هذه التي تحكم عقوول البشر، وكيف بالإمكان أن يمشي العالم وفق مشيئة هؤلاء؟!

        لقد تابع العالم وعلى مدار أسابيع من شهر أيار الفائت قضية حي الشيخ جراح في مدينة القدس، ثم مدد الصواريخ قادمًا من غزة ، بغض النظر عن أي تحليلات سياسيّة أو استراتجية – والتي بالطبع لها أهلها- كانت هذه الصورايخ بمثابة الإنذار للكيان المحتل، والذي كعادته لا يملك سوى قتل الأبرياء المحصنين في منازلهم؛ أبراج شاهقة دُكّت بمن فيها، عائلات فقدت الكثير من أفرادها، ولم يستسلم الغزاويون بل ازدادوا إصرارًا. في أماكن كان هناك تعب وألم، يتعب الناس من االحرب، وهذا طبيعي، يُصابون باليأس ويرجون الخلاص لأن الأمان حاجة طبيعيّة وضروريّة وحق من حقوق الإنسان، وفي لحظات الشعور تبكي امرأة وتقول “تعبنا”، فيُطالبها الجمهور المناصر للقضيّة الفلسطينيّة والمُحصن خلف شاشات مواقع التواصل الاجتماعي بالصمت وعدم بث الخطابات الاستسلامية، لا يفهم معظم هؤلاء ما معنى أن تُصبح في العراء، ما معنى أن تركض في كل الاتجاهات حاملاً أحباءك تريد حمايتهم من ضربات العدو التي لا تميّز بين طفل وعجوز، تريد أن تصرخ فيما العالم يقول لك تألّم أكثر حتى نتعاطف معك أكثر، فيُعطيك العدو بغيتهم، وتتكرر أمامك مشهديات الفجيعة.

        بعد أسابيع من المواجهة تصل الأطراف إلى هدنة، فكان وقف إطلاق النار الذي توافقت عليه فصائل المقاومة الفلسطينيّة في قطاع غزة والكيان الإسرائيلي بوساطة مصريّة، وفي تلك اللحظة كان هناك مشهدان متناقضان تمامًا على الأرض، مسيرات وتجمعات احتفالية في غزة ومدن الضفة الغربية المحتلة بانتصار المقاومة، يقابلها مشهد إسرائيلي داخلي يغلب عليه تبادل الاتهامات بشأن ما وصفوه بالفشل!

  تبث مكبرات الصوت من على المآذن تهليلات وتكبيرات العيد، يصدر الغزاويون أشتاتًا ليحتفلوا بالنصر، نصر المقهور على القاهر، وقياسًا على حجم الخسائر في المال والعتاد، لا يبدو هذا النصر مفهومًا لدى الكثيرين، ولكن قد تنعكس الرؤيا إلى العالم في مفهوم مقاومة المُحتل والانتصار عليه أغنية ثوريّة وسيرة مُناضلٍ لم يكُن عاديَّ الحضور؟.

        والي نسي أرضه يمّي.. يعدم حياته..”

        في أغنية “على طريق عيتات”، والتي كتب كلماتها وألّف موسيقاها وأدّاها المؤلف الموسيقي والمغني السياسيّ وليم نصار، وقد كتبها لتكريم سيرة صديقه الشيوعي أنور ياسين، الذي اعتُقل في سجون الاحتلال الاسرائيلي لمدة 19 عاما، وعلى الرغم من خصوصية هذه الأغنية إلا أنها تتجاوز الحدود لتخص كل ثائر ومقاوم، فهي تحمل معاني الإيثار والتضحية التي يحملها المقاوم اتجاه شعبه وأرضه في مقطع يقول: “ويا ريت عيني نهر يمي وشرّبن منه/ ويا ريت جسمي جسر يمي وقطّعُن عنه”

ومن المقاطع الكثيرة المعنى: ” قالو شو هم نموت يمّي وتبقى القضية” في بلورة مفهوم الاستهانة بالموت لشعب ذاق ويلات الاحتلال، وتعرّض للقتل والترهيب، وخسر ماله وولده ولا يزال يدفع الثمن من روحه وأرضه، فلا يتوقف عن المحاولة في ردّ كيْد العدو وعدم الاعتراف بسُلطته الغاشمة: ” نحنا شفنا العذاب يمّي ودقنا حلاته/ ويللي نسي أرضه يمّي يعدم حياته” فنسيان الأرض هو كالامحاء من الوجود، لذا يتعالى الفلسطينيون المقاومون على جراحتهم وعلى عذاباتهم ويقفون فوق أنقاض بيوتهم المهدّمة ليفتخرون بأنهم استطاعوا صدّ هذا العدو الذي يمتلك من العتاد ما يفوق مقدراتهم ولا يمتلك من الحقوق ما يملكه أصغرهم.

        باسل الأعرج، المثقف المُشتبك

        نشرت وسائل إعلام فلسطينيّة صورًا لصواريخ أطلقتها المقاومة الفلسطينيّة، تحمل أسماء بعض المناضلين الفلسطينين الذين اسُشهدوا على يدّ قوات الاحتلال، ومنهم الشهيد باسل الأعرج،  وعليها عبارة أنّ صاروخها “كالباسل، لن يضلّ الطريق”.

        “بدك تصير مثقف بدك تصير مشتبك، ما بدك مشتبك بلا منك وبلا من ثقافتك.” بهذه الكلمات أرسى الشهيد باسل الأعرج خطابه ومثّله واقعًا وسلوكًا.

        كان باسل الأعرج ناشطًا ومدوّنًا فلسطينيًا من مواليد العام 1984، من قرية الولجة والتي تقع قرب بيت لحم، إلى جانب دراسته للصيدلة وعمله بها، عُرف منذ العام 2009 بصفته محرّكًا أساسيًا لعدد كبير من الاعتصامات والمظاهرات الاحتجاجيّة ضد سلطات الاحتلال الصهيونية، واتفاقية أوسلو ومحاربة التطبيع، ومقاطعة البضائع الصهيونية، آمن أن الجهاد والبندقية هما معيار الهويّة للمثقف، ومن دون العمل الجهادي يصبح المثقف بلا هويّة، وربط أقواله بأفعاله فكان المثقف المشتبك الذي ختم مساره النضاليّ بالشهادة، فاستشهد في 6 آذار من العام 2017، عندما اقتحمت  قوات الاحتلال منزلاً كان يقطنه وقتلته واختطفت جثمانه، بعدما اشتبك الأعرج مع القوات المهاجمة حتى نفاذ ذخيرته.

        في كُتيب جُمِعت فيه خلاصة نصوص نشرها في حساباته الشخصية وفي مدونات ومواقع إلكترونية، بعنوان “صوتي واضح” وهو صادر عن دار المودة (2019)، يتحدّث باسل عن الوعي وعن المقاومة، وأنت تقرأ له تجد أمامك نموذجًا قيّمًا من الشباب الواعي ذو العقل القيادي، بلغة حكيمة وثقافة ملمّة بحيثيات المسألة الفلسطينية وبأوجه الصراع داخلها وخارجها، يُدير باسل النقاش، مؤمنًا إيمانًا راسخًا أنّ فلسطين هي القضية المركزيّة، والكلمة الرئيسية في الحرب هي: “اقتل عدوك حتى لا يقتلك”. كان مثقفًا فاهمًا عقليّة وأيدلوجيّة العدو، عمل على توظيف كل الأنشطة المدنية والكتابية ومحاضراته وجهاده في نقدّ العدو والنضال لأجل فلسطين، وتوثيق جرائم الاحتلال، كان لباسل طرحه المتقدم في توضيح فلسفة الشهادة من خلال الفكر والمعتقد الذي يؤمن بفلسفة انتصار الدم على السيف، فكانت فكرته تتمحور حول ” تصور فلسفي للإنسان ومكانته ووظيفته الكونيّة، وهو ما يستتبع إمّا إيمانًا بحريّة الإنسان ومساواة بين البشر، أو عبودية وخضوع ولامساواة”.

        انطلق باسل من فكرة أنّ هذا الصراع “وجوديّ استعماريّ احتلاليّ استيطانيّ”،  لن ينتهي إلا بنهاية أحد الطرفين، أو رضوخه لاشتراطات الآخر، ورأى أنّ سرّ النصر هو أن تستهين بمقدرات عدوّك، وأن تنصر المقاومين من إخوتك وشعبك فالعدو الذي ينعت المقاومين بالإرهابيين والمُخربين مُتقصّدًا إرساء هذه اللغة ليرسِّخ في ذهن الشعب المقهور بأن ردود أفعاله في قتلهم وتدمير ممتلكاتهم هي بسبب هؤلاء المقاومين.

        أثقل باسل ميزان القِوى لصالح خيار المقاومة والثورة فأوضح أن الخسائر الماديّة ليست معيارًا لانتصار هذا العدو الغاشم: “نحن أقدر منهم بكثير على دفع الفواتير، فلا داعي للمقارنة أو أن تهتز لحجم الأرقام.”  فرأى أنّ الإسهاب في الحديث عن الدمار والويلات والخسائر يُوازي ” إعادة إنتاج البروباغندا الصهيونية” وهو تبني للخطاب الاستسلامي الذي يهدف إلى إضعاف الروح المعنويّة لدى الشباب الثائر، من هنا ضرورة الاستهانة بمقدرات العدو كملمح من ملامح القوّة، وطريق إلى تحرير العقل من سلطة هذا العدو، وهذا ما تُفسّره الابتسامة على وجوه الشبان والشابات الفلسطينيين لحظة اعتقالهم من قبل سلطات الاحتلال.

        كان باسل جريئًا في الطرح ولم يكن متعاميًا عن فساد الداخل فتحدث عن الفساد السياسي وعن سلوكيات بعض الأحزاب والفصائل المسيء للثورة وعن سطحية بعض المنضمين لها لغرض الاستفادة وليس المساهمة في النضال، عن تجار الذكريات مدعي البطولة: “انتو بدلتوا النضال بالابتذال،  وبدلتوا الخنادق بالفنادق”.

        هذا الاحتفاء بجعل المحتل يتراجع ويرتجي هُدنة هو بمثابة نصر وعزاء يُثلج القلوب المفجوعة بالفقد،  والحديث عن السلام والتصالح الفلسطيني الإسرائيلي هو ضربٌ من الهراء، ومحاولة لإدخال الهزيمة في نفوس أصحاب الحق، فهذا العدو لم يدخل الأرض بسلام ليفهم لغة السلام هو دخلها طامعًا مستبدًا وخطّط لسرقاته من النيل للفرات، متحصنّا بخُرافة الهولوكوست فيما هو  يقيم المحارق ويفتعل الجرائم بالأبرياء يوميًا من دون رحمة، ولذا فالحل هو زوال ما يُسمى بإسرائيل حتى يعود السلام إلى أرض السلام ويتمكّن الناس من العيش بطريقة طبيعيّة كما يعيش أيّ شعب في أرضه ووطنه آمنًا منعّمًا، ولا يُمكن حدوث ذلك من دون الوعي المُقاوِم ومن دون الكفاح المُستمر والمُتواصل “مش نقعد نردح ونطالب بحماية” كما قال الشهيد باسل، وأيضًا: “لا تحلموا بعالم سعيد ما دامت إسرائيل موجودة” .

العدد 118 / تموز 2021